البيان الشعري الجديد: من أجل كتابة شعرية كونية
نور الدين محقق
-1-
في الشعر قوةٌ ميتافيزيقيةٌ كبرى حتى وهو يتناول أبسط الانفعالات الإنسانية وينزل إلى الأرض متابعا الحالات الإنسانية العادية حيث الناس يعيشون ويأكلون ويلعبون. فإذا كانت الفلسفة بكل تاريخها الرمزي الكبير قد نزلت من عليائها وتناولت الأمور البسيطة في الحياة وسعت لدراستها وفق مناهج فكرية جديدة، فإن الشعر كان قد سبقها إلى ذلك. فنحن حين نقرأ شارل بودلير بكل رمزيته القصوى نراه يرتبط بالحياة اليومية الباريسية ويعيد تشكيلها بطريقة شعرية جديدة بعيدا عن التهويل الشعري الذي انتهجه فيما قبل فكتور هوغو، ونحن حين نقرأ غارسيا لوركا نرى في شعره أثر الأهازيج الشعبية الإسبانية بكل تدفقاتها البسيطة، ونحن حين نقرأ جاك بريفير نراه يسعى إلى تصوير كل ما في الحياة اليومية من مواقف، بدءا من الحياة في المدرسة ووصولا إلى الحياة وهي تمشي ضاحكة في الشارع. هنا قدرة الشعر على التنوع وعلى الاختلاف وعلى تحقيق التجاوز، تجاوز كل منطلقاته المتعالية باستمرار.
-2-
قد يُحلق الشعر أيضا في متاهات اللامعنى ويترك للكلمات أن ترسم استعاراتها اللامحدودة بحيث لا يستطيع المتلقي بمختلف أنواعه أن يلحق بها إلا وهو يركب صهوة التأويل، فنراه يغوص في رحاب الأساطير ويسعى للغوص في دروبها خالقا منها مساحات فنية جديدة، بحيث تتحول وهي تتشكل فيه إلى صور كبرى تربط الذات بالآخر على مستوى التصوير الرمزي اللانهائي. هنا نستحضر تجربة ستيفان مالارمي وكيفية تشكيل الكلام الشعري في ثنايا قصائده التي تتعب الفهم العادي وتدعوه للتأمل في علاقات الكلمات فيما بينها وفي المعاني الجديدة المتوترة التي قد تنبثق منها وقد لا تنبثق أبدًا. هنا تكفي التجربة الشعرية أن تأخذ مداها وهي تنوجد في صلب كلمات لا تحمل معنى محددا في ذاتها بل تحيل إليه وهي تُؤسس سياقا شعريا غير مألوف من قبل في اللغة الشعرية السابقة عليها. الشعر هنا، كأنه يسعى إلى أن يبتعد عن الحياة اليومية العادية ليخلق حياة شعرية لا وجود لها على أرض هذه الحياة اليومية التي تبدو سهلة المتناول في نظره. ومن هنا، فهو يفتح مسارات شعرية أخرى في طريق الشعر، إذ لا يمكن للشعر في كليته أن ينحصر في تيارات مُحددة له مسبقا. إنه يوجد في الشيء وفي ضده في الآن نفسه، وهنا تكمن صعوبة كتابته، وربما أيضا عملية قراءته أيضا.
-3-
كتابةُ الشعر كتابةٌ متعددة النوافذ التي يطل الشاعر منها على العالم دون أن يسعى لكي يصبح مرئيا من لدن الآخرين. ذلك أن كتابة الشعر هي رغبة في الخفاء لا رغبة في الظهور. كتابةُ الشعر حالة وجودية تستعصي على الإدراك البسيط، لأنها حالة مُركبة من الشعور واللاشعور في الآن نفسه. إنها رؤية الذات في مرآة الحبر بتعبير خورخي لويس بُورخيس، وهي لزوم ما لا يلزم بتعبير أبي العلاء المعري، وهي دعوة للمستحيل بتعبير رولان بارت وهي قبل هذا وذاك، تجربة الحياة وهي تلبس ثيابا من حروف وكلمات. كتابةُ الشعر هي عنفوان التخييل حين يتجاوز مداه، وهي رحلة الروح في أقاصي الجسد، وهي منبعُ الرؤى والهلوسات اللامفهومة. هي كل هذا وهي بعض منه ومن غيره. كتابة الشعر هي صياغة الذي يتمنع عن الصياغة وهي خلق الألفة في غرابة الكلمات والأشياء وهي تأليف الغرابة في رحم اللغة التي تتجاوز ألفتها العادية لتنحاز إلى التوتر الكلامي. كتابةُ الشعر هي محاولة للإمساك بالذي يأتي ولا يأتي. بالذي يظهر ويختفي، وبالذي يُقال والذي لا يقال. كتابة الشعر هي عملية القبض على وهج الكلمات في عز نارها وهي إعادة بنائها وهي تغوص في الثلوج الغامضة. كتابة الشعر هي وضوح الغامض وغموض الواضح وهي مكانة لا تقبل البين-بين. هي إما أن تكون شعرا أو لا تكون. وهو ما يجعل منها كتابة عصية على من يرومُها، ويجعل منها منتهى الرغبات.
-4-
لا يكتبُ الشعر دفعة واحدة بل يأتي بعد دفقة شعرية أولى تُعاد كتابتها بشكل مستمر ولا تُترك كما هي إلا إذا كانت قد اختمرت في الذهن على نار هادئة، ثم بعد ذلك تولدت في شكل كلمات مُحكمة الصنع، فالشعر هو وليد الكتابة وإعادة الكتابة، وهو بالتالي وليد الحذف المستمر والتغيير اللانهائي بحيث حتى وإن خرجت القصيدة إلى الوجود واختير لها أي مفهوم من المفاهيم الشعرية لتسميتها، مثل وصمها بالكتابة الشعرية في تعدديتها واختلافاتها وتجاوزاتها غير المحدودة، أو حتى حصرها في نوع شعري محدد، فإنها تظل مع كل ذلك متدثرة بالنقصان ، ذلك أن الشعر هو وليد النقصان اللانهائي وابن للغة غير المكتملة لكن الباحثة عن اكتمالها بشكل من الأشكال التعبيرية القوية . هكذا هو الشعر وهكذا هي الكتابة الشعرية التي لا يُمكن تحديدها أو القبض عليها إلا مجازا وليس حقيقة. الكتابة الشعرية من هذا المنظور الفني العالي، هي عملية بحث دائم عن تحقق لغوي ودلالي مستحيل. وفي استحالته هاته تكمن شاعريته القصوى.
-5-
الشعر لا حدود له، فهو يحضر في كل الأجناس الأدبية، لكنه يعلو عليها جميعا، حين يلج إلى جنسه الخاص به. ذلك أن الشعر يصهر في بنيته كل اللغات الأدبية ويحولها إلى لغة شعرية متعالية مليئة بالمجازات التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد في اتصالية لا متناهية. ومن ثمة، فلُغته الشعرية هي لغة منغلقة على شعريتها الداخلية حتى وهي تنفتح على مختلف المعاني والدلالات. لأنّ الشعر ينبثق من لاوعي اللغات ذاتها ويُدمجها بوعي فني عميق في نسيجه الداخلي كي تصبح مُعبرة عنه بكل قوتها وبكامل انصهارها البنيوي في بنيته الخاصة به. لهذا حتى وإن تعددت الكتاباتُ الشعريةُ وتنوعت في مضامينها وطريقة تعبيرها، فهي تظل في العمق لغة واحدة تتميز بقوة الشعر الحاضر فيها عن طريق تحقيق بنية التوتر فيها وتكسير كل البنى النحوية والدلالية العادية والسير بها نحو لغة تتميز بالانزياحات التي تخترقها من كل جوانبها. من هنا، تكون الكتابة الشعرية كتابة انزياحية للغة المعهودة ولكل بنياتها المتعارف عليها، بغية تشييد، انطلاقا من هذه العملية الانزياحية ذاتها، لغة أخرى جديدة هي لغة الشعر بامتياز.
-6-
يبحث الشعرُ عن الجمال الخفي الساكن فيه وهو يبني بالحروف والكلمات عمارات شاهقة من منه، أو وهو ينحني على تشييد ولو عربة صغيرة من هذه العمارة الشعرية الكونية. ذلك أن الشعر هو كوني بطبيعته. وهو في كتابته يخلق أفقًا كونيا لاستقباله، ذلك لأنه يخاطب الإنسان الكوني ولا يقتصر على مخاطبة كل إنسان على حدة. الشعرُ يغوص في المشترك الإنساني العميق ويتأسس انطلاقا منه، وهو في عملية كتابته يتجاوز لعبة المساحات الفضائية التي ينكتب فيها ليخلق مساحاته الخاصة سواء كتب على الورق أو على غيره من الحوامل الخشبية حينا والإلكترونية حينا آخر، أو حتى وهو يُقرأ من خلال صوت كاتبه أو أصوات غيره. فالشعر هو لغة الكون بأسره وهو يتجلى قويا حتى الترجمات التي تُنجز له إن هي استطاعت أن تقبض على الروح التي تسري فيه ولم تكتف فقط بنوع الأدبية التي يرتديها أو حتى شكل اللغة التي يُكتب بها وفيها. من هنا تأتي كونية الشعر ومن هنا يحضر إشعاعه الباهر والمبهر في الآن نفسه.
-7-
في الكتابة الشعرية ألم باطني لا حدود له، يُولد طاقة ذهنية في الذات، تجعل من الشاعر يكتب ما لا يُستطاع في الحالات العادية، وفيه أيضا فرح طاغ لا إمكانية لإسكاته فينفجر في رحم الكلمات ويدفع بها إلى الإعلان عن وجودها اللانهائي في صياغة لغوية غير معروفة من قبل. إنه يحرك فيها سواكنها ويسكن فيها مُتحركاتها حتى تشعر بقوة جاذبيته فتنصاع إليه وتذهب معه إلى حيث يريد هو الذهاب. تذهب معه إلى أقاصي التخييل وإلى مناطق المعنى اللامحدود واللامقيد بتراتبيات مألوفة في الكلام العادي. من هنا تكون الكتابة الشعرية كتابة اختلاف وكتابة تجاوز مستمر وتكون بنيتها هي بنية الاختلاف والتجاوز، فلا كتابة شعرية حقيقية بدون اختلاف يسكن فيها ولا كتابة شعرية بدون تجاوز يكون الهدف من وجودها والأمل الذي تصبو إليه وترغب في عملية إنجازه وتحقيقه. الكتابة الشعرية هي وليدة شرعية لكل اختلاف ولكل رغبة في تجاوز ما سبقها من كتابات أخرى. وهو ما يجعل منها كتابة فريدة.
_________
*كتب البيان الشعري الأول سنة 2006 ، ونشر في منابر مغربية ومشرقية عديدة.