حِكَايَةُ امرأة نازية مع “يُوحَنَّا المشَّاءْ” في الدار البيضاء!
عبد الرحيم التوراني
عندما يذكر اليوم اسم حميد العلوي، يتبادر إلى الأذهان أولا اسم المنتج الفني الراحل، الزوج السابق للمغنية لطيفة رأفت. ونادرا ما يذكر اسم الفنان التشكيلي الكبير حميد العلوي، والمقصود هنا ليس رساما آخر ظهر في السنوات الأخيرة يحمل الاسم نفسه. بل إننا نتكلم عمن تولى في مرحلة تاريخية إدارة مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، ما بين 1975 و1982. أي مباشرة بعد الرسام والنحات فريد بلكاهية، الذي تولى المنصب ذاته من 1962 إلى 1974.
فراشات زاهية:
تميز التشكيلي حميد العلوي بشخصية هادئة. كان مَرْبُوع الْخَلْق، لا هو بالطويل ولا بالقصير، بلحية ذقن قصيرة (بوكل)، تكاد تشبه لحية فلاديمير إيليتش أوليانوف (لينين)، و(إن كان حميد العلوي أبعد ما يكون عن اليسار وما يجئ منه). مع نظارات طبية. عندما تعرفت عليه في مستهل الثمانينيات الماضية، لم يكن اكتمل بعد هجوم الصلع على مقدمة رأسه.
من علاماته المظهرية تزيينه ياقة قميصه بربطة عنق على شكل فراشة، غالبا ما كانت بألوان زاهية. هي أناقة ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. ولم يتنازل حميد العلوي أبدا عن أناقته الباريسية.
خلال فترة إدارته لمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، لم ينجح حميد العلوي في إدامة وتطوير الإرث الذي أسسه سلفه فريد بلكاهية ورفاقه محمد المليحي ومحمد شبعة وطوني مارايني وبيرت فلينت، ولم يكن له يد في هذا التراجع العائد للمسؤولين عن تسيير شؤون المدينة بولاية الدار البيضاء، الأوصياء على المدرسة. لذلك أدى الانحدار التربوي إلى نتائج كارثية، نتيجة إخماد نفس التجديد الذي جلبه بلكاهية ورفاقه في السلاح. وقد اشتكت الناقدة الفنية طوني ماريني قائلة إن “مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء لم تعد تلعب أي دور قيادي، لأن المدرسة، كي تلعب دورًا، يجب أن تكون أكثر من مجرد مبنى به طلاب ومعلمون. وقد أدت دورها في وقت كانت فيه أيضًا مجموعة من الفنانين والأفكار متحدة في الممارسة والتفكير والعمل”.
صخب وعنف:
في سنة 1980 نظمت “قاعة نظر للفن الحديث” بالدار البيضاء، تحت إدارة ليلى التازي، (زوجة المهندس المعماري عبد السلام الفراوي)، معرضا لآخر أعمال الفنان حميد العلوي. فقمت بزيارة للمعرض، ونشرت عنه ورقة بالصفحة الأخيرة ليومية “المحرر”. ما أن صدر عدد الجريدة حتى سادت موجة احتجاج كبيرة وسط ثلة من أساتذة مدرسة الفنون الجميلة، ضد ما اعتبروه “مساندة وتلميعا” لمدير المدرسة، وهو الشخص “العنصري” و”اليميني” “المقيت” الذي يكافحون من أجل تنحيته. فكيف بصحيفة اليسار والمعارضة تشيد به؟!
في المساء نفسه، كان لقائي اليومي بصديقي الكاتب محمد زفزاف، الذي أخبرني أن زوبعة قامة بسبب ما نشرته حول معرض الفنان التشكيلي حميد العلوي، وقد اتصلوا به مستنجدين. وأضاف أن لدينا موعدا مع أصحابنا المحتجين.
هكذا استقبلنا الفنان التشكيلي مصطفى حفيظ برفقة زوجته البولونية السيدة أنّا دراوس، وكانت تعمل بمدرسة الفنون الجميلة أستاذة متخصصة في فن السجاد، كان البيت بعمارة “الساتيام”، وقد بني لاحقا بمحاذاة هذه العمارة القديمة فندق “شيراتون” في شارع الجيش الملكي. وحضر الفنان التشكيلي عبد الكريم الغطاس، جاره الذي يقيم بنفس العمارة، والفنان موسى الزكاني أستاذ فن السيراميك، والفنانة التشكيلية صبيحة القدميري. ولا أتذكر إن كان معنا ليلتها الفنان التشكيلي عبد الرحمان رحول.
أمضينا ليلة صاخبة، اختلطت فيها أصوات الاحتجاج والغضب والتهدئة، الجميع كان يتكلم في الوقت ذاته. ولا زلت أتذكر الكلمات المضحكة التي أطلقتها البولونية آنّا، بلهجة متكسرة بالدارجة المغربية، ضد مديرها بمدرسة الفنون الجميلة.
خلال هذه الأثناء ظل الكاتب محمد زفزاف هادئا، يدخن ويشرب متابعا في صمت لجة الصخب والعنف اللفظي الدائرة أمامه. من جانبي حاولت عبثا إقناع الأصدقاء بأن ما نشر يدخل في صميم العمل الصحفي المهني، وأن لا صلة له بمساندة شخص أو جهة ما من عدمها.
وأخيرا، خرج زفزاف عن صمته، وتدخل موجها الكلام إلي، مختصرا القول: “حاول أ السِّي عبد الرحيم كيف تفك هاد الجرة”.
ولم ننصرف، زفزاف وأنا عائدين إلى المعاريف، إلا بعد أن فات منتصف الليل.
بعد يومين صدرت الصفحة الأخيرة من “المحرر”، وبها مقال ينتقد ممارسات غير مقبولة لمدير مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء. هي الانتقادات التي تؤخذ عليه من قبل أساتذة المدرسة. وبدا وكأن الهدف كان هو محو ما نشر سابقا من إطراء وإشادة وتنويه بالمعرض الفني للمدير بـ”قاعة نظر”.
يوحنا المشاء شخصيا:
ثم ما لبث أن اندلع غضب جديد، هذه المرة من جهة مدير المدرسة. فقد اتصل بي صديقنا الصحفي عبد الله العمراني وأبلغني استياء حميد العلوي مما نشر عنه من انتقادات ليست صحيحية. لأجدني مطلوبا لحضور لقاء جرى بالعمارة نفسها، عمارة “الساتيام”، التي كان يقيم بها جل الرسامين العاملين بمدرسة الفنون الجميلة. صعدنا إلى طابق آخر هذه المرة، حيث توجد شقة الفنان التشكيلي حميد العلوي، حضر معنا صديقه المحامي عبد الرحيم بنعبد الجليل وكان عضوا بالبرلمان، وسيصبح لاحقا، ما بين سنتي 1985 و1992 وزيرا في حكومة المعطي بوعبيد، مكلفا بحقيبة الشؤون الإدارية، وبعدها سفيرا للمغرب بالصين. وطبعا كانت زوجة حميد العلوي الألمانية، واسمها هيلغا. وصديق آخر أتعمد هنا عدم ذكر اسمه.
حاولت في تلك الأمسية تهدئة الأمر والتخفيف من حدته، وعدم قراءته بسلبية مبالغ فيها، وساعدني في ذلك الصديق عبد الله العمراني.
إلا أن (الآخر)، الذي أهملت ذكر اسمه عمداً، سيعود بمفرده بعد يوم أو يومين من هذا اللقاء المثير إلى عمارة “الساتيام”، إلى شقة الفنان حميد العلوي، بعد أن اقتنى من متجر “إقبال” بالسوق المركزي القريب زجاجة ويسكي من ماركة “جوني ولكير أحمر”، وكرة مشمعة حمراء أيضا، من كرات الأجبان الهولندية الكلاسيكية، تزيد عن اثنين كليوغرام، وكيس زيتون أسود. اختار الرجل ساعة بعد الظهيرة، في وقت لا يكون صاحب البيت متواجدا به.
رنَّ الجرس ففتحت مدام هيلغا الباب، وتطلعت باستغراب في وجه الطارق، لا شك أنها تذكرت سحناته، إذ لم يمض سوى يوم أو يومين على تعرفها عليه في شقتها مع زوجها وأصدقائه.
أخبرته أن الزوج غائب وليس موجودا بالبيت، إنه بعمله في “لي بوزار”.
ابتسم الرجل، ورد متلعثما بكلمات تقطر حذلقة، أنه يعلم أن السي حميد ليس موجودا… ولكنه يود مجالستها وشرب كأس والحديث معها.
ضحكت المرأة حتى بدت فلجة أسنانها الأمامية، التي تشبه فلجة الممثلة والمغنية الإنجليزية جين بيركين، (زوجة المغني الفرنسي غينسبورغ). ثم مدت يدا معروقة أخذت بها زجاجة الويسكي من النوع الذي كان أحد أصدقائنا يحب ترجمة ماركته بـ “يوحنا المشاء”، وتناولت بيد أخرى الكرة المشمعة، ومعها الزيتون الأسود الطري، وأوصدت الباب لتسمع من خلفه كلمات شكرها الجزيل بفرنسية مخلوطة بالعربية والألمانية، تاركة صاحبنا مصدوما يفك أذيال الخيبة التي لبسته. وقد خاب ظنه كثيرا، لما اعتقد أن الطريق سالكة وآمنة باتجاه “امرأة تدمن احتساء الويسكي أكثر من شرب الماء”، كما قيل له.
لما عاد الزوج من عمله أخبرته الزوجة بما جرى. فضحكا معا من خفة رِجْل “يوحنّا المشّاء” ، واستمتعا معا بشربه مع الزيتون والجبنة.
شاعت بسرعة تفاصيل الواقعة، فدافع مرتكبها عن نفسه بالاصطفاف إلى جانب الشامتين في مدير المدرسة، من كانوا ينعتونه بـ”العنصري والمتعجرف” و”اليميني”… وبأنه زوج خنوع تتحكم فيه إحدى حفيدات هتلر وسلالة النازية.
بعد سنوات من عمله في عمالة مدينة تطوان مع العامل محسن التراب، سافر حميد العلوي إلى موطن زوجته هيلغا، إلى ألمانيا، وغابت أخباره. كأنه لم يكن.
الخطوة الأخيرة نحو المطلق:
الفنان التشكيلي حميد العلوي من مواليد مدينة فاس، في 21 يونيو 1937، لما بلغ سن العشرين انتقل إلى فرنسا، حيث عاش طالبا بباريس ما بين 1957 و1975، درس بمدرسة الفنون الجميلة ومدرسة اللوفر، وتخصص في فنون الإسلام وعلم المتاحف.
بعد عودته إلى المغرب تولى حميد العلوي مهمة إدارة مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، التي انطلق منها أول مرة في دراسته الفنية الأولى. وبقي بهذا المنصب لمدة سبع سنوات، قبل أن يتم تعيينه مستشارا فنيا وثقافيا لوالي ولاية تطوان محسن التراب، هذا الأخير أخذ إلى جانبه أيضا في نفس الفترة صديقنا الإعلامي والكاتب عبد الله العمراني، مدير مكتب وكالة المغرب العربي للأنباء وقتها.
نال حميد العلوي جوائز متفرقة، مغربية ودولية، ونظم معارض فردية ومشتركة، آخر معارضه في المغرب، معرضه بقاعة “ألف باء” بالدار البيضاء، القاعة التي كان يملكها الفنان حسين طلال (ابن الفنانة الشعيبية). أما آخر معرض له بالخارج فكان سنة 1987 باسبانيا، في غاليري كوروم (مدريد). كما في سيرته الذاتية الواردة ضمن كتاب “الفن المعاصر في المغرب”، الذي أصدره سنة 1989 الدكتور محمد السجلماسي بمساعدة ابراهيم العلوي وعبد الكبير خطيبي، (منشوراتACR).
مما كُتِبَ عن أعماله: “تتميز لوحات حميد العلوي باستغلال تباين اللون الأسود واللون التكميلي. من هذا “الصمت الكبير للأشكال الهندسية”، ينبثق الوضوح والنقاء الذي يجعل اللوحات تتألق، مثل اهتزازات الضوء التي هي في صميم اهتماماته البلاستيكية“.
أما بالنسبة له، فقد أدلى حميد العلوي في أحد حواراته النادرة، وقال فيه إن: “الفن هو الولادة الحساسة لللامادي… وهو إدراك اللامادي في حالة البنية الخالصة، هو اتخاذ الخطوة الأخيرة نحو المطلق”.
<
p style=”text-align: left;”>