من سيمون دو بوفوار إلى نيلسون أليغرين: مجرد الكتابة إليكَ يشعرني بالسعادة

من سيمون دو بوفوار إلى نيلسون أليغرين: مجرد الكتابة إليكَ يشعرني بالسعادة

  ترجمة: سعيد بوخليط

 

الثلاثاء 24  يونيو 1947

نيلسون حبيبي،

لقد أصبحتُ مدمنة على عشق اسمكَ، وأنا أتأمل حروفه مرسومة بيدكَ عند أسفل كل رسائلكَ المحبوبة للغاية، فقررتُ تقليد استخدامه، نعم، لقب رائع، يليق بـ” إنسان أنيق للغاية”، وينطبق عليك جدا.

حقيقة، إنه اسمكَ الخاص وهذا يكفي، لا أرغب قط في أن يعرف أدنى تعديل، بل أتناوله بالمطلق كليا.

إذن، يانلسون حبيبي، اعلمْ بأنَّ الريف رائع هذا المساء، هادئ، صامت، دافئ.

أعجزُ عن نقل جوهر الصورة حسب مَعِين قاموسي من كلمات اللغة الانجليزية.

بمعنى ثان، رائع بالنسبة إلي الكتابة باللغة الانجليزية: لا يمكنني الوقوع في شَرَكِ أيِّ أدب سيئ بل ولا أيِّ صنف من الأدب، مادمتُ أقول فقط ما يلزمني قوله، بطريقة مباشرة جدا وبكل تجرُّد.

حياة الريف وديعة، يسودها السكون والدفء، إنها جذابة.

عقب تناول وجبة العشاء، جلستُ مدة طويلة وسط الساحة وأنا أتأمل السماء وهي تفقد مستويات ألوانها الزرقاء والوردية، كتلة القمر الصغيرة اللامعة فوق سقف البيت.

سعيدة لأنِّي كائن إنساني يمتلك عينين وقلبا. رائعة الورود حينما تتفتح!

لم أعشق الأزهار بهذه الكيفية، سوى بعد أن اشتريتَ باقة وقدمتها إلي (شرعتُ أقضمها بشهية لذيذة)، لكن هذه الورود تنتقل بي صوب الاندهاش.

غريب أن هذه الكائنات الجميلة، يمكنها التعبير عن عطائها دون إرادة شخص معين، لايعقل وجودها كهدية مع غياب واهب. فورا، يحيل البعض بهذا الخصوص على الإله، بيد أن الأمر هنا لايتعلق بنوع الهدايا التي بوسع الله تقديمها.

طيلة خط السكة الحديدية، الممتدة من بلدة سان ريمي غاية باريس، نعاين فقط أشجار كرز حمراء ثمارها، صورة مألوفة جدا منذ طفولتي، مع ذلك تبدو حديثة العهد جدا، مثلما يغدو شكلها مع حلول كل فصل جديد، نفس الوضع بالنسبة لمشاعر الحب التي أضمرها لكَ، تتجدد كل يوم.

حسنا، بعد الورود ونبات الكرز، موضوع أخلاقي أكثر، محتشم ويفتقد لحكاية، لنتحدث الآن، بنبرة شاذة ولوطية.

توجهتُ البارحة إلى ملهى ليلي ممتع جدا، اختلف الوضع هذه المرة، لم يتعلق الأمر بمغارة مثلما كان الشأن، بل مبنى طابق علوي: جمهور من البورجوازية الصغرى، صامت، مقرف، تافه، وأيضا الفرقة الموسيقية فقد كانت سيئة للغاية.

 في خضم ذلك وقع مشهد استثنائي: شابان وسيمان من صنف المتحوِّلين جنسيا، يتزينان بالماكياج، بتسريحة شعر طويلة ومتموِّجة، بلا شك تعرف هذا النوع من الظواهر. قد ينخدع البعض من هوية تلك النماذج، معتقدين بأنهن نسوة، صاحبات بنية جسمانية قوية وصلبة، لكنهن جميلات ومثيرات.

يكمن المدهش في خاصية الدور المسرحي الذي أدياه، خليط مربك مزج بين البذاءة والقصيدة. قصيدة غير متعمَّدة لكنها حقيقية. لقد أعادا مثلا تمثيل حكاية آدم وحواء، أحدهما تقمص دور شجرة الخير والشر، تماما كشجرة شارلي شابلن في فيلم ”شارلي الجندي”، إذا كنت تذكره.

كان هناك ثعبان طويل عاريا تماما، فقط بذيل أسود كبير، بجانب حواء قبيحة للغاية (بالتأكيد يظهران تقزُّزا نحو المرأة)، وآدم بقامة قصيرة يثير الضحك، ثم رجل/ تفاحة  لطيف؛ أدوا جميعا رقصات باليه مدهشة. توالت مشاهد ثانية، لكن الأخيرة كانت الأفضل.

بقيتُ هناك غاية الثالثة صباحا رفقة أصدقائي، نشرب نبيذا سيِّئا ونتابع مختلف ذلك.

أواصل الاشتغال على مضمون كتابي حول أمريكا، أوثِّق حاليا بين فقراته مختلف ما أشعر به، فيما بعد سأعيد قراءة الحصيلة وأبقي على المهم.

رويتُ تفاصيل الأسابيع الثلاث الأولى، وحينما وصلتُ مرحلة الحديث عن شيكاغو، بدا الموقف صعبا للغاية فقد عجزت عن التعبير بخصوص لحظة أول لقائنا.طبعا لن أتحدث عنا معا، لكن ماذا بوسعي معرفته عن شيكاغو إذا لم تكن أنت مصدره؟

نعم، يجدر بي العثور على وسيلة للإفصاح عن الحقيقة دون قولها. هكذا الأدب تحديدا، بعد كل شيء: أكاذيب حاذقة تلامس الحقيقة سرِّيا.

أمامي مشروع السفر إلى السويد خلال شهر غشت. هل تعلم شيئا عن هذا البلد، باعتباركَ نصف سويدي؟ هل تشعر بإحساس معين نحو ذلك البلد؟ لقد تُرجِمت إحدى مؤلفاتي هناك، بالتالي ارتفع رصيدي المالي قليلا، لكنكَ لا تقرأ اللغة السويدية، أليس كذلك؟

منهكة لأني نمت ليلة البارحة متأخرة جدا، أنا في فراشي أتهيأ للنوم.

كلمة أو كلمتين. ما أكتبه لايهمني، بل فقط مجرد الكتابة إليكَ يشعرني بالسعادة، كما لو أقبِّلُكَ، حمولة فيزيائية، أحس بعشقي نحوكَ على امتداد أناملي التي تدبِّجُ الرسالة إليكَ، رائع تلمُّس هذا الحب عبر كل جزء حي من الجسد، وليس فقط في الدماغ.

طبعا أن تكتب ليس أكثر متعة من العناق، بل جافة إلى حد ما.

وحيدة وحزينة، لكن أفضل من لاشيء: لا أملك خيارا ثانيا.

إذن أكتبُ أيّ شيء، كما ترى، حماقات، فقط حتى لاتدركني كلمة إلى اللقاء.

هذا الصباح أمضيتُ ساعة كاملة، في سطح مقهى ”فلور”، رفقة شابة أمريكية تعرفتُ عليها ذات مساء. شخصية لابأس بها لكن يا إلهي كم  هي غبية. مع ذلك، شكَّل اللقاء متعة كي أتكلم الانجليزية. بداية أصابني الخجل لكن مع مرور الوقت، تقاطرت علي الكلمات.

عبر نافذتي، أو حديقتي، أتأمل خلال كل الساعات الطائرات وهي تنزل ببطء صوب مطار مجاور أو تحلق بكل فخر.

أفكر فيكَ كل يوم، وأيضا في وقائع أخرى كثيرة، خارج كل المناسبة، تعيش معي، ليلا ونهارا. فلتأتِ حاليا كي تنام بجانبي.

إلى اللقاء، إلى اللقاء، أنا متعبة جدا. إذا لم ترغب في ترديد هذه الكلمة، فلتسافر صوب غرفتي عبر أحلامي، أتمنى أن تبادر، رغم أنها خطوة لم تتحقق أبدا فعليا، امتناع من طرف يبدو شيئا ما، غير لطيف.  

أحضنكَ عبر هذه الورقة. سأغمض عيني، حينما أطفئ ضوء الغرفة، كي تستعيد شفتاي مرة أخرى طَعْم قبلاتكَ، أتخيلني بين ذراعيكَ، أرغب حاليا في النوم على إيقاع هذه الصورة.

سيمون كلها لكَ.  

___________________   

مصدر الرسالة:

<

p style=”text-align: justify;”>Simone de Beauvoir :un amour transalantique (1947 -1964) ;Gallimard1997.PP :50.53  

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي