اختلاف الرؤية والنهج في ديوان “مملكة السحرة”
عبد النبي بزاز
يرسم ديوان “مملكة السحرة” للشاعر المغربي أحمد الشيخاوي معالم تجربة غنية بزخم موضوعاتها، وما يزخر به نسيجها الإبداعي من صور وأشكال موسومة بعمق المعاني والأبعاد، وجمالية التعبير، حيث تخوض مغامرة تغيير يروم التأسيس لنهج شعري يزاوج بين الشعري والنثري اللذين ينصهران داخل بوتقة مختلفة الرؤية والتعبير فيتفاعلان في تقاطع وتواشج يطال ذروة التماهي والذوبان باستخدام لطرائق من قبيل الانزياح الذي يخلق تعابير مثل: “الكرسي يا سادة يبتلعنا نحن أولاده”. ص 7 ، في نسج علاقة غير مألوفة بين الكرسي كمادة جامدة وأولاده الذين (يبتلعهم)، وما يتيحه من إمكانات للغوص في امتدادات صور وتصورات تستعصي على التحديد والمقاربة، بل تمعن في انزياح عبر توالد وتمازج بصيغ مجازية مطبوعة بالزئبقية والانفلات. “فينتحر اللون”. ص 55، على مستوى الفعل، فعل الانتحار الذي ينتقل للون في استعمال مختلف وغير معهود. وعلى مستوى الوصف: “يغازلن الخير العازب”. ص 111، فصفة (العازب) المقرونة بالخير تستدعي قراءة تأويلية متعددة الآفاق والأبعاد، مع تحول وتغيير لحركة السير التي تنتقل، في استعمال غير معهود، للدروب: “تقطعنا الدروب تمشينا … “. ص 55، واختزال لغوي مختلف التوظيف: “أمشيك دوما”. ص 35، بدل أمشي فيك، وهو أسلوب نابع من رؤية ترسم إرهاصات نهج ابتكار شعري مغاير.
والصور التي تحفل بها نصوص المجموعة الشعرية فيما تنحته من تعابير غنية بحمولات إيحائية ودلالية: “سافر في دخان اللا معنى مع عناقيد بوح معسول”. ص 12، فالسفر في اتجاه غير محدد المعالم والهوية (اللا معنى)، الذي يصاحب (عناقيد بوح معسول)، فطبيعة هذا البوح المعسول تظل معلقة على حبال التأويل المنوط به تفكيك ألغازها عبر عتبة إيحاء رهين بتعدد القراءات، واختلاف الرؤى. بالإضافة إلى استخدام الاستعارة كمُكَوِّن بلاغي يثري جمالية النصوص، ويضفي عليها عمقا دلاليا، وسعة تعبيرية كما في قوله: “وكلما صهلت غبطة”. ص 16، حيث تلهج الغبطة، وهي شعور يعكس الفرح والنشوة، بصوت الفرس (الصهيل)، وأيضا في نص (لغرورها يشفع الوجد): “اخلعي سياج الخجل”. ص 25، كدلالة على التحرر من ربقة الخجل، والانعتاق من نيره . صور ما تفتأ تقترب من الواقع لكشف وتصوير ما يعج به من مفارقات ومتناقضات : ” وطقوس الميتافيزيقا الكافرة سلفا بثورة تأليه الرغيف..”. ص 110، في نهل من حياض معجم الفكر (الميتافيزيقا) مقرونا بصفة قيمية دينية (الكافرة)، والرغيف الغني بحمولاته الاجتماعية في بعدها الطبقي، حيث تطفح هذه الصور، التي يزخر بها المتن الشعري، بدلالات فكرية وقيمية واجتماعية لتتوالى في شكلها الاستعاري إغناء لقصائد الديوان جماليا وتعبيريا: “حين يزغرد الجرح وينتحر الورد”. ص 106، فالجرح في اقترانه بالزغرودة يؤسس لمفارقة تجمع بين مصدر ألم (الجرح) وفعل تعبير عن الفرح والاحتفال (يزغرد)، في حين يجنح التعبير نحو انزياح شاذ عن السائد والمألوف ينتحر فيه الورد (وينتحر الورد). ولعنصر المفارقة حضور لافت في ثنايا الديوان: “تتلبس المآتم بأعراسها…”. ص 111، حيث يتجلى التناقض، في أعلى صوره، محرضا المتلقي على اجتراح سؤال يلفه الالتباس، وتكتنفه الحيرة: كيف للمآتم أن تتلبس بأعراسها؟ مطلقا العنان لفيض من تأويلات . فضلا عن التوسل بالاستيحاء من النص القرآني: “الإخوة يا أبت، لا الذئب”. ص 81 ، وما تضمنته سورة (يوسف)، في شكلها القصصي، من مؤامرة حاكها إخوته، وحبكوا فصول حكايتها، وما شابها من تزوير لحقيقة القتل المدبر، وتحريف لأحداثها حيث يقر بأن الجرم اقترفه الإخوة لا الذئب. استيحاء يشمل أعلاما ، بحمولات رمزية من أساطير إغريقية ك ( سيزيف ) ، وقصص دينية ( هدهد سليمان ) في سورة ” النمل ” ، وشخصيات من حكايات ألف ليلة وليلة (شهرزاد)، وتاريخية (نابليون)، وتراثية شعرية (ليلى والمجنون)، وحضارية (فراعنة)، وصوفية (الحلاج) وقصص حديثة (كينكو)، فضلا عن أماكن ذات إشعاع تاريخي حافل بالبطولات والأمجاد كالعراق: “عراق الأمجاد والخلود في سجلات الملاحم والبطولات”. ص 41، والقدس بجذورها التاريخية، وماهيتها الروحية: “ماهيته أنك قدس”.ص 105.
ليبقى ديوان “مملكة السحرة” للشاعر أحمد الشيخاوي، في نهجه التجديدي، غني بـ “تيماته” وموضوعاته الناهلة من مرجعيات تمتلك سلطة معرفية عريقة وأصيلة، مستلهمة جوانب من أنفس ذخائرها، وأثمن دررها، في صياغة مختلفة الأشكال، عميقة المعاني والأبعاد عبر أدوات تعبيرية ترسم صورا بغنى جمالي، وثراء رمزي صادر عن حس مشبع بنزعة الخلق والابتكار محكوما برؤية تتغيا نحت نصوص تختلف عن السائد والشائع في صيغها وأشكالها ودلالاتها.
* مملكة السحرة (ديوان شعري)- الناشر: الموجة الثقافية ـ الفقيه بن صالح / المغرب 2021.