العصيان المدني.. أغنية إلى السر!؟

العصيان المدني.. أغنية إلى السر!؟

محمود القيسي

 

“أُتْركُوه لأسرارِه:

مرةً يُجلس البحرَ في حضنِه

مرّة، تحت شُبّاكه،

اتركوهُ لأسرارِه:

يتقنّع بالعشب، أو يتلبّس وجه الحَجَرْ

اتركوهُ لأسرارهِ حَقلَ حبّ

يتحوّلُ في كلِّ فصْل

ويقلّب في راحتيه الشّجَرْ”.

   الشعوب تمتلك دائمًا كلمة “السر” ودائمًا تتقن وتجيد توجيه الضربة القاضية.. الشعوب تمتلك الأرض، والبحر، والسماء، والشجر، والحجر، والفصول، والعشب، والطيور، والفراشات، والكائنات الحية والملل والنحل.. تمتلك كل ما هب ودب في بلادها واوطانها.. الشعوب تمتلك دائمًا الحضارات، والأفكار، والأديان والمعتقدات من الوثنية إلى السماوية وما بينهما.. تمتلك الحكماء والفلاسفة والمفكرين وغيرهم أيضًا من الحضارات القديمة والجديدة والحديثة والمستجدة.. الشعوب ورغم (تواطئهم) في بعض الأحيان الزمكانية تمتلك كلمة السر وتتقن الضربة القاضية.. الشعوب تمتلك الانسان عن طريق الصدفة، ولا وجود لمعنىً أو غاية من حياته بأستثناء ما يستطيع تحقيقه هذا الأنسان بفضل حريتهِ كما يعتقد الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر.. أو إنسان نيتشه المشدود بين طرفي حبلٌ الحيوان، والإنسان الكامل/الأعلى، كما يُصر في آرائه على أنّ البشر يمثلون مرحلة انتقالية وليست نهائية من التطور.. أو كما عرّف أرسطو البشر على أنهم حيوانات عاقلة، وآكد على أنّ العقلانية هي أهم ميزة يتصفون بها.. في حين يُعرّف كارل ماركس الإنسان على أنه مخلوق أجتماعي يمكنه أن يتطور فقط في المجتمع، أما وجهة نظره عن الطبيعة البشرية: (كل التاريخ ليس سوى تحول مستمر في الطبيعة البشرية).. يُعرّف باسكال مفهوم الأنسان على إنه أضعف كائن في الطبيعة، لكنه (الكائن الوحيد القادر على التفكير)، لذا فإن فنائه يعني فناء الكون… في حين تُعرّف الفيلسوفة سيمون دي بوفوار الأنسان كجزء من الإنسانية، والتي هي عبارة عن سلسلة متقطعة من الرجال والنساء الأحرار الذين يعزلون ذاتهم بصورة دائمة!

   الإنسان والعقل عند صاحب “تهافت التهافت” ابن رشد أو أفيرويس أو الكويكب الذي يعتقد بأزلية العقل، كما يعتقد ان العقل لم يُخلق مع الإنسان: هو موجود خارجه، وبالتالي لا يدخل العقل في تعريف الكائن البشري، إنّ الإنسان تكوين منفصل عن العقل، أي هو كائن متخيِّلٌ: هو حاوٍ لصور خادمة للعقل، ومن ثمّ فالإنسان ليس فاعلا في العقل، وإنما هو موضوع له، وفي خدمته. ومع ذلك فهو في “ثنائية العقل والإنسان” الرشدية أرقى الكائنات لأن ما يميزه هو أنه (كائن يشعر رغب و يريد ويرفض ويقبل و يفكر ويتأمل ويعمل وينتج وينسج علاقات وصراع)، علاقات تعاون وتواصل مع الآخرين. إذن فالخاصية التي تحدد هوية الإنسان وتميزه عن باقي الموجودات والكائنات هي التفكير بامتلاكه القوة الناطقة وما تنتجه من صور ذهنية و إدراكات.. فالناطق إنما أنفصل عن الجمادات بالإدراكات والظنون المحدودة.. الإنسان لا يمكن وجوده بهاتين القوتين فقط  (الحس والتخيل) أو القوة الناطقة وطبيعة النزوع والفعل الإنساني؛ بل بأن تكون له قوة يدرك بها المعاني.. ويستطرد ابن رشد، أن هذين المعنيين في غاية التباين، وذلك أن الكلي هو إدراك المعنى العام وجل المعقولات الحاصلة لنا منها تحصل بالتجربة.. والمحسوسات هي المحركة للحواس والمخرجة لها من القوة إلى الفعل.. ويرى ابن رشد أن مختلف الادراكات والصور والمعقولات هي لحظة من لحظات الفعل الإنساني وهو يعتمد التجربة والعقل في فهم وإدراك الوجود المادي. وعليه، فإن هذه المعقولات تمكن الإنسان من استكمال ذاته و كينونته، بما تمنحه له من مبادئ وتصورات يسترشد بها في ممارسته وعمله ونظره وفهمه وحكمه وتمييزه بين الأشياء والأفعال، وفي (اختياره وحريته وتحويله للواقع وفق ما يخدم وجوده واستمراريته)..

   “لولا العصيان لم كبر طفل في هذا العالم”.. يصبح العصيان المدني واجبًا  وطنيًا مقدسًا عندما تصبح الدولة فاسدة.. والعصيان ليس شيئًا نتعلمه.حيث يقول إريك فروم يبدأ تاريخ الإنسان بفعل عصيان الإنسان الذي هو في نفس الوقت بداية حريته وتطور عقله. في مقدمة بحثه “العصيان المدني مدخل إلى الديمقراطيَّة” كتب عزّ العرب لحكيم في May 2021 تبنى الديمقراطيَّة على ركيزتين أساسيتين: الأولى مؤسَّسات سياسيَّة تُفوَّض لها مختلف السلطات وفق قوانين يُجمع المواطنون على عدالتها، أو، على الأقل، على شرعيتها، والثانية منظومة قانونيَّة تراقب النظام السياسي، وتمنع الانحراف بإستعمال العنف في اتجاه يناقض مبدأ دولة القانون. ومن خلال هاتين الركيزتين، لا يحقُّ للسلطة السياسيَّة أن تحُلَّ محلَّ المنظومة القانونيَّة في ضمان مشروعيَّة المؤسَّسات الديمقراطيَّة، في حين يحقُّ للمواطن أن يعترض على قوانين يرى أنَّها غير عادلة من خلال اللجوء إلى القضاء الدستوري. ورغم توافر إمكانيَّة المراجعة الدستوريَّة (Judicial Review)، التي تبدو، بالنسبة إلى فقهاء وفلاسفة القانون، أمثال: دووركين، ورولز، وهارت، وكلسن، وراتز وغيرهم، ركناً أساسياً من أركان دولة القانون الحديثة، يظلُّ هناك اعتقاد قوي لدى العديد من المنظّرين السياسيين بأنَّ ((الديمقراطيَّة لا تستقرُّ داخل المجتمع إلا بإحداث توازن دقيق بين شرعيَّة القانون ومشروعيَّة السلطات الديمقراطيَّة المكتسبة عبر الانتخاب)) من جهة، و((المقاومة السلميَّة للقوانين والقرارات السياسيَّة من خلال اللجوء إلى العصيان المدني السلمي)) من جهة ثانية أكثر عملية في وجود “النخب الحقيقية” نقطة أول السطر.

   “العصيان”، مجرد حركة مقاومة وعصيان ضد دولة أو سلطة سياسية صاحبة سيادة على أرض العصيان أو أفراده. والعصيان في حقيقة الأمر له أشكال متعددة فمنها العصيان المدني.. ومنها العصيان المسلح في بعض الأحيان والعسكري في أحيان أخرى.. العصيان حالة من سلسلة تتمثل بالامتناع عن القيام بالأعمال والمهمات أو عدم السماح للسلطات بممارسة دورها ومهماتها كالجباية والأمن والإدارة على سبيل المثال وليس الحصر.. وذلك بهدف الحصول على بعض المطالب والمكاسب من خلال الاعتصام المدني السلمي خصوصًا. والعصيان بذلك أرفع درجة من الاضراب وأدني من الثورة في سلم التحركات الاجتماعية ضد أوضاع إجتماعية سائدة.. ومن اجل تحسين أوضاع اجتماعية سائدة (ضد سلطات فاسدة وفاقدة المصداقية الوطنية والاجتماعية). العصيان المدني هو أحد الطرق التي ثأر بها الناس على الأوضاع والقوانين الغير العادلة. وبالرغم من أشتراك العصيان المدني مع الأضراب (و خصوصًا الإضراب العام) في كونهما وسيلتان تستخدمهما الجماهير للمطالبة برفع ظلم أصابها.. العصيان المدني هو رفض الخضوع لقانون أو لائحة أو تنظيم أو سلطة تعد في عين من ينتقدونها ظالمة. وينسب هذا المصطلح للأمريكي “هنري دافيد ثورو” كان قد استخدمه في بحث له نشر عام 1849، في أعقاب رفضه دفع ضريبة مخصصة لتمويل الحرب ضد المكسيك، بعنوان “مقاومة الحكومة المدنية”.

   لا يوجد إجماع حول تعريف العصيان المدني. وقد كان لكل من جون راولز و ج. هابرمس تعريف خاص به. فوفقا لما ذكره راولز: يمكن تعريف العصيان المدني على أنه عمل عام، سلمي، يتم بوعي كامل، ولكنه عمل سياسي، يتعارض مع القانون ويطبق في أغلب الأحوال لإحداث تغيير في القانون أو في سياسة الحكومة. أما بالنسبة لهابرماس: فينطوي العصيان المدني على أعمال غير قانونية، ونظرا لطابعها الجماعي، فهي توصف بأنها عمل عام ورمزي في آن واحد وتتضمن كذلك على مجموعة من المبادئ. إنها أعمال تشتمل في المقام الأول على وسائل للاحتجاج غير عنيفة أو عنفية تنادي بالقدرة على التعقل وتخاطب حس العدالة لدى الشعب. ويتسم فعل العصيان المدني بست خصائص: اولا، هو خرق واع ومتعمد للقانون. كما أنه أنتهاك لقاعدة قانونية وضعية. فإذا كان الانتهاك يقوم على القاعدة محل الخلاف مباشرة، فنحن بصدد الحديث عن عصيان مباشر. ثانيًا، هو سلوك شعبي سلمي وهو ما يميزه عن العصيان الإجرامي.. وتهدف الدعاية في حالة العصيان المدني إلى استبعاد كل الشكوك حول “أخلاقيات الفعل” فضلا عن إضفاء قيمة رمزية عليه وإلى استقطاب أكبر عدد ممكن من الجمهور والرأي العام. ثالثًا، يندرج فعل العصيان المدني تحت مبدأ الحركة الجماعية.. وهكذا يكون العصيان المدني بطبيعته عمل يحمل رسالة جماعية من اجل الجميع. رابعًا، العصيان المدني هو حركة سلمية تهدف إلى الدعوة إلى إطلاق حوارات عامة. ولبلوغ هذا الهدف، فهو يخاطب الوعي الغائب أو المغيب للشعب ويخاطب “الضمير الغائب للأقلية الحاكمة”. خامسًا، يسعى العصيان المدنى – وفقا لمؤسسي فكرته – إلى إدراك غايات مستحدثة. كما يهدف إلى «إلغاء» أو على الأقل تعديل القاعدة محل النزاع. سادسًا، ينادي القائمون على العصيان المدنى «بمبادئ عليا» تتفوق على الفعل موضع النزاع. وهو دون شك أهم ما يميز العصيان المدنى، إذ أن هذه السمة هي ما تضفى عليه “نوعا من الشرعية”.

   السياسة الواقعية فن الممكن من اجل تحقيق ما يعتقده بعض المتشائلين مستحيل.. التمرد أيضًا فن، ومثل كل الفنون لها قوانينها.. كما إن التمرد هو أقدس الحقوق وأهم الواجبات والتي تصبح معه القناعة الواعية بعدم التعاون مع الشر التزام أخلاقي مثله مثل التعاون مع الخير. لا يوجد شخص آخر كان أكثر بلاغة وحماسة وواقعية في إيصال هذا الفن السياسي والفكرة من هنري ديفيد ثورو. نتيجة لكتاباته وشهادته الشخصية، نحن ورثة ميراث من الاحتجاج الخلاق والأخلاقي. من أهم الأعمال التي نشرت بعد وفاة ثورو مقالته “العصيان المدني” التي أكد فيها الكاتب مبدأه الأساسي الذي يقول إن الناس يجب أن يكونوا أحرارًا يتصرفون حسب ما تمليه عليهم أفكارهم الخاصة فيما يتعلق بالصواب والخطأ، ودون تدخل من جانب الحكومة. ونادى ثورو في مقالته الشهيرة تلك بما يعرف الآن بالعصيان المدني الذي طبقه حين رفض دفع الضرائب. وكان لذلك الكتاب تأثير عظيم على بعض أصحاب الدعوات الإصلاحية مثل الكاتب الروسي ليو تولستوي والزعيم الهندي المهاتما غاندي وعشرات القادة الملهمين في هذا العالم الذي أصبح العزف السياسي فيه مجرد نشاز. يقول ثورو في اللحظة التي تبدأ قدماي بالمشي تبدأ الأفكار في رأسي بالتحليق. ويضيف، الإنسان الحر في أي مجتمع عليه واجب كسر القوانين الظالمة. والتمردُ وعدم الانصياع هو عِمادُ الحرية الحقيقي، أما الطاعة فهي أساس الاستعباد. كما إنه في أي مجتمع متحضر، تقع على عاتق كل مواطن مسؤولية إطاعة القوانين العادلة. لكن في الوقت نفسه، تقع على عاتق كل مواطن مسؤولية عصيان القوانين الجائرة. كما يجب على المرء أن يعرف الحياة على أنها عصيان منظم لقانون الجاذبية. يمكن للمرء أن يظهر أن الدرجة التي يعصي بها الكائن الحي لهذا القانون هي مقياس لدرجة تطوره واستمراريته. تاريخيًا، لم تنتج أفظع الأشياء – الحرب والإبادة الجماعية والعبودية – عن العصيان ، بل عن الطاعة كما يقول هوارد زين. نعم، لقد حان الوقت، أو على وشك أن يأتي، عندما يكون العصيان المدني على نطاق واسع فقط، والذي يجب أن يكون سلمي وغير عنيف، هو الذي يمكن أن ينقذ العالم من الموت العالمي الذي تستعد له حكوماتهم وحروبهم العبثية.

   هل نحن من البلاد والشعوب العبثية؟هل نحن من الشعوب والبلاد التي غاب عنها الوعي الذاتي والوعي الموضوعي والإدراك الحسي والإدراك التجريبي وسيادة العقل والعقلانية!؟.. هل أصبح الوعي والإدراك في بلادنا لعنة مزمنة وأشد خطورة من الإفراط في المخدرات الطبيعية والمخدرات السياسية!؟.. هلى أصبح الوعي والإدراك مرض وشدة الإدراك والوعي مرض حقيقي وخطير ومزمن!؟.. هل أصبح الوعي لعنة مزمنة، كارثة مهولة، منفانا الحقيقي!؟.. هل أصبح الجهل وطن والوعي منفى!؟.. هل أصبح وعي الضرورة تهمة تحاسب عليها السلطات العليا!؟.. هل أصبح وعي الضرورة أنتهاك لمصالح الدولة العليا والسفلى!؟.. وهل أصبح والعياذ بالله ضرورة الوعي اتصال بدولة أجنبية وخيانة عظمى!؟.. يقول ألبير كامو في أسطورة سيزيف: “إذا كنتُ أرغب في الالتزام بالحقائق، فإنني أعرف ما الذي يريده الإنسان، وأعرف ما الذي يقدمه إليه العالم، والآن يمكنني أن أقول إنني أعرف أيضا ما الصلة بين هذا وذاك، ولا حاجة بي إلى أن أتعمق أكثر من هذا” إن هذا التفاوت، بين ما يريده الإنسان وما يُقدم له، وهو التوافق الأوحد بين الإنسان وعالمه، هو ما يطلق عليه كامو، على نحو محير قليلاً، “العبث”. فهناك فجوة بين ما نريده وما يمكن أن نحصل عليه، ويقول كامو إن هذه الفجوة هي صلتنا واتصالنا بالعالم. ولا يمكننا على أرض الواقع أن نتغاضى عن احتياجاتنا، كما لا يمكننا اجتناب المتاح بالفعل، وهذا ما يسميه كامو “الحقائق” . ويسميه فرويد “مبدأ الواقع”…!؟ كل هذه الحفر والاتجاهات والإشارات في طريقي يقول “الماغوط” ويجب ألا أتعثر أو أحيد خطوة واحدة! وكل هذه الأمطار والأمواج المتلاطمة يجب ألا أتبلل بقطرة واحدة! وكل هذه المستنقعات والعلل والأمراض والتلوث والأغذية الفاسدة والزيوت المهدرجة والنفايات الكيميائية والنووية والعضوية والبرد والرياح والثلوج العاصفة ويجب ألا أصاب حتى بالزكام!.. لذلك أحتفظ دائماً بين دفاتري بما يلزم من قطن وضمادات وإسعافات أولية فأنا لا أكتب.. بل أنزف…!

Visited 24 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمود القيسي

كاتب لبناني