بابلو بيكاسو في ذكري رحيله الخمسين: عبقريّ الرّسم والتشكيل والرّيشة والقلم
د. محمّد محمّد خطّابي
احتفلت الأوساط الثقافية والفنية في اسبانيا على أوسع نطاق، بعبقري الرّسم والتشكيل والإبداع المالقي العالمي بابلو بيكاسو، بمناسبة مرور خمسين سنة على رحيل هذا الفنان العبقري وحيد عصره، وفريد زمانه الذي كان قد ولد فى الخامس والعشرين من شهر أكتوبر 1881 بمدينة مالقة الاندلسية الإسبانية، وتوفّي فى الثامن من شهر أبريل من عام 1973 بفرنسا.
من المعروف أن الفنان بابلو بيكاسو لم تنحصر شهرته في عالم الرسم والتشكيل وتحقيق شهرة عالمية واسعة في هذا المجال وحسب، بل أضيف إلى الذخيرة الفنية الإبداعية الهائلة لهذا العبقري في عالم التشكيل، ذخيرة أخرى من نوع آخر في مجال علم الجمال، والإبداع، وفن القول الجميل باعتباره أديباً كاتباً إلى جانب كونه رسّاماً، وفنّاناً تشكيلياً بهرت رسوماته ولوحاته التكعيبية المميّزة العالمَ أجمع في العقود الأخيرة من القرن العشرين المنصرم وما فتئت تبهرنا بذهول إلى اليوم.
فقد تمّ العثور في اسبانيا منذ بضع سنوات على شذرات ومقطوعات نثرية وشعرية مجهولة من طرف دارسيه والمتتبعين لأعماله من نقّاد الفنون التشكيلية في مختلف انحاء المعمور، ذلك أنّ بعض نصوصه الأدبية التي كانت قد نشرت من قبل في فترات متباعدة، قد تمّ نشرها مجتمعة في باريس في كتاب مستقلّ فى دارالنشر الفرنسية الشهيرة (غاليمار) في طبعة مزدوجة أنيقة باللغتين الاسبانية والفرنسية، وذلك حسب اللغة التي كتبت بها إبداعاته فرنسية كانت أم اسبانية، قد لفتت أنظار الأوساط الأدبية والفنية سواء في باريس أو مدريد على وجه الخصوص نحو هذا الحدث الأدبي المثير. ولقد أثارت كتابات بابلو بيكاسو من جانب آخر فضولاً كبيراً لدى القرّاء والمتتبعين لفن وحياة هذا الفنان العبقري الذي طبّقت شهرته الآفاق. ولقد كشفت هذه الكتابات أنّ ثلثي من مجموع ما كتبه بيكاسو لم يسبق نشره من قبل.
وننقل للقرّاء فيما يلي من اللغة الاسبانية (من ترجمة صاحب هذه السطور)، بعض النماذج الشعرية والنثرية لهذا الرسّام التشكيلي- والكاتب الاديب الذي اتّضح لنا الآن أنه لم يكن يجيد إستعمال الريشة وإتقان الرسم في مختلف أشكاله ومدارسه وأصنافه وحسب، بل إنه أبدع فى استعمال القلم كذلك كما سنرى لنا بعد قليل.
عضّ السّبع على خدّه!
وكتابات بيكاسو في الواقع إنما هي محاولة لترجمة شطحاته في عالم الإبداع التشكيلي، لذا فنحن واجدون في النماذج القصيرة التي نسوقها للقارئ، نوعاً من الإفصاح العلني عن غاية كتاباته وأبعادها، ومدى تداخلها وإقامة جسر بينها وبين رسوماته، وعليه فانّ كلمات مثل: الرّسم، اللون، الريشة، الليل، الغسَق، الأصيل، المصابيح، النار، الدم، الطيور، الحمائم، الشمس، البحر، الغاب، الهياكل، الهشيم، الديدان، الدموع، الثيران، الخراب وسواها ممّا يشكّل مفردات أو مواضيع أو مضامين رسوماته يكثر تداولها في كتاباته سواء كتبت بلغة الشاعر الأصلية الاسبانية، أو كتبت باللغة الفرنسية التي أجادها بعد إقامته الطويلة في فرنسا، و فيما يلي بعض هذه النماذج:
عندما تصفّر الرّياح
لن أرسم بعد اليوم السّهم
الجاعل من قطرة الماء هدفا له
المرتعش عند الغسق
عندما تصفّر مع الرياح
السّاعة المكتوبة
التي تتهادى بها الأرجوحة
على أنغام ضحكاتها
سأعضّ السّبع على خدّه
ويشير الكاتب الفنان بيكاسو متهادياً مترنحاً متغنياً صادحاً في شطحاته وخيالاته الفسيحة وهو يقول: أعطى، أقلع، أعوّج، أقتل، أخترق النيران، وأحرق، ألاطف، ألعق، أقبّل، أنظر، أقرع جميع النواقيس حتى تنزف دماً – أرهب الحمائم وأجعلها تطير من فوق أعشاشها وتهوي إلى الأرض ميتة من الإنهاك، أغلق جميع النوافذ والأبواب بالتراب. وشعرك سوف أخنق جميع العصافير الصّادحة، سأقطف جميع الورود، وألهو بالحمَل في يدي وأجعله يلتهم شَعر صدري، سأغسله بدموع حبوري وهمومي، سأجعله ينام تحت أنغام عزلتي المشمسة، سأحفر بماء النار حقول القمح والقرطمان حتى تموت في مواجهة الشمس، وسوف ألفّ الأنهار في ورق الجرائد ، والقي بها من النافذة إلى الجدول ،وعلى الرغم من ندمه، إلاّ انه سيلملم ذنوبه و يمضي جذلاً ضاحكا فرحاً هاشّاً باشّاً ويضع عشّا له في بالوعة ،سأكتم صوت الموسيقى في الغاب. وأهشّمها على الصّخور وأمواج البحر، سأعضّ السّبع على خدّه بقوّة ، وسأجعل ابن آوى يبكي حناناً أمام لوحة من ماء حيث يترك يده تتساقط فيه من غير اكتراث. (17 أيلول – سبتمبر 1935).
رائحة سنبل الطّيب
ويضيف بيكاسو في ذات السّياق نفسه قائلاً : من حجرة إلى حجرة تسبح هياكل الماء، قطاف عناقيد عنب محركة طبيخها تحت لباب الخبز، والآلة الراقنة تلد القطط والفئران داخل قفص الذباب المتأرجح لتأجير جحور الديدان، ولسعات تورّد الخدود، تودع صديد قطعة الشمس الميّتة والمنسيّة في ركن، خــرقة حليفة وقطيفة الجواهر وتصفيفات الدموع تسرج المصابيح، وتوقد مراجل حراب الثيران، ورائحة سنبل الطيب الرطيب.
فليـحرقوا اللهيب المتخفّي تحت الرّسومات الماثلة امام ناظري، وليذهبوا به أســيراً خلف لــطــخات العوْسَج، ملوّثة الأصبع في صبغة لوز الزّعفران، سابحة في مثلث شطّ أطراف اللّحاف الأسود، والسّخام المتساقط من الزنار الأخضر يكبّل الزمرة المهتاجة في السّاحة الكبرى المنسيّة في غياهب الزمن العاتي الذي ذهب بلا رجعة.