مروى علّيق
بعد شهرين فقط، أُتمم عامي السابع في إسطنبول. أذكر المرّة الأولى التي وصلتُ فيها إلى المدينة، حين مشيتُ في شارع الاستقلال، أكبر وأشهر شوارعها. حينها، نسيتُ نفسي وسط حشد هائل من الناس، من مختلف الجنسيات والخلفيات والأشكال. كانوا يتجوّلون في الشارع ذهاباً وإياباً. لا أعلم مدى دقّة الإحصائيات المنشورة حوله مؤخراً، لكّنها تقول إن الشارع يدخله نحو ثلاثة ملايين زائر/ ة يومياً، فكيف لفتاةٍ في الواحدة والعشرين من عمرها، والتي لم يسبق لها أن غادرت قريتها الصغيرة، إلا باتجاه بيروت، أن تشعر في تلك اللحظة؟
أترجم ذاك الشعور اليوم بأن العالم اجتمع أمامي في شارعٍ واحد.
خلال أيّامي الأولى في إسطنبول، كان يكفيني التوجه من حيّ جيهانغير، الذي انتقلتُ إليه مطلع آذار/ مارس عام 2016، باتجاه الاستقلال في حيّ بيوغلو العريق. فالتجوّل فيه من ساحة تقسيم باتجاه حيّ غالاتا، وصولاً إلى كورنيش البوسفور من جهة حيّ كاراكوي، كان كفيلاً بإضفاء شعورٍ كنتُ أحلم به، لا بل أسعى إليه منذ سنوات المراهقة الأولى، وهو التباين مع من حولي، والابتعاد قدر الإمكان عن هويتي التي خُلقتُ تحت عباءتها وأُلصقت بي، وفُرض عليّ سقف الاختلاف في مساحتها، والذي ظلّ يضيّق عليّ احتمالاتي.
أذكر أني كنت أتسلّى في أثناء التجوّل في الشارع بتدريب ذاكرتي، والتي صنّفها معالجي النفسي لاحقاً على أنها تخيّلية أو فوتوغرافية، من خلال حفظ وجوه المارّة. كنت أتحدّى نفسي في تذكّر الوجه نفسه إذا ما مرّ من جانبي مرةً أخرى، وعلى عكس أصحاب هذا النوع من الذاكرة، كنت أفرح حين لا أستطيع ذلك، وأستمتع أكثر بشعور التيه وعدم التركيز الذي تفرضه طبيعة الشارع على زوّاره. كان ذلك يعطيني شعوراً عميقاً بالفردانية والخصوصية، فهُنا الحياة سريعة وكثيفة إلى درجة أنها قد تحتاج إلى عمرٍ كاملٍ للإحاطة بها. وهنا، لا أحد ينظرُ إلى أحدٍ، ولا أحد يهتم بماذا ترتدي أو بكيف تتكلّم وتتصرّف. ولفتاةٍ قادمة من مجتمعٍ يتدخل في أدق تفاصيل حياتها الشخصية، لم يكن لديّ ما هو أكثر أهمية من استغلال هذا الواقع الجديد قدر الإمكان.
أردتُ أن أتعرّف إلى نفسي خارج الأطر والدوائر التي رُسمت لي، والتي على كثرتها وتنوّعها، كانت دائماً لا تستوعبني وتحدّ من مخيّلتي وتحاصرني وتشد الخناق على حريّتي التي لا تمتثل لأي حدود تحمل في طيّاتها وصايةً أبويةً وضوابط ذكوريةً تميّز ضدي كامرأة. أردت أن أتعرّف إلى تلك المرأة التي سأكونها حين أخرج من “الملّة” في النبطية، ومن “الشلّة” في بيروت، حيث نزحتُ عام 2013، بحثاً عن واقعٍ جديد.
رافقني هذا الإحساس في أعوامي الثلاث الأولى في تركيا، لكن ومع ثقل ما ترميه هذه البلد من إخفاقات وخيبات على أكتاف ضيوفها الدائمين، سرعان ما بدأت مشاعر شغف البدايات وحب الاستكشاف بالتبدد، ليحلّ مكانها شعورٌ، قد يكون محطّماً في بعض الأحيان، هو العُزلة، وكأننا رُمينا هنا بلا ماضٍ أو جذور. ومع تحوّل لبنان إلى بلدٍ قد تكون العودة إليه مستحيلةً، أو بمثابةٍ “انتحار”، بدأتُ مرحلة البحث عن الأصالة والألفة في كافة الأمور اليومية، في الشوارع والأبنية والمقاهي، في الأكل واللغة والعلاقات الاجتماعية.
انتقلتُ للمرّة الأولى إلى حيّ بلاط في منطقة الفاتح في إسطنبول، مع شريكي. كنّا كلانا نبحث عن “حارةٍ” ومنزلٍ دائمين، وهنا مفهوم الديمومة غير واضحٍ وغير ثابت تماماً. فحينها كنّا قد بدّلنا، كلّ منّا على حدة، ومع بعضنا، شققاً وأحياءً نسينا عددها بالفعل. كان واضحاً تماماً أننا انتقلنا إلى مرحلة جديدة في علاقة كلّ منا مع نفسه كفرد، وفي علاقتنا مع بعضنا البعض كثنائي، كما في علاقتنا مع مكان إقامتنا واستمرارنا خلال سنواتنا المقبلة. “نريد أن نستقرّ”، جملة كنّا نُرددها في كلّ حديثٍ، مع اختلاف مفهوم الاستقرار لكلّ منا.
بَلَاطْ، أو منطقة الأبنية الملوّنة، استطاعت أن تترجم لنا مفهوم الاستقرار، وأعطتنا من خلال ثباتها أمام الغول العمراني في إسطنبول، ومطحنة الحياة اليومية، بدءاً من جنون تدهور الليرة وما يلحقه من تدهورٍ سريعٍ وعسيرٍ على الاستيعاب في الأوضاع الاقتصادية، بالإضافة إلى “بلوعة” الدوام بين دراسةٍ وعملٍ، وضياع العمر في التنقل لمسافات وساعات طويلة في المواصلات، مثالاً حيّاً عن الثبات الذي نحتاج إليه.
فهُنا صباحاً على وجه الدّقة، أستيقظ على أصوات جاراتي، شُكران وحبيبة وسيبال، يجلسنَ على مطلع الدرج، يدخنّ سيجاراتهنّ ويرتشفن قهوتهن على عجل، بعد أن يرسلنَ أطفالهن إلى المدرسة، وهنّ يحاولنَ الاطلاع سريعاً على أحوال الحيّ، قبل العودة إلى الداخل لإتمام أعمالهن المنزلية. أستعجل لإلقاء التحية عليهنّ فيسألن عن أحوال غيث والقطط.
وهنا، لكلّ بيتٍ رائحة تنبعث منه يمكن تمييزها بسهولة، وتختلط مع رائحة الحطب القادمة من الأبنية والمتاجر، وهنا أيضاً وجوه الباعة والمارة والمقيمين التي تراها نفسها مراراً وتكراراً حتى تألفها وتحفظها. يلقون التحيّة عليك فتشعر بأنك “تبلّدت”، وترد التحيّة بحماسٍة أبله، وهنا محال الأنتيك والمزادات الليلية في حيٍّ يُعدّ اليوم من الأحياء الأكثر فقراً في إسطنبول، والمقاهي و”الميهانات” التاريخية، ومحال بيع الكحول الثابتة في مكانها منذ عشرات السنين، والمطاعم العريقة، والأبنية الخشبية التي يمتد عمرها إلى أيام السلطنة، والمنازل اليهودية في الجزء الداخلي من الحيّ، وهُنا تُحيطك بك أسوار قصر بلاهيرنا الذي تم انتزاعه من اليونانيين، وفقاً لما يرويه لك أبناء المنطقة، ناهيك عن الكنائس الأرثوذوكسية والمعابد اليهودية، والشوارع الضيقة المتعرجة، حتى القطط والكلاب هنا تصبح صديقةً لك، فتوصلك إلى محطة الباص حيث تبدأ يومك.
يقع حيّ بلاط على ساحل الخليج، بين محلتَي إيوان سراي وفنار. وجاء اسم بلاط من كلمة Palation أي القصر باليونانية، لقرب المنطقة من قصر بلاهيرنا. كما يُطلق عليه “حيّ اليهود”، نظراً إلى استقباله الجماعات اليهودية الهاربة من الأندلس بُعيد سقوطها عام 1492، قبل أن يهاجروا إلى دولة الاحتلال مطلع خمسينيات القرن الماضي.
في بلاط ماضٍ تشهد عليه وحاضر تعيشه بكافة تفاصيله الجمالية ومستقبل محتمل من دون شك.
هُنا تشعر بأنك مرئيٌّ ومعروف، فمثلما تحاول أن تتعرّف، كطفلٍ يتعلّم لتوّه القراءة والكتابة، على خصوصية المنطقة، علّك تنتمي إليها يوماً، يحفظك أبناؤها، بعد أن ينتهوا من استكشافك بفضولٍ وكأنّك كائنٌ قادمٌ من كوكبٍ آخر، ويهتمون لأمرك ضمن الحدود التي تُشعرك بالأمان، فتشعر بصُحبةٍ وعِشرة افتقدتَها خلال تشرّدك سابقاً في المدينة، وتشعر بأنه لا مانع من العيش هنا طويلاً.
في بلاط، لك حريّة التماهي بعد أن أنهكك التغلّب على هويّاتك الموروثة والمكتسبة والقادمة معك من حيث أتيت، والتي تعود لابتلاعك كلّما حاولت التنصل منها. هُنا تستطيع إلى حد ما أن تكون فرداً ضمن الجماعة، بالطريقة التي تليق بمعاركك الطويلة لانتزاع استقلاليتك، فلا يغلبك ذنب خيانة الذات حين تعود لتبحث عن مجتمع تنتمي إليه بعد أن ادّعيت عدم حاجتك إليه. وفي المقابل، لا تضطر إلى الانغماس أكثر مع الجموع، وفي ما هو خارج عن سيطرتك أو إرادتك، فتحافظ بالقدر المطلوب على “أناك” ضمن مجتمعٍ ودود ورحيم.
جولة واحدة في بلاط، وإن كان الحيّ يناطح اليوم وبوضوحٍ تخبطات الهوية التي تعيشها إسطنبول، وسيطرة الدعاية السياحية السريعة والركيكة والتي اتخذت من كاميرات “سائحي التيك توك” وسيلةً، على أصالة المنطقة، كفيلةٌ بأن تجعلك ترى بعينك كيف حافظ الحيّ، إلى اليوم على الأقل، على خصوصيته، ما يعكس لك بالضرورة شعور “الونس” والخفّة، ما يمنحك أيضاً ثقةً بالانتماء مع إبقاء حيّزٍ ضئيلٍ من القلق والخوف من أن تستيقظ يوماً وقد فقدت كل ما ثابرت من أجله وبنيته بجديّة لا تحتمل المغامرة، خاصةً لمن اقتُلعوا من مواطنهم قسراً، من دون تخطيطٍ أو تجهيزٍ مسبق./ رصيف22