هل الشر وراثي في جيناتنا…؟
د. إبراهيم حلواني
القسم الأول: جذور الشر
نتأمل في حياة الإنسان وفي الشر وفي الجريمة، ونتساءل: هل كان ثمة خطأ في قوانين الحياة؟ هل انحرفت الطبيعة في مكان ما؟ هل كان من الممكن أن يتخذ تطور الحياة منحى مختلفًا فنرانا في مجتمع خال من الشرور والأشرار؟
يبدو أنّ الشرّ من ضرورات الحياة
أحسبك توافقني الرأي أنّ الحياة بحاجة إلى شيء من الحيلة والدهاء. ولكن ماذا عن الكذب؟ ماذا عن السرقة؟ وماذا عن القتل؟ تلك “السيّئات” لها جذور ذات أصول في صميم كتابنا الجيني. الثدييات والأسماك والحشرات والنباتات كلّها تحمل من تلك الجينات السيّئة. لربما علينا إعادة النظر في كلمة “السيّئة”.
- المكر والاستغلال
هل منا من لا يعرف مكر الثعلب وتلوّن الأخطبوط؟ ولكن تستطيع أن تجد مظاهر أخرى كثيرة تدلّ على الخداع والاستغلال عند الكائنات الحية. هاك مثالين لا أخلاق فيهما:
- نبات يتشكل فخا لذبابة أو دودة أو حيوان صغير مثل الخفاش. يمتلأ بماء المطر، وعندما يقع حيوان ظمآن فيه يُحلَّلُ بواسطة أنزيمات متخصصة. أليس ذلك إغراء وخداعًا واستغلالا؟ … ألا فاعلم أن الغابات تؤوي أكثر من 600 نوع من النباتات اللاحمة.
- الكوكو طائر يبيض في عش طائر شادٍ صغير. يفقص بيضه مع بيض الشادي فينمو ويرمي بصغار الشادي ليصبح المدلل الوحيد في العش. أليس ذلك دهاء واستغلالا بشعا؟
- الكذب
قد تعتقد أن الحيوانات لا تكذب، فالكذب في مفهومنا يرتبط بالكلام واللغة. ولكن إليك هذه:
في وثائقيّ علميّ عن البَعام (الشامبانزي)، شاهدتُ ذَكرَ بَعامٍ يحمل جوزة هند في كلّ يدٍ، ويُظهِرُ حمله أمام أنثى مُغريا. تأملَتْه وتأمّلَتْ فيما يحمل كأنّها إنسان يدرس الموقف، ثمّ اقتربت منه مولّيةً إيّاه دبرها. فلمّا قضى منها وَطَرَهُ حمل الجوزتين هاربا.
لا أنسى عبارات الخيبة على وجهها. أليس ذلك كذبا؟
- السرقة
هي كثيرة: ألم تر ضبعًا ينتِشُ من غنيمة لبوة، وتمساحًا يقضِم مما في فمِ تمساح آخر، وسحليّة تسرق بيوضَ تمساح، وغريرًا يُغير على قرصِ عسلٍ كلّفَ النحلَ عمرَه؟ … أليس كلّ ذلك سرقات؟
القتل عند الحيوان … يبدو ضرورة أيضا
يقول القائلون بالتطوّر من علماء الأحياء إنّ القتل كان على الدوام من وسائل تطوّر الكائنات الحيّة.
منذ سنوات استنتجت من مطالعاتي القانون الحياتيّ التالي:
“كلّ كائن حيّ مجهّز بأفضل ما يمكن لتأمين ثلاثة: الغذاء، والدفاع، والتكاثر”، … وكثيرا ما يتطلب الأمر القتل.
إذا استعرضت حالات القتل عند الكائنات الحية تجد أنها تقع كلّها في مجال القانون أعلاه.
- في الغذاء والدفاع الأدلة واضحة. كما أن بعض وسائل القتل تطوّرَ بشكل مذهل إلى استعمال السمّ: العنكبوت والعقرب والأفعى، ناهيك عن الأسماك والضفادع السامة.
- في التكاثر قد يتخذ القتل أشكالا غير معروفة عند أكثر الناس:
- جنين قرش يفترس إخوته الأجنّة قبل أن يروا نور الحياة.
- أنواع كثيرة من حشرات تضع بيوضها على أجسام ديدان أو تحقنها داخل حشرات أخرى، ضامنة غذاء طازجا لذريّتها: اليرقات الجديدة تلتهم الحشرة المضيفة وهي حية!
منذ عقود، كان القاصدون إلى إفريقيا بهدف استطلاع الحياة البرية فيها ومراقبة سلوك حيواناتها، كانوا يحاولون إنقاذ الفريسة من براثن المفترس شفقة ورحمة. تغيّر هذا السلوك الآن بعدما أدرك الجميع أنّ إنقاذ الفريسة يعني موت المفترس جوعا وربما موت جرائه أيضا. تركوا للطبيعة أن تسلك فيما بَنَتْ عليه.
صفات ذات أصول حيوانية
- السعي إلى السُّلطة
التواجد في قمة السلطة عند الحيوانات التي تعيش في نظام اجتماعي يعني اهتماما أكثر وطعاما أكثر و… حريما أكثر … ولكن ذلك يعني بالمقابل تنازعا وتنافسا وقتالا. يعتبر علماء الأحياء وعلماء السلوك تلك الظاهرة من المحركات البيولوجية التي تهدف إلى تطوير النوع وتأمين انتشاره.
تابعت منذ سنوات في شريط علميّ الآتي: ذَكرُ ذئب فتيٌّ ينقضّ على والده ويقضي عليه في أقل من دقيقة. دافعه الوحيد كان أن يتبوأ السدّة مكانه. ذلك لم يكن اعتداء أو غدرا أو خيانة، بل هي الحياة تفرض قوانينها وتسعى إلى اختيار الأفضل ومباركته واستمراره.
- الأنانيّة
فرخ نسر يضيّق على أخيه في العش وينقر رأسه حائلا بينه وبين الطعام حتى يضعف ويهلك، ثمّ يرمي به خارج العش.
ما يبدو هنا أنانيّة هو في الواقع ظاهرة حياتية معقدة يسمّيها العلماء قتل الأخ Siblicide. هي ظاهرة تحدث عند شحّ المواد الغذائية، وهي معروفة عند أنواع من الطيور البحرية خاصة كالنورس والبلشون، وعند بعض الثدييات كالضبع المرقط.
الحسد
هنيئا لفيلة صغيرة أو ضبعة صغيرة إذا كانت ابنة الزعيمة.
كثيرة هي الظروف حيث يتطلّع حيوان، أو إنسان، إلى موقع غيره، أو يتمنّى أن تزول نعمة ساقتها الأقدار إلى سواه.
لماذا يحذر الأهل في مجتمعاتنا من تصرفات وليدهم ذي العامين إزاء وليدتهم الجديدة؟ ما هو دافعه ليوقع الأذى بشقيقته في هذه السنّ المبكرة؟ في مجتمعنا يقولون “تكاد تأكله الغيرة” أو “يكاد يموت حسدا”.
لست أنا فقط من يرى رابطا بين الحسد ودوافعه البيولوجية.
منذ بضعة عقود، بدأ العلماء يربطون أكثر بين السلوك الإنسانيّ والمحركات البيولوجية والعصبية لدى الحيوان.
هاك ما جاء عن الحسد في الويكيبيديا الإنكليزية:
“من النظريات التي تساعد على تفسير الحسد وأثاره على السلوك البشري نظرية التطور الاجتماعي socioevolutionary … التي تفيد بأن البشر يتصرفون بطرق تؤدّي إلى تعزيز بقاء الفرد ونشر جيناته. بذلك توفر النظرية اطارا لفهم السلوك الاجتماعي وتصرفات الفرد، مثل الشعور بالحسد والسلوك الناتج عنه، كمظاهر متجذرة في المحركات البيولوجية للبقاء والتكاثر”.
القسم الثاني: القتل عند الإنسان… والرادع
القتل عند الإنسان لتأمين الغذاء
لتأمين طعامه، وصل الإنسان بالقتل إلى حدود مرعبة، سواء لجهة العدد أو لجهة الأداة التي لم تعد تقتصر على المخالب والأنياب.
قد تفاجئك هذه المعلومات:
في سنة 2014، استهلك العالم أكثر من 350 مليون طن من اللحوم، من ماشية وطير وغيرها، من دون ذكر الأسماك. قتل الإنسان في ذلك العام حوالي 64 مليار حيوان، منها 62 مليارا من الطيور أكثرها فراخ دجاج، ومليارين بين ضأن وماعز وبقر وخنزير وغيرها من ماشية وإبل.
لعلّك لم تنتبه يوما إلى فظاعة ما تجنيه يد الإنسان لتأمين طعامه كما تفعل الآن بعد قراءتك هذه السطور.
غير أن تلك الفظاعة ستبقى مبرّرَة في كتاب الوجود.
إذا تحرّكتْ عاطفتك الآن وقررتَ أن تصبح نباتيًّا فلك الخيار، ولكنك لن تستطيع بأيّ حال أن توقف آلة القتل تلك، وإلا سيفنى أكثر من 90% من البشر، وسيجوع من يبقى منهم.
ولكن، من جهة أخرى، على الإنسان أن يتخذ خطوات جذرية لتحسين ظروف صناعة الطعام الحيوانيّ، وأن يخفف ما استطاع من عذاب الحيوان سواء خلال تربيته أو عند ذبحه. فهناك ارتكابات مشينة وظروف قاسية تعانيها الحيوانات في مجال تلك الصناعة، لا يعلم بها كثيرون.
الجرائم والحروب
أشرت سابقا أنّ “كلّ كائن حيّ مجهّز بأفضل ما يمكن لتأمين ثلاثة: الغذاء، والدفاع، والتكاثر”، … وكثيرا ما يتطلب الأمر القتل.
يبدو أنّنا كبشر تجاوزنا هذا القانون إلى حدود بعيدة، إذ لم يعد هدف القتل تأمين الغذاء فقط أو الدفاع فقط، بل صار لتكديس الأموال والمبالغة في الرفاهية وتأمين الطاقة والموادّ الأوّليّة لمجتمع ما على حساب مجتمع آخر، ولو عدوانا ونهبا وظلما.
- جرائم القتل بين البشر
تتنوع الأسباب التي تدفع إنسانا لقتل آخر. قد يكون السبب مشاحنة أو سرقة أو أعمال عصابات (مخدرات، تجارة غير مشروعة)،… وقد يكون القتل دفاعيًّا أو انتقاميًّا أو خطأ غيرَ مقصود، …
حوالي نصف مليون شخص في العالم يقعون ضحايا لجرائم القتل كلّ سنة، وهم يشكلون أقلّ من 1 % من عدد الوفيّات.
في أميركا الوسطى والجنوبية، عدد ضحايا الإجرام يقارب 10 % من عدد الوفيات، بسب العنف الناتج عن تجارة المخدرات.
- ضحايا الحروب
لا يمكنك إحصاء الحروب التي شهدتها البشرية ولا يمكنك إحصاء ضحاياها، إذن لضجّ رأسك. ولكن الرقم بمئات الملايين كما يقدرون.
عدد القتلى في الحرب العالمية الأولى بلغ 17 مليونا تقريبا.
عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية تجاوز 70 مليونا.
في الأسابيع الأخيرة من الحرب العالمية الثانية ألقت الولايات المتحدة الأميركية قنبلتين ذريتين على اليابان. الأولى فوق هيروشيما في 6 آب 1945 تسببت بمقتل 135 ألف إنسان. الثانية فوق ناكازاكي في 9 آب 1945 أودت بحياة 50 ألف نسمة على الأقل.
حديثا، سقطَ الناسُ قتلى بمئات الآلاف نتيجة الأحداث العسكرية في كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن.
منذ متى نشأ الضمير عند الإنسان ؟
ممّا يميز الإنسان عن الحيوان مجموعة من الصفات تناقض بشكل صريح ما جُبل عليه الحيوان من طباع قاسية نعتبرها في المجتمع البشري من السيّئات، وأحيانا من الكبائر.
تُرى كيف نشأ الضمير عند الإنسان، ومنذ متى؟
منذ متى نُسجت منظومةُ الأخلاق وراحت تحكم سلوكيات البشر؟
كيفَ صار الصدق قيمة ثمينة نتزيّن بها؟
وماذا عن الأمانة والوفاء والإيثار والتضحية والعفّة والزهد…؟
إنّ الحياة التي فرضت على المخلوقات أن تنافس وتسرق وتقتل هي نفسها التي عملت على بناء منظومة القيم السامية وزرعتها في عقل الإنسان ووجدانه وسلوكه.
بتعبير علمي، تفيد نظرية التطور الاجتماعي socioevolutionary بأن البشر يتصرفون بطرق تؤدّي إلى تعزيز بقاء الفرد ونشر جيناته. هنا نجد الدور الأساس في عملية البناء تلك.
لا أحد يعلم منذ متى بدأت الصفات “الحميدة” تترسخ في ذهن البشر، ولكن مما لا شك فيه أنها ترجع إلى الآلاف من السنين. لي في ذلك دليلان على الأقل: حد يعلم أ
- إذا تأملتَ سلوك الأطفال وتتبّعتَ تصرفات البالغين، خارجَ ظروف الضغط النفسيّ والمادّيّ والاجتماعيّ، لتجدنّ أكثرهم ميّالين بالفطرة إلى تقديم الخير ونشر الحبّ والبعدِ عن الأذيّة. يُفيد ذلك بأنّ “الصفات الحميدة” منغرسة في النفس البشرية منذ أجيال بعيدة، وليس منذ سنين قريبة.
- ملك مدينة أور السومرية، نَمّو، سنّ قوانين جزائية لضبط النظام في مملكته، نُقشت على الصخر منذ أكثر من 4 آلاف عام (2100 ق م). وشريعة الملك البابلي حمورابي الموزعة على 282 مادّة قانونية نُصِبت منذ أكثر من 3700 سنة (1754 ق م). سأوضح عنها.
من جهة أخرى، يرى بعض العلماء أن “الضمير” بدأ مع الإنسان المتحضر، منذ حوالي 45 ألف سنة.
بعض آخر يرى أن الضمير تطور مع تطور عمليات الإدراك واللغة، أي قبل ذلك بكثير.
من شريعة حمورابي
منذ العام 1754 ق م سنّ حمورابي مجموعة من القوانين الجزائية تغطيها 282 مادّة. إذا اطلعت على تلك الموادّ فستتكوّن لديك فكرة واسعة عن طبيعة الحياة التي عاشها أهل بابل منذ قرابة 3800 سنة، وعن الهموم التي شغلتهم، وأيضا عن طبيعة الفضائل والرذائل التي لا تخالف كثيرا ما نعيشه في أيامنا.
هاك بعضٌ منها:
- إذا ضرب رجل أباه تُقطع يده.
- إذا عطّل رجل عين رجل آخر تُعَطّل عينه. إذا كسر امرؤٌ عظمَ رجل يُكسر عظمه. إذا عطّل امرؤ عين رجل حرّ أو كسر عظمَه يدفع مينا من الذهب (505 غرامات). إذا عطّل رجل عين عبدٍ لرجل أو كسر عظمه يدفع نصف ثمنه.
- كلّ امرئٍ يشير ببنانه (يتهم بالسوء) إلى راهبة أو إلى زوجة رجل، ولا يأتي بدليل، يؤخذ إلى القضاة ويوسم بعلامة على جبينه (قص قطعة من الجلد أو خصلة من الشعر).
- كلّ امرئٍ يُقبضُ عليه متلبّسا بسرقة يُحكم عليه بالموت.
- إذا سلّم تاجرٌ حبوبا أو صوفا أو زيتا أو أي بضاعة إلى زبون ليحملها، فعلى الزبون أن يعطي وصلا بالكمية، ويدفع للتاجر بالمقابل، ويحصل من التاجر على إيصال بالمبلغ الذي دفعه.
- إذا قُبض على زوجة رجل متلبسة في سرير رجل آخر يوثقان معا ويُلقى بهما في المياه. إذا أراد مالك الزوجة إنقاذ زوجته فيمكن للملك بدوره إنقاذ خادمه.
- إذا شهد رجلٌ بزورٍ في محاكمة، أو إذا لم يُثبِتْ زعمَه، وإذا كانت القضية ذات أهميّة، يُحكم عليه بالموت.
لا يمكن لأمة أو لدولة أن تقوم استنادا على الأخلاق ووعي الضمير فقط، … لا بد من نظام ومجموعة قوانين تطبق بحزم وشفافية.
اسألوا حامورابي!!!