«الضَّاحية»: جمهوريَّةُ اللَّامَعقولِ المَعقولِ
نجيب علي العطار
يَعْمَدُ الإنسانُ، بادِئ ذي بِدْءٍ، إلى «أَرْشَفَةٍ» ذِهنيَّةٍ للاصطلاحاتِ التي تَشْغَلَ حيِّزًا منِ اهتماماتِه. ومن ماجَرَياتِ التَّحقيقِ، أو التَّحقُّقِ، أنْ يُهرَعَ المُتَحَقِّقُ، إذا تَمرَّدَتْ عليه أرشيفاتُ ذِهنِه، إلى المَعاجِمِ اللُّغويَّةِ، أو الإصطلاحيَّةِ، بَحثًا عن تعريفِ مُصطلحِه الضَّائع. بَيْدَ أنَّ، والعُهْدَةُ على قاعدةِ أنَّ لكُلِّ تَقَعِيدٍ شَواذًا، هذه الحالَ ليستْ جامعةً مانِعةً لكُلِّ اسمٍ ومُصطلَحٍ، إذ أنَّ بعضَ الإصطلاحاتِ لا تُدرَكُ حتَّى تُعاشَ بكُلِّ ما لكلمَتَيْ «تُدرك» و«تُعاش» من معنًى وعَناء. والحَقِيقُ ذِكرُه أنَّ إدراكَ التَّعريفِ بعَيشِ المُعَرَّفِ تربِطُهما عِلاقةٌ طَرديَّةٌ يَزدادُ فيها «الإدراكُ» بازديادِ «العَيش». وعلى سبيلِ لَبْنَنَةِ الحديثِ؛ لعلَّ أولى هذه الشَّاذَّاتِ هي ما اصطُلِحَ عليها بـ «الضَّاحيةِ الجَنوبيَّةِ لبيروت»، أو «الضَّاحية» بلُغةٍ أَكثرَ تَلَبْنُنًا، إذ أنَّ «الضَّاحيةَ» تُعجِزُ أربابَ تَكثيفِ المعنى بالكَلماتِ، لا لشيءٍ إلّا أنَّ الكَلماتِ هَهُنا هي الكُلُوم.
هُنا جُمهوريَّةُ اللامَعقولِ المَعقولِ: هُنا «الضَّاحية». وعلى سبيلِ تَفصيلِ المُجمَلِ، سنَرْكَبُ أحدَ «الفاناتِ» الذي سيتَنَقَّلُ بِنا، أو نتَنَقَّلُ به، بينَ «مَفرَقِ الصَّحرا»، جَنوبًا، و«الغبيري» في الشَّمالِ الشَّرقيِّ. وعلى «الأَحْوَطِ استحبابًا» أنْ يكونَ سائقُ هذا «الفانِ» غيرَ ذي مَسْمَعٍ، أو خَفيفَ السَّمْعِ، لا لشيءٍ غيرَ الحِفاظِ على السَّلامةِ الخاصَّة. «الفانُ» اصطلاحًا هو آليةٌ لنقلِ الرُّكَّابِ، أمَّا في لِسانِ «الضَّاحية» فهو مَعْلَمٌ ثَقافيٌّ مُتنقِّلٌ، وهو، بعدَ الرِجْلَيْنِ طبعًا، وسيلةُ التَّنقُّلِ الوحيدةِ للـ «مَحرومينَ» الجُدُدِ، أو «البروليتاريا المَسحوقةِ» بلُغةٍ مَنسيَّةٍ غَفَرَ اللهُ لِمَنْ يُذَكِّرُ بها. أمَّا «السِّرفيس»، أو «التَّاكسي»، أو «السيَّارة»، فهي لأنصافِ «المحرومينَ»، أو للبروليتاريا غيرِ المَسحوقة.
هي، أيْ «الضَّاحية»، جُمهوريَّةٌ لأنَّها لا يَنقُصُها، حتَّى تُصَيَّرَ جُمهوريَّةً كاملةَ الأوصافِ، إلَّا أنْ يُصارَ إلى الاعترافِ بها وفقَ البروتوكولات المُتَّبعةِ بينَ الأُمَمِ والشُّعوب. فـ «الضَّاحية»، قد خاضتْ معركةَ «استقلالِها» في ثمانيناتِ القرنِ الماضي، ولها «تاريخُها» الخاصُّ جدًّا بها. وهي، وِفقَ «الدُّستورِ» العُرفيِّ الذي يحكُمُها، جُمهوريَّةٌ، «عاصمتُها» السِّياسيَّةُ هي حارةُ حريك، ولها عِدَّةُ عواصمَ إقتصاديَّة. وهي ذاتُ «سيادةٍ» داخلَ «حدودِها» المُتعارَفِ عليها بينَ اللُّبنانيِّينَ، وحدودُها مُحصَّنةٌ بحواجزَ، أو جُدرانٍ، «طيِّبةٍ»، ويحكُمُها «مجلسٌ رِئاسيٌّ»، ولها «حُكومةٌ» ومؤسّساتٌ مُستقلَّةٌ، ولدَيها «مُشرِّعونَ» مُتخصِّصونَ، و«قضاءٌ» مُستَقِلٌّ، وإنْ كانتْ تُحاكِمُ مَيدانيًّا في بعضِ الجرائمِ، وبخاصَّةٍ تلكَ المُتعلِّقةِ بالأمنِ القوميِّ. ولها، ممَّا لها، «ممثِّلونَ دِبلوماسيُّونَ» يَقومونَ مَقامَ «السُّفراء»، وعندَها «جَيْشٌ» جبَّارٌ و«شعبٌ عنيدٌ»، وتَستقبِلُ المُغتربينَ فيها والمُهاجرينَ إليها منْ مُعظمِ المُقاطعاتِ اللُّبنانيَّةِ. كما أنَّها مُقسَّمةٌ إلى مناطقَ فقيرةٍ ومناطقَ تَسكنُها الطَّبقةُ الوسطى وأُخرى للأرِستُقراطيِّينَ والبُرجوازيِّينَ من «مُواطني الضَّاحية». لا شيءَ يَنقصُها إلَّا الإعلانُ الرَّسميُّ عن استقلالِها. ولا بأسَ أنْ تُضَمَّ إليها، حينَ استقلالِها، بعضُ ضواحيها، وإنْ كانَتْ مناطقُ لُبنانَ كُلُّها تُعتبرُ ضواحيَ لجُمهوريَّةِ «الضَّاحية».
وهي جُمهوريَّةُ اللَّامعقولِ لأنَّ القانونَ، الوحيدَ رُبَّما، المَرعيَّ التَّطبيقِ فيها لا يَسمَحُ بمُخالفةِ أصولِ الإجتماعِ البَشريِّ وحَسبْ، بل يُشجِّعُ عليه حينًا ويُكرِهُ عليه أحيانًا. وهكذا يُمكنُ، رُبَّما، تفسيرُ ظاهرةِ التَّبدُّلِ الوجوديِّ التي تُصيبُ الإنسانَ حينَ يَخرُجُ منَ «الضَّاحية» أو يدخُلُ إليها. ويتجلَّى اللَّامعقولُ في حقيقةِ أنَّ كُلَّ شيءٍ يوحي بأنَّ الحياةَ على عجلةٍ من أمرِها حتَّى تَنقضيَ، ولا تنقضي. كأنَّ النَّاسَ هُنا في حالةِ استعدادٍ دائمٍ لكارثةٍ ما فتراهُم يَسيرونَ، أو يُسيَّرونَ، في كُلِّ اتَّجاهٍ وليسَ ثمَّةَ وِجهةٌ للسَّائرين. وفي حضرةِ هذا اللَّامعقول يُمكنُكَ أنْ تَسمعَ أحاديثَ الجُلَّاسِ على قوارِعِ الطُّرُقِ يَتداولونَ في كُلِّ شيءٍ ابتداءً بوجودِ اللهِ، مُرورًا بالتآمُرِ الكَونيِّ عليهِم، وليسَ انتهاءًا بسؤالِ أحدِهم للآخرِ: «إنتَ بْتَعْرِفْ كِيفْ بْيِتْجَوَّزِ النَّملْ؟». وعلى سبيلِ «إبراءِ الذِّمَّةِ»؛ إذا قرَّرْتَ أنْ تَعرِفَ «كِيفْ بْيِتْجَوَّزِ النَّملْ»، فانتبهْ، إذا عَبَرْتَ الشَّارعَ، وانظُرْ في الاتِّجاهَيْنِ حتَّى لو كانَ خَطُّ السَّيرِ أُحاديَّ الإتَّجاه، فقد تَصدُمُ إحدى «المُوتْسِيكْلاتِ»، المُعاكِسَةَ لخطِّ السَّيرِ، عن طريقِ الخطأ.
أمَّا المَعقولُ في جُمهوريَّةِ اللَّامَعقولِ فهو اللَّامَعقولُ نفسُه. فالإنسانُ، مِن حيثُ هو ذو عَقلٍ، يُمكنُه أنْ يَعْقِلَ، أيْ يَفهمَ ويُدركَ، أنَّ الحالةَ الضَّاحِيَوِيَّةَ، إذا أُجيزَ التَّعبيرُ، هي حالةٌ لامعقولةٌ. وعلى سبيلِ الخَيالِ المُحالِ، والعُهدةُ على الأدَبِ الكاريكاتوريِّ إنْ جازَ الاصطلاحُ، لو قُدِّرَ لأهلِ «الضَّاحية» أن يَتحرَّروا مِن طبيعتِهمُ البشريَّةِ فيتعالوا على قوانينِ العقلِ الثَّلاثِ، كأنْ يَجمعوا النَّقيضَيْنِ أو أنْ لا يكونَ الشَّيءُ نَفسَه، لَمَضوا غيرَ آبهينَ. وهُنا يَجِبُ الشُّكرُ لمَنْ جَعلَ الطَّبيعةَ البَشريَّةَ غيرَ قابلةٍ لهكذا تَجاوز.
من البَداهةِ أنَّ صورةَ «الضَّاحية» هذه ليستْ مُطلقةً بقدرِ ما هي غيرُ قابلةٍ للتَّخصيص. وهي، أيضًا، تَصِحُّ، وإنْ بنسبٍ مُتفاوتةٍ، على جُمهورياتِ الطَّوقِ حولَ «الضَّاحية». وعلى سبيل الكوميديا السَّوداءِ، أو التراجيديا البيضاءِ، يَصِحُّ في الوقتِ الرَّاهنِ أنْ يُصَيَّرَ اسمُ «الجُمهوريَّةُ اللُّبنانيَّةُ» إلى «الجُمهوريَّاتُ اللُّبنانيَّةُ المُتَّحدة».
Visited 5 times, 1 visit(s) today