سيمون دو بوفوار – نيلسون أليغرين: يوميات كورسيكا، لندن     

           سيمون دو بوفوار – نيلسون أليغرين: يوميات كورسيكا، لندن     

 ترجمة : سعيد بوخليط

* السبت   12 يوليو 1947

نيلسون حبيبي،

سأواصل التباهي أمامكَ بجغرافية كورسيكا، وأخبركَ  عن مدى إعجابي بالمكان.

توخيتُ الذهاب من بونيفاسيو قصد بلوغ ميناء آخر صغير، يسمى بورتوفيكيو.

تنطلق الحافلات الساعة الرابعة أو الخامسة صباحا، توقيت مبكر جدا، لذلك اضطررتُ إلى استئجار سيارة أجرة. كان الأمر متوقعا في حدود الساعة الثانية ظهرا.

تناولتُ وجبة فطور قوامها جراد البحر، بدأت أنتظر،ثم استكنتُ إلى قيلولة: دقَّت الساعة الرابعة زوالا، غير أنَّ الطاكسي لم يحضر قط. اتصلتُ هاتفيا كي أستفسر عن سبب التأخير، فأوضح مسؤول التواصل فرضية تواجد السائق حاليا في بلدة أجاكسيو، فقد شاهده يعبر الشارع صباحا،لحظتها انتابتني موجة غضب، لكن يستحيل بالنسبة إلي مهما حدث الانزعاج من صنيع الكورسيكيين.

اقترح علي محاوري، مبادرة اصطحابي.ذلك، مافعله حقا. كانت ليلة رائعة.

تغطي جدران الفندق القذر، لوحات ذات ألوان فاقعة،نساء نصف عاريات بشَعْر لونه أسود وأحمر، مشهد يثير السخرية قياسا إلى المكان. لوحات أبدعها جندي أمريكي ورسام، ”ينحدر أصله” من مدينة شيكاغو (أشار إلى ذلك لحظات توقيعه). تدبُّ سلحفاة صغيرة ببطء حول السرير ثم في كل مكان.

بعد أن تناولت وجبة العشاء، صادفت أجواء لقاء شيوعي صغير، انعقد في مكان منفتح بمصراعيه على الشارع، تزينه فيض أعلام حمراء، وصور ستالين ضخمة وكذا موريس توريز تحت إضاءة الشموع نتيجة انقطاع التيار الكهربائي على امتداد القرية.

يصغي شباب وشيوخ باهتمام إلى مداخلة شابٍّ أسمر شيوعي، يشرح لهم معنى الفاشية. بالتأكيد، لا أحب الحزب الشيوعي، مع ذلك استأنست برفقة هؤلاء الأشخاص الذين تطلعوا بنوع من التوهج نحو معرفة شيء ما بخصوص امتداد شساعة العالم المحيط بجزيرتهم الفقيرة والرائعة جدا.

خلال اليوم التالي، طويت قليلا مشيا الممرات الجبلية الضيقة المتعرِّجة، ثم توقفت شاحنة كي تنقلني.

أيضا، عشتُ حكاية أخرى خرافية محض كورسيكية. الثلاثاء صباحا، اقتضى الوضع انتظار حافلة، ستغادر عند الساعة السادسة صباحا مثلما أخبروني. استيقظتُ مع تجلي أولى خيوط الفجر.هكذا، حضرتُ إلى عين المكان خلال الموعد المطلوب: لا أثر يذكر للحافلة.

انتظرتُ، ثم انتظرتُ، غاية التقاط سمعي عبر لسان بعض المتحدثين، أنَّ السائق، غلبه النوم بسبب تأثير ثمالة الليلة الفارطة، وبالتأكيد لازال غاية تلك اللحظة منغمسا في النوم.

مرَّت ساعة، إنها السابعة صباحا، هرولنا صوب نوافذ مسكنه كي نتلصص عن أخباره: بدا كل شيء مغلقا، ولاخيار أمامنا. انقضت ساعة، شرع”شاب فظّ” يطرق بعنف باب الفندق، ثم صعد كي يوقظ صاحب الفندق، الذي كان بدوره أقرب إلى ميِّت نتيجة مفعول الخمر.

أسرع السائق وجهة الحافلة شبه عار، فانطلقت مسرعة تطوي المسالك الضيقة والمتعرِّجة، انخرط الجميع في ضحك يكاد يفقدهم أنفاسهم، ولم يظهر أحد منهم انزعاجه جراء الزمن الضائع. 

مشيتُ كثيرا، بين أدغال كورسيكية، تقاسمتُ أحاديث مع قرويي الاحتلال الألماني والايطالي، إلخ.كان ممتعا جدا الوصول ليلا إلى بعض الفنادق الصغيرة المهترئة والمتسخة، حيث يتناول القرويون حساء زيتيا رديئا، يشربون نبيذا أحمر ويثرثرون مع الجميع.

أفراد ساكنة هذا البلد ليسوا أغبياء،بل يهتمون بكل مايجري،النساء جميلات وسعيدات رغم الفقر.

صادفنا وسط طريق أجكسيو، مَكْمَن طيور صغير لفصيلة الحجل: فورا توقف السائق، وثب الأشخاص عبر النوافذ كي يلتقطوا طيور الحجل تلك، فأضحت الحافلة بأكملها مهتاجة.

في أجكسيو، وقع إطلاق النار، نَجَم عنه استفزاز عام، تدافع نحو الخارج: إحباط كبير، لم يتسبب الحادث في مقتل شخص معين. يعجبني هذا الشغف بالحياة، وطريقة إبداء التحمس نحو كل شيء وأيّ شيء.

لقد تحسنت نسبيا نحو الأفضل مهاراتي على مستوى السباحة مقارنة مع البدايات، لكني لا أتقدم سوى قليلا داخل الماء، ورغم كل شيء أحب ذلك.                  

*الأحد 13 يوليو  1947

حبيبي، تنتظرني رسالتكَ، سأقرؤها بشغف.

بَدَا الوضع مُرْبِكا أن أسبح البارحة صباحا في أجكسيو،ثم أتناول وجبة العشاء في باريس، بعد رحلة عودة سريعة جدا ورائعة بفضل النقل الجوي.

نعم قرأتُ رواية ”موبي ديك”، بل يