مصطفى النيسابوري.. في صداقة الصمت والعزلة
باريس- المعطي قبال
حين يقرأ أو يترجم الشاعر شاعرا آخرا، يكسب الشعر ذخيرة جديدة من الكلمات، كثافة رمزية إضافية وطاقة غير مألوفة على التجلي. ولنا في ترجمات غيلفيك، فيليب جاكوتيت، ريلكه، بوريس باستيرناك، تسفيتيفا، بيرنار نويل وغيرهم أحسن مثال.
في الثقافة العربية ثمة أسماء شعرية وازنة مررت الشعر الحديث بمختلف لغاته إلى العربية. ويعتبر الشاعر محمد بنيس من بين المترجمين الذين نقلوا وأضافوا إلى حداثة الإبداع الشعري العربي، حداثة كتابة مغايرة، في نطقها، مخيلها وتراكيبها. وقد أصبحت هذه الحداثة بنوع ما مرجعا تنهل منه الكتابة الشعرية العربية. وفي صداقة الحوار والترجمة التي أسسها رفقة الشاعر بيرنار نويل، مادة ونموذج لصداقة الترجمة أيضا بما هي هبة وهبة مضادة بحسب مارسيل موس. فعادة ما يميل المترجم إلى الموتى أو إلى الأصدقاء. أما الترجمات تحت الطلب فعادة ما تكون سريعة ورديئة. إن عكف، لوقت طويل، محمد بنيس على ترجمة بعض من نصوص بيرنار نويل، فإنه جند نفسا خاصا لترجمة الكاتب والشاعر مصطفى النيسابوري. وترجمته لديوان «نجمة نائية» (منشورات توبقال في 215 صفحة)، يعتبر بحق حدثا ثقافيا يستحق كل العناية. أولا بالنظر إلى مكانة مصطفى النيسابوري في الحقل الشعري ثم ثانيا اعتبارا لتجربته الاستثنائية في الشعر والفن التشكيلي. إذ يبقى النيسابوري شاهدا على ديناميكية الثقافة المغربية في بداية السبعينيات وبداية الثمانينات. وهي مرحلة كانت عبارة عن مختبر للأفكار والإبداع الإعلامي والفكري، مع مجلة “أنفاس” وهو أحد مؤسسيها إلى جانب عبد اللطيف اللعبي، مختبرا للبحث السوسيولوجي والأنثروبولوجي والاقتصادي، مع بول باسكون، عبد الكبير الخطيبي، عبد الله الحمودي، عزيز بلال، فاطمة المرنيسي وغيرهم. هذا دون الحديث عن ريادة التجربة التشكيلية مع محمد شبعة، محمد المليحي، فريد بلكاهية، الشعيبية وغيرهم… وكان النيسابوري إضافة لذلك ذلك أحد مؤسسي مجلة “أنتيغرال” التي كانت منبرا أدبيا، فنيا واستيتيقيا أساسيا. فأين نحن من ذاكرة هذه المرحلة التي طواها النسيان وماذا حفظته الثقافة المغربية عنها؟
بصفته مديرا لمدرسة الفنون الجميلة بالدارالبيضاء، كان مصطفى النيسابوري في قلب هذا الحراك الثقافي. وقد أصدر عام 1975 ديوانه الشعري «الليلة الثانية بعد الألف»، ثم دواوين «فجر» (1984)، «مقاربة الخلاء» (1994)، «لأجل إيقاعات للصحراء مستحيلة الوصف». (2018).
يلاحظ أن النيسابوري ليس بشاعر مغزار، بل يركن لسنوات إلى صداقة الصمت والعزلة. فهو بالكاد آبه بتغيرات وتقلبات العالم، لكنه لا يجاريه في تفاهاته القاتلة. على أي فترجمة وتقديم اعمال شعرية ومقتطفات من نتاج مصطفى النيسابوري من طرف محمد بنيس يستحق كل التنويه.
في كلمة المترجم تذكير بالظروف الثقافية التي قربت بين الشاعرين وجعلتهما يخلقان تزاوجا في ترجمة نصوص بعضهما البعض. هذا الكتاب هو بحق ديوان شعري يعطينا بانوراما للكتابة الشعرية والسردية لمصطفى النيسابوري منذ قرابة 6 عقود. كما يذكرنا باليتيمات التي ألحت منذ وحين كتابة هذه النصوص على مخيل وجسد الشاعر: تحولات السلطة الكاسحة لليل والظل، الصمت، البرية، الفراغ، التوبوغرافيا، عشق الجيولوجيا. يجب تصور الشاعر متجولا على شاطيء البحر، يجمع الحصى ويميز بين الياقوت، العقيق، الزرقان الخ…أو هائما في برية الرمال لالتقاط نبات الصحراء مثل الحنظل، الاكاسيا، الكرتوفا أو البابونج الخ… علاقة مصطفى النيسابوري بالأرض وبالطبيعة وبالمواقيت (الفجر، الغسق، تخالف الليل والنهار) المبشرة بحدوث الكارثة او بانبثاق شيء ما، علاقة وثيقة. إذ أن كل شيء مرشح للزوال.. «أحجار معتمة منحت دواما لكوكبة نجوم غارقة» « التخوم التي نراها من هنا تخوم عهد أجدب خلفها بلدان كأنها بصمات تموت لفرط ما بلغت الاحتضار وهي تنظر إلينا لحد أن صحراء تعبرنا من جانب إلى آخر.. »، مدخل الجيولوجيا هو أحد المداخل التي يمكن أن نقارب منها «نجمة نائية» مع العلم أن هناك مداخل أخرى مثل العزلة، الصمت، الموت، البرية او الصحراء، يتماهى الشاعر مع أشياء الطبيعة ولو كانت عناصرها آيلة إلى الامحاء. لذا فشعر مصطفى النيسابوري شعر كوني، يسائل الكون، يتفاعل جسديا مع عناصره ويطمح إلى أن تكون لغته لغة عالمية وكونية.
Visited 21 times, 2 visit(s) today