ذكرى رحيل محمد عابد الجابري
عبد الرحمان الغندور
رأيت الأستاذ محمد عابد الجابري أول مرة، حين حضر “مفتشا” للتعليم، ليفتش أستاذي للفلسفة، سعيد بنسعيد العلوي، المتخرج حديثا، وكنا نرى اسمه مرسوما على غلاف كتابي دروس في الفلسفة لتلاميذ الباكلوريا إلى جانب اسمي أحمد السطاتي ومصطفى العمري. ثم عرفته في مدرجات كلية الآداب بالرباط أستاذا لي منذ سنتي الجامعية الأولى، وعلى مدى أربع سنوات، حيث درست عليه علم النفس والفكر الإسلامي والابيستيمولوجيا.
وفي نفس سنتي الأولى، تعرفت عليه عن قرب، في بيت فقير بحي المحيط بالرباط، يقاسمنا الجلوس على مقاعد خشبية مهترئة، في حلقات تكوينية لمناصلي القطاع الطلابي المنتمين للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والتي كان يتناوب عليها مع عمر بنجلون، ومحمد الحبابي، ومحمد لخصاصي، محمد جسوس…
أصبح بالنسبة لي محمد عابد الجابري، الأستاذ الجامعي، والمؤطر السياسي، والأخ المناضل، والصديق المحاور الذي نلجأ إليه كلما كبر السؤال واحتد النقاش وتراءت بوادر الصراع. واستمرت هذه العلاقة المتعددة الأبعاد إلى أن غادرنا رحمه الله. مرورا بكل اللحظات الحاسمة التي عرفها مغرب بداية السبعينات، من اعتقالات ومحاكمات وانقلابات ونضالات وبيانات وقرارات، ولا سيما قرارات 30 يوليوز 1972 التي ستعطي الانطلاقة للتحضسر للمؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي سيتأخر إلى يناير 1975 بفعل ما عرفه المغرب من أحداث، وما تعرض له النظام المغربي من هزات.
عرفت الرجل في المؤتمر الثالث للاتحاد الاشتراكي سنة 1978 وهو يرأس اللجنة السياسية التي عرفت أوج الصراع التي عاشها المؤتمر، بين الداعين لمقاطعة الانتخابات من جديد والعودة لصراع الستينات، وهم من سيشكلون في 8 ماي ،1983 مجموعة رفاق الشهداء، (حزب الطليعة فيما بعد) والمتشبثين بخيار استراتيجية النضال الديموقراطي الرامي إلى تحقيق التراكم المطلوب عن طريق الالتحام بالجماهير في معاركها الاجتماعية والسياسية اليومية بما فيها الانتخابات ومحاربة التزوير. واستطاع الراحل بحنكته ومبدئيته أن يحسم النقاش بالصيغة التي جاء بها البيان السياسي والتي بسببها سيتم منع نشره وحجز جريدة المحرر. وتقول:
“يطالب المؤتمر بتعديل جذري للدستور يرمي إلى تحويل النظام الملكي من ملكية مخزنية يستظل بها المستغلون، إلى ملكية برلمانية يكون فيها الملك حكما فوق الأحزاب والطبقات”.
وكانت هذه الصيغة كافية لتهدئة الصراع بين مكونات حزب القوات الشعبية، والتي ساهم فيها المرحوم بجهد ماراتوني كبير حتى لا تنفجر بما يهدد وحدة الحزب ويضعف ميزان القوى لفائدة النظام إلى. لكنه أعلن فشله في رأب الصدع في 1981، وأعلن عن تقديم استقالته من مسؤوليته في المكتب السياسي، دون ان يستقيل من انتمائه السياسي. مما أدى إلى انفجار الحزب في أحداث 8 ماي 1983التي سينتج عنها تأسيس حزب الطليعة فيما بعد، وما سيتلوها من تصدعات وانفجارات أوصلت حزب القوات الشعبية إلى ما هو عليه اليوم من اندحار تاريخي.
تفرغ المرحوم الجابري ليشتغل على مشروعه الفكري في نقد العقل العربي، في الفكر والخطاب والسياسة والأخلاق متوجا ذلك بتفسير القرآن حسب ترتيب نزوله لا حسب ترتيب المصحف، إلى جانب كتابة مواقفه وبعض المحطات من حفريات سيرته الذاتية . لكن هذا التفرغ الفكري لم يجعله في مبعد عن الحياة السياسية، فقد ظل المرحومان عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي يستشيرانه في القضايا الكبرى للحزب والوطن، كما ظل على ارتباط وثيق بالقيادة النقابية في شخص المرحوم نوبير الأموي، واتصال مستمر بالفقيه البصري بعد التحاقه بالوطن، وتدخله القوي لتصحيح أوضاع الحزب وصحافته بعد عودة اليوسفي من غربته في كان وتعيين المرحوم محمد الباهي على راس جريدة الاتحاد الاشتراكي، الشيء الذي أدى به للوعكة الصحية التي أودت بحياته، والتي اعتبرها الجابري في رسالة صادمة للمكتب السياسي، “جريمة قتل” يتعين فتح تحقيق في ملابساتها. ثم حرر بعدها مذكرة طويلة ومفصلة حول “الأخطبوط الانتفاعي والانتهازي” الذي ينخر الحزب مشيرا لزعيمه بالاسم وللوقائع والشهود، ومتنبئا بالمسارات الكارثية التي سيعرفها الحزب والوطن على يديه وعلى يد تلامذته وعلى رأسهم الكاتب الأول لحزب القوات الشعبية اليوم. وكأنه يعيد نظريته في نقد العقل السياسي العربي، التي ترى أنه حين تسيطر الغنيمة، تنهار العقيدة وتتفكك القبيلة. وكذلك كان، بالنسبة لحزب القوات الشعبية، فقد هيمنت عليه الغنيمة مع حكومة ما سمي بالتناوب، فسكتت العقيدة أي الجانب الفكري والأخلاقي، وتفككت العقيدة أي الحزب الذي خرج من مؤتمره السادس، حزب المؤتمر الوطني الاتحادي، ثم الحزب الاشتراكي، والحزب العمالي، وتفككت الكونفدرالية الديموقراطية للشغل إلى فيدراليات ثم تنسيقيات ثم لا شيء في النهاية.
هذا بعض يسير مما عرفناه عن الرجل معاينة وقربا، دراسة واستماعا، مناقشة وحوارا. وحين نستحضره في ذكرى رحيله. نؤكد أنه كان رجلا كبيرا خذله قومه، فخذلهم التاريخ.
Visited 13 times, 1 visit(s) today