الفظيع بعيون نسوية في ” سيرتنا” (2-3)

الفظيع بعيون نسوية في ” سيرتنا” (2-3)

لحسن أوزين

 

2- التعامل الإبداعي مع خبرة الفظيع

   “الفن والفاعلية الإبداعية عموما، تحاولان عبر الاشتغال على ما هو غريب وخطر وبشع، مستحيل، الفظيع، أن تبقياه في الذاكرة وتمنعا جرف النسيان له، لكن بعد فكه عن الموت، وربطه بانفعالات مغايرة. فإذا كان أسوأ الفظيع ما فيه تفنن وإبداع في التنكيل وتخريب كيان الحي، فإن أعظم الفن والإبداع ما هو فظيع في تمثيل الفظيع، متمرد على المألوف وخالق لكائنات جديدة وأشكال جديدة”. (الفظيع127)

نصوص سيرتنا تتخطى كل هذه الترهات والحسابات القامعة للإنسان في التعبير والفضح والتأريخ لبشاعة الفظيع. وتجاوز الحدود التي تجعل الخبرة والتجربة تستعصي على القول والتعبير، والإبداع الفظيع الذي يخرج العيون من محاجرها. إنها، نصوص، تغضب وتصرخ وتندد وتحتج بكرامة في وجه الفظيع. تقلب اللعبة القذرة، حتى ينقلب السحر على الفظيع الساحر، الدموي لأنظمة الطغيان التي تشرب من عروق الناس ولا ترتوي. تأخذ الكتابة من خلال الإبداع شكلا أدبيا يجعل التابع/النساء يمتلكن القدرة على انتزاع حق الكلام دون خشية لومة لائم.

تستعيد النساء، عبر الذاكرة، وبتوسط من اللغة، الفظيع في بشاعته، في قتله، في إرهابه، في المعاناة الرهيبة والمؤلمة التي  رمى فيها شعبه، دون شفقة ولا رحمة. تحاول كل واحدة منهن، انطلاقا من الكتابة/ السيرة، تصفية الحساب مع ما خزنته النفس من رعب. وما سكن الأعماق من أشباح أعاقت تجدد الذوات، بعد أن اغتصبت سيرورة الفظيع حياة وعمر الإنسان، وقدفت به في عراء المنافي، كقنينات فارغة، أو كأشياء فقدت صلاحيتها، ولم تعد قابلة للاستعمال. تستحضر النساء في نصوصهن يوميات خبرة الفظيع، في أرض الوطن، والمحن الشاقة والقاسية التي كابدوها خارجه، في صراع قاس وشرس وعدواني، لاستعادة الذوات المفقودة، التي زادتها الغربة، وعسر الاندماج أو الانتماء الى المكان، قلقا وخوفا و ألما يشوبه الكثير من العذاب. “هذا المنفى الذي تاهت فيه خطواتي، فقدت سنين سهري مع الكتب معناها، تحولت سيرتي الذاتية الصاخبة الى مجرد ورقة مستعملة انتهى مفعولها وتحتاج الى تحديث لم تعد نفسي تطيقه”. 35

تحفر الكتابة في أعماق النفس، تزلزل أثقالها التي ترسبت في القاع، بفعل صدمة الفظيع، في تناميه المخيف، المولد لأبشع صور وألوان القلق والخوف. تتعمد الكتابة أن تكون قولا صريحا كاملا ما أمكنها ذلك في التخلص من التأثيرات السلبية التي رسختها خبرة الفظيع. تعيد النساء قراءة التجربة، التفكير فيها، تأملها، الاقتراب منها، قصد إزالة الالتباس والغموض البشع الذي سيجها. تشتغل آليات الكتابة في التقطيع الزمني، والتفكيك الوقائعي، وإعادة التركيب، لسيرورة الفظيع، الهارب المنفلت من أي معنى. تواجهه الكتابة كسيرة فردية/ جماعية/ مجتمعية. تعري حقيقته اللاإنسانيته القذرة. تضفي عليه معنى، كما لو أنها تكشف فظاعته الإجرامية التي يتستر عليها إعلاميا وسياسيا. تمسك به حيا بتوسط جمالي لفنية الكتابة، التي تجمع بين السردي والشعري واليوميات، والرسائل والسير الذاتي، والشكل الروائي في اشتغال النصوص كبنيات وخصائص مجردة أدبية مولدة ليس فقط لفنية الكتابة، بل أيضا، في الوقت نفسه لمتعة وجمالية القراءة.

