صورة المغرب في المخيال الجماعي للاسبان
صدر للصحفي والكاتب المغربي الحسين المجدوبي كتاب جديد بعنوان: “المغرب في الفكر الإسباني” . وهو في الأصل ترجمة مع تحيين لفصل من رسالة دكتوراه تقدم بها المؤلف في كلية علوم الإعلام بجامعة مالقا سنة 2009. ويتناول موضوع صورة المغرب في المخيال الجماعي للاسبان. الكتاب هو عملية إبحار عبر حقب زمنية متسلسلة كرونولوجيا، منذ حروب الاسترداد إلى اليوم، النصف الأول من العقد الثالث من القرن 21، لمعرفة الكيفية التي جرت بها صياغة الصورة أو التصور حول المغرب في مختلف مظاهر الفكر الإسباني. وهو قراءة من باحث من الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق، قد يختلف تأويله للأحداث وبعض المفاهيم عن الرؤية السائدة في الضفة الشمالية بسبب التكوين والهوية. ويقف الكتاب عند بعض الأحداث التاريخية المشتركة الرئيسية دون سواها، تلك التي أثرت على مسار الفكر الإسباني تجاه المغرب. ولهذا، فهو يتعقب تطور الأفكار في ارتباط بسياقها التاريخي أساسا وليس سرد الأحداث كرونولوجيا. يوجد في مكتبات تطوان، ونهاية الأسبوع في بعض المدن المغربية.
للاطلاع نورد هنا مقدمة هذا المؤلف الهام:
الفهم العميق لحضور المغرب بكل تشعباته ومظاهره في المخيال الإسباني يتطلب استحضار مرتكزين أساسين، أولهما الجغرافي، أي الجوار الجغرافي بين البلدين وما يترتب عنه من تشابك ثقافي لا يفرز بالضرورة دائما مشاعر إيجابية بقدر ما يترتب عنه في الغالب غياب الثقة وطغيان الحذر بسبب التنافس؛ وثانيهما العامل الديني، وما ينتجه من تصادم نظرا لدور العقيدة في بناء الهوية، وكمحرك للتاريخ لاسيما قبل ظهور الفكر اللائكي ومحاولة إرساء قواعد للعلاقات الدولية بعيدة عن الديني.
وخلال القرون الأخيرة، هيمنت مشاعر غياب الثقة بين العالم العربي-الإسلامي والعالم الغربي-المسيحي. ويعد غياب الثقة خاصة القائمة على الريبة الدينية من العناصر الفاعلة في التاريخ، والمتسببة في أحداث عظمى طبعت تاريخ الإنسانية حتى يومنا هذا، على رأسها الحروب الصليبية. ورغم عنف الأحداث، سادت فترات من السلام بين الطرفين، باستثناء في المناطق الجغرافية التي تعد خطوط تماس. فقد كان التوتر مسيطرا في مناطق التماس بين الإمبراطورية العثمانية مع مناطق الكيانات الأوروبية المتاخمة لها. وفي سيناريو مشابه، هيمنت المواجهات بين المغرب وإسبانيا بحكم الجوار الجغرافي أو التماس الجغرافي. ويستمر العامل الجغرافي محددا رئيسيا في رسم العلاقات الدولية، ومؤثرا قويا في التطورات السياسية؛ ويترجم بمصطلح دال للغاية وهو: “الجيوسياسية”، أي الجغرافية السياسية. والتاريخ المغربي-الإسباني المشترك، هو تاريخ جيوسياسي محض، مرتبط بصراع الهوية والحدود الترابية، يفرز عبر الحقب التاريخية أطروحات فكرية تكون أحيانا متشددة وتعرقل الحوار السليم بين البلدين.
وهكذا، فقد استوطنت في ضفتي المضيق ثقافات وديانات، أنتجت كيانين متصارعين عبر القرون؛ وفاقمت شعور “غياب الثقة” اتجاه الآخر. وهذا أمر طبيعي بحكم أن إسبانيا المسيحية والأوروبية والغربية، صاغت كيانها في مواجهة المغرب المسلم المتشبع بالثقافة المشرقية. والمتأمل في تاريخ ضفتي مضيق جبل طارق، سيقف على تاريخ مشترك من المواجهات والتوافقات المفروضة، يمتد 14 قرنا، من القرن الثامن إلى الخامس عشر. يتضمن وبمستويات مختلفة، تحكم الضفة الجنوبية في الضفة الشمالية؛ ومن القرن الخامس عشر الى منتصف العشرين، حاولت الضفة الشمالية التحكم في نظيرتها الجنوبية، ونجحت نسبيا في الفترة الممتدة ما بين سنتي 1912 إلى 1956، وقبلها في احتلال مراكز شاطئية تستمر حتى اليوم: سبتة ومليلية.
وغياب الثقة، لم يمنع أحيانا الطرفين من التفكير في المصير المشترك بينهما لتجاوز الشرخ العميق، والوقوف على فهم دينامية التفاعل المتشابك الذي ساهم أحيانا في تغيير مجرى التاريخ الثنائي؛ بل وامتد إلى ما هو كوني. فقد ساهم المغرب في وضع إسبانيا مرتين في الخريطة الكونية، بسبب نتائج جيوسياسية هائلة تبلورت في حقبة قديمة. ذلك أن عملية الفتح العسكري بقيادة طارق بن زياد سنة 711 م، كانت تمهيدا لنشأة حضارة، وهي الأندلسية، كان لها بالغ التأثير في النهضة الأوروبية وتاريخ الإنسانية خلال الخمسة قرون الأخيرة بفضل ترجمة ونقل العلوم التي بلغت أوجها في الأندلس. علاوة على ظهور المفهوم الحقيقي لثنائية الشرق والغرب انطلاقا من هذه الأراضي. في الوقت ذاته، ما كان سيكون لإسبانيا الفرصة لإقامة إمبراطورية ضخمة في القارة الأمريكية وكيف استفادت من موارد تلك المنطقة، دون الأخذ بعين الاعتبار انتصار المغرب على البرتغال في معركة وادي المخازن سنة 1578. لو لم تنهزم البرتغال في هذه الحرب، لكان ربما شكل الغرب مختلفا، ذلك أن هزيمة البرتغال هي التي جعلت من إسبانيا إمبراطورية كبيرة بعدما ضمت إليها الأراضي البرتغالية واستولت على مستعمراتها بما فيها مدينة سبتة إلى يومنا هذا، وجعلت التاريخ الأوروبي يتخذ مجرى آخر نسبيا.
في المقابل، لم تساهم إسبانيا إيجابا في تغيير جيوسياسي عميق إيجابا في المغرب. فقد لعبت دور الجدار المانع لامتداد التأثير الحضاري للنهضة الأوروبية نحو المغرب، وإن كان الفكر الديني المتزمت في المغرب قد ساعد في الانغلاق على الذات. ولم تساهم إسبانيا بشكل وازن في دينامية بناء أطر مغربية في القرن التاسع عشر وإبان الاستعمار ولاحقا بعد الاستقلال وحتى الوقت الراهن إلا بالنزر القليل. ولم تتخلص تيارات فكرية وسياسية نافذة في إسبانيا من هيمنة التصور الذي تعتنقه بعض القيادات السياسية والعسكرية منذ عهد الملكة إيزابيلا الكاثوليكية حتى يومنا؛ تصور وإن اختلف شكله من حقبة إلى أخرى، يبقى ثابت الجوهر ونواته راسخة وهو: السعي إلى إبقاء المغرب دون إسبانيا في مختلف القطاعات. ولعل خير معبر عن هذا التصور هو المفكر آنخيل غانبيت، عندما كتب في مؤلفه الشهير “إدياريوم إسبانيول: “أنه في نهاية القرن التاسع عشر يتعين علينا مساعدة المغرب على التمدن، شريطة إبقائه تحت السيطرة والمراقبة، حتى لا يفاجئ إسبانيا يوما ما”. وتبقى المساهمة الإيجابية لإسبانيا هي احتضان أكثر من مليون مغربي كمهاجرين خلال الثلاثة عقود الأخيرة، وساهمت بهذا في امتصاص التوتر الاجتماعي في المغرب بحكم أن الهجرة متنفسا يحول دون وقوع انتفاضات. وقد تصبح هذه الهجرة إن جرى استغلالها بصورة إيجابية، الجسر التاريخي الذي ينتظره البلدان من أجل ترسيخ تفاهم صلب.
ويستمر التصور القائم على الحذر راسخا وسط الدولة الإسبانية العميقة، وأصبح عائقا بنيويا يشوش ويحول دون محاولات إرساء علاقات ثنائية سليمة. ويتفاقم الوضع أكثر، بسبب ضعف معرفة الدولة العميقة في المغرب بخبايا صنع القرار الجيوسياسي في إسبانيا خاصة حول المغرب. ويوجد اختلاف في صناعة القرار الجيوسياسي في الضفتين نظرا للتفاوت الديمقراطي، بين مشاركة متعددة للمؤسسات في شمال المضيق، وصناعة القرار من طرف أفراد في ضفته الجنوبية، ويكون أحيانا بشكل عشوائي قائم على رد الفعل.
هذا الوضع الفكري-السياسي النشاز المهيمن في الضفتين يغذي استمرار “غياب الثقة المتبادلة”، ويعيق تحقيق تكامل ولو نسبي؛ ويجعل المغرب وإسبانيا يهدران كل الطاقة في إيجاد حلول مؤقتة للأزمات العميقة والمتسلسلة بدل التحلي بالشجاعة في معالجة مخلفات الماضي الجاثمة على الحاضر والمهددة للمستقبل. نتحدث هنا عن قضايا مثل النزاعات الترابية كسبته ومليلية والصحراء، وملفات اجتماعية طارئة مثل الهجرة التي تنضاف الى قائمة المشاكل العويصة. وهي قضايا تتطلب جرأة فكرية وسياسية للبحث عن الحل بدل الحرص على إبقاء “الوضع الحالي” قائما، الذي قد ينفلت من السيطرة نحو الأسوأ عاجلا أم آجلا وقد يقود إلى حرب، لن تكون الأولى ولا الأخيرة بالنظر إلى تاريخ الحروب التي اندلعت بين البلدين طيلة القرون الأخيرة.
هذا الكتاب، “المغرب في الفكر الإسباني، كيف شكّل الإسبان صورة المغرب في مخيالهم عبر التاريخ”، هو في الأصل ترجمة مع تحيين لفصل من رسالة دكتوراه تقدم بها المؤلف في كلية علوم الإعلام بجامعة مالقا سنة 2009 بعنوان “الخطاب الافتتاحي للصحافة الوطنية الإسبانية حول المغرب: إلباييس والموندو 1999-2009”. الكتاب هو عملية إبحار عبر حقب زمنية متسلسلة كرونولوجيا، منذ حروب الاسترداد إلى اليوم، النصف الأول من العقد الثالث من القرن 21، لمعرفة الكيفية التي جرت بها صياغة الصورة أو التصور حول المغرب في مختلف مظاهر الفكر الإسباني، سياسيا، واقتصاديا، وثقافيا، وعسكريا، ودبلوماسيا. وهو قراءة من باحث من الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق، قد يختلف تأويله للأحداث وبعض المفاهيم عن الرؤية السائدة في الضفة الشمالية بسبب التكوين والهوية. ويقف الكتاب عند بعض الأحداث التاريخية المشتركة الرئيسية دون سواها، تلك التي أثرت على مسار الفكر الإسباني تجاه المغرب. ولهذا، فهو يتعقب تطور الأفكار في ارتباط بسياقها التاريخي أساسا وليس سرد الأحداث كرونولوجيا.
وسيلمس القارئ كيف أنه لم يحدث أي تغيير ملحوظ في جوهر الرؤية الإسبانية للمغرب منذ سقوط غرناطة سنة 1492 إلى أزمة جزيرة ثورة سنة 2002؛ بل وحتى في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، تاريخ صدور هذا الكتاب. لقد تغيرت المفاهيم نسبيا، وتغيرت المصطلحات من تفكير تقليدي حبيس مرجعية دينية، إلى تفكير حداثي يأخذ بعين الاعتبار القانون والاتفاقيات الدولية والبعد الجيوسياسي، غير أنه يستمر التصور الذي بلوره الإسبان حول المغرب منذ قرون، مقاوما في جزء كبير منه للتغيير ولا يتآكل، بل ويتوارث من جيل إلى آخر. وهذا بسبب الهوية المتطاحنة وتناقضات الجوار الجغرافي وما أفرزه من احتكاك صدامي. وعليه، إذا كان المغرب بمفهوم الفكر الكنائسي قديما هو “العدو الديني”، فقد أصبح الآن بمفاهيم أكاديمية وجيوسياسية لدى مراكز التفكير الاستراتيجي هو “مصدر الخطر” أو “الخطر الجاثم في الجنوب”. هيمنة غياب الثقة لا تنفي وجود رؤية إيجابية وإنسانية لدى تيار يسعى للحوار والتفاهم، لكنه يبقى محدود التأثير في مسار الأحداث بسبب هيمنة ثقافة التوتر المستمرة.
ولعل المقلق حول مستقبل العلاقات الثنائية هو بدء تشكل رؤية شبه عدائية وسط جزء كبير من الرأي العام المغربي اتجاه إسبانيا، تخضع لدينامية رد الفعل وتتغذى من الاختلاف الثقافي والديني، وكما من المواجهة السياسية وأحداث التاريخ، مثل المطالبة بفتح ملف الغازات السامة في الريف والتعويض عن الاستعمار. وجراء هذا، بدأت إسبانيا تتحول في أعين المغاربة تدريجيا الى “العدوة الأبدية”. ذلك أن المغاربة لم يبلوروا في الماضي فكرا متينا ومتواصلا اتجاه إسبانيا بسبب ضعف الإنتاج الفكري في مجال العلاقات الدولية، ضعف مازال قائما نسبيا، ويعوضه إنتاج المواقف والتصرفات غير العقلانية أحيانا.
وإسهاما في تطوير العلاقات الثنائية بين ضفتي مضيق جبل طارق، يقدم الكتاب مجموعة من الاقتراحات، وهي عبارة عن وصفة تهم إجراءات الثقة في حقول متعددة، الفكري، والسياسي، والاقتصادي. وتهدف الى خلق فضاء ثقافي مشترك لتفادي الاصطدام في عالم تتشكل خريطته الجيوسياسية من جديد، وقد يحمل مفاجآت غير متوقعة وغير سارة.