“هكذا نحن ندفن أينما حللنا جزءا من أرواحنا لتدل على أوجاعنا، فيا جرحي لا تكابر وطني أصبح حقيبة وأنا أصبحت مسافرا”. 252

إننا إزاء إبداع ساحر يحرر الذوات المبدعة لهذه النصوص، التي عاشت خبرة شر الفظيع، وتداعياته المؤلمة عبر محطات التهجير والمنفى. تسلك النساء هذا المسلك الإبداعي بعد معاناة طويلة، مشحونة بقدر ضخم آهات وآلام التي جشمت وحطمت ومزقت حياتهن، في الداخل والخارج، مرورا بسلسلة من التجارب الفظيعة في البحث عن ممرات ومناطق وبلدان آمنة. كما أننا أمام إبداع يجعل القارئ معنيا بكل ما واجهته هؤلاء النساء من محن وفظاعات في الواقع الحي الكارثي والمأساوي. كما أنه معني باستراتيجية الكتابة في القبض على الفظيع، وتحويله إبداعيا الى أدب جمالي “فظيع” في تملكه لخبرة الشر، من خلال النص المتعدد المضياف لمستويات مختلفة من الأشكال الإبداعية من السيرة والشعر واليوميات والشكل الروائي…

تورطنا نصوص الكتاب في بشاعة الفظيع ونحن نتذكر المحرقة التي عشنا لحظاتها الرهيبة، كما هي مخزنة في الأعماق، محطمة للقلوب والعقول، ومدمرة للجسد في قوته ونشاطه وحيويته ومناعته. “في الثامن من حزيران، توجهنا الى كامب ليباخ بساربروكن، لم تدم إقامتنا بالكامب سوى 32 يوما، لكن الزمن لم يرحمنا في هذه الفترة القصيرة أيضا لنسمع بفاجعة كوباني، حيث تم ذبح الرجال والنساء والأطفال وهم نيام من قبل وحوش بشرية، راح ضحيتها قرابة 250 و271 جريحا،، تألمت أكثر لجارتي في الكامب لأن أهلها أيضا كانوا من الضحايا وتم إسعافها لأكثر من مرة، ااااااااااخ… إنه الوجع الكردي أينما حللنا”. 255

 لكننا من جهة أخرى نكتشف عظمة الانسان المعجزة في الصمود والبقاء والتجدد والقدرة على الكلام والحضور والإبداع. خاصة وأن خبرة الفظيع متعلقة بالنساء، وهن جزء من الفئة التابعة/ العمال والفلاحين والنساء…، التي فرض عليها تاريخيا، بالقهر والتسلط السياسي الاجتماعي للنظام الأبوي ذي المركزية الذكورية، أن تبقى صامتة مهمشة مقهورة منبوذة ومنسية…

كما أن القارئ العادي البعيد كليا عن هذه المحرقة كما جرت أحداثها الملموسة على أرض الواقع الحي، تورطه القراءة في سيرورة بناء المعنى، لمحاولة فهم حقيقة هذا الفظيع المستحيل الذي تحقق في التاريخ البشري، كوقائع غريبة لحاكم يقتل شعبه، ويحكم عليه بالتهجير هروبا من موت محقق. ومن أحشائه العطنة خرجت وحوش بشرية دينية وعصبية وطائفية…

إنها سيرة موجعة كتابتها تجعل قارئها معنيا بالتلازم البنيوي بين الفظيع والموت. وبشكل لا يقبل أي شكل معروف في السيرة المنكفئة على نفسها. لذلك هي تميل بوضوح الى تعرية الترويع والخراب والحرائق التي لا تقبل الجدل والشك في حدوثها الكارثي كخراب أتى على كل ما هو متعارف عليه بين الناس في الأنظمة الرمزية والثقافية والاجتماعية. على هذه الفظاعة تشتغل نصوص الكتاب من زاوية التمثيل والتشخيص. تمنحها شكلا إبداعيا، حفظا للذاكرة، وحماية لها من النسيان.

ومحنة البشاعة نفسها نلمسها بكافة جوارحنا بين شقوق وطيات النصوص الحاملة لعذابات القهر والتخلي التي عاشتها نساء السودان والايتريات. فالأنظمة اللاوطنية الشمولية تتشابه في قهرها وهدرها للإنسان والوطن. وفي نظرتها اللاإنسانية الى الشعب في تبخيس قيمته، وسلخ بعده الإنساني. هكذا كانت تجربة ضريبة المنفى بالنسبة لحرية علي جامع التي وجدت نفسها في موقف حاسم  لا يمنح متسعا لحرية الاختيار في تحديد المسار، والتحكم في زمام المصير. “كان المهرب الوحيد هو الهروب وترك حريتي في بلد لم تكن فيه الحرية من يوم ولدت”. 42

لذلك عاشت أنواعا مختلفة من الاضطهاد داخل البلد، وفي الغربة في السودان بين بعض الأقارب الذين ضيقوا عليها الخناق. وأيضا من خلال النظرة السودانية التحقيرية والاستغلالية التي مارست في حقها الكثير من الظلم والبشاعة العدوانية في المس بالكرامة والتقدير. وتطورت هذه البشاعة الى حد الفظاعة في السعودية عندما استبيحت حياتها، بتعرضها للإهمال والتحرش، ووضعت في مكانة ما دون خط البشر. “لم يعد بيدي حيلة بسبب هذا القهر الذي عشته وأنا في الغربية، لم أتعب نفسيا فقط، فالخوف والقلق الذي عشته ظهر على جسدي، ألم في كل جهازي الهضمي، كنت أتقيأ دما… كلما أذهب الى كفيلتي وأخبرها أنا تعبانة تقول لي: “الشكوى على الله”. 46

 لكن امتلاك القدرة على التعبير عن هذه المحنة المؤلمة يعد خطوة رائعة في التعافي، وفي تحرير النفس من عبء التركة الثقيلة للقهر والاضطهاد والفظاعة التي دمرت الروح وانعكست خطورتها على توازن الجسد الذي صار مأوى لمختلف الأمراض. تأتي الكتابة في “سيرتنا” لتحد من تدفق البشاعة، ونزع سطوة الفظيع التي حالت دون التعبير والكلام. وانفتاح الرؤى، وانبثاق فرح الأمل في انتصار الحياة على القهر والخوف الذي ألجم اللسان والعقل في تعظيم فرص البقاء والمقاومة هزما للفظيع، فعلا وكلاما وكتابة…

3- الكتابة للسيطرة على الفظيع والحد من تأثيره

   “لا زلت أشعر أن طعم الدم يقطر من فمي، وأنا أتصفح صورهم كشريط سينمائي لا يحتاج الى تقنيات وخدع لإتقان مشاهد الرعب، وفي الجانب الآخر أرى جثثهم تحترق ويحترق معهم قلب المدينة المتعب، وكلما سمعت خبرا عن توغل الشر كثيرا في قلب الشوارع والمدن البغدادية، أرسل سلاما لقلب أمي المرتجف خوفا على فلذات كبدها وسط عصف الانفجارات التي لم تخجل من شيبتها يرما”. 223

لكم هي رائعة وجريئة فكرة هذه الورشات (ليس سوانا يكتب سيرتنا)، في اختيار مسلك الكتابة للسيطرة على الفظاعة والبشاعة والقهر، وكل أنواع الآلام والعذابات التي واجهت هؤلاء النساء، من خلال التمثيل. إنها الفظاعة التي خلفت في النفس والذاكرة جراحات عميقة، ولدت مختلف الأمراض النفسية والاجتماعية والجسدية والروحية. لكن بالكتابة وفي الكتابة، تبعا لهذا الشكل السيرذاتي من الفاعلية الإبداعية يلمس القارئ  نوعا من الحوار والتأمل والتفكير المسكون بحرقة الأسئلة. “هل دمر فقد الوطن بنياننا الداخلي الذي قضينا عمرنا كله نبنيه، أم أن ذلك الوطن عرى نقاط الضعف فينا؟… قد أجد يا وطني يوما إليك سبيلا… ولكن كيف أجد سبيلا لمن كان يقطنك”. 38 و39

هكذا يشتغل منطق الكتابة وآلياتها في الحفر والمساءلة والقراءة، للوقائع والأحداث المؤلمة. يتم هذا عبر الاشتغال الفني على تجربة خبرة البشاعة والاضطهاد والقهر والفظاعة. يظهر ذلك جليا انطلاقا من عناوين كل مساهمة في هذا السيرة الجماعية: الهجرة تليق بك أيها الحزن، ضريبة المنفى، غربة الروح، سأقتلك… أيها الخوف…

هذه العناوين كعتبات مشحونة أدبيا ورمزيا وشعريا، بما يجعلها تملك قوة العبارة والصياغة والتركيب في توليد دلالات قادرة على السيطرة على الفظيع والحد من سطوته وقهره المزمن للنفس البشرية التي  عانت طويلا من احتلاله البشع للجسد والروح.

تستعيد الذاكرة شر المأساة القابعة في الأعماق، تستحضرها. تحاول دفعها للخروج، كما يفعل مشعوذ ديني، أو دجال  لإخراج الجن الساكن في جوف الممسوس، وهو يعتمد على طقوس غريبة. لكن الكتابة تقتحم بتمثيلها الأدبي الرفيع حصن الفظيع الذي يصر على احتلال الذات، وتدميرها مستعينا بآليات التخويف والترويع والإرهاب التي رسخها في جوف الأبرياء. فللكتابة مفعولها السحري في القذف بهذا الرعب والفظاعة، لتصير سردا، حكاية، تاريخا يذكر بالفظيع، الذي التهم الوطن وأباد وهجّر كما يحلو له. نصوص مكتوبة بالدم، تحرسها الأرواح التي أزهقت ظلما وعدوانا، في البر والبحر، حيث كان الفظيع يختبئ في محطات العبور، وبين تجار قوارب الموت التي تبيع أحلام الخلاص الكاذب، وهي تستنزف أموال الهاربين من فظيع لأخر. غالبا ما يقدمهم هدية ولقمة سائغة لفظاعة البحر. “كنت أموت حتى نبضات قلبي تتوقف عندما يسقط الموج فوقنا ونطير من مقعدنا وصوت الأمواج المميتة.. نعم، إنها رحلة الموت…”. 115

هكذا تتسع الذاكرة، تنتعش وتتنفس بعمق، ويختنق النسيان والموت، بعد أن تمدد الكلام، واعتلى منصة الكتابة، في شكل “سيرتنا”، كتابا مسطورا يخشاه النسيان.

<

p style=”text-align: justify;”>“أود الذكر أني التقيت عائلات عانت الويل، وسمعت قصصا عن مخاطر الطريق والغابات وعن حالات وفاة في الغابات من الجوع والتجمد والبرد، سيرة تطول ولا تنتهي من معاناة السوريين، فقط اسألوا أشجار الغابات والبحار لتخبركم عن أنيننا ووجعنا، حتى الآن مجرد أن أسمع صوت حسام جنيد وهو يترجى البحر أن يخف غضبه علينا لأن السفينة فيها أطفال… أجهش بالبكاء حتى الثمالة”. 249

Visited 24 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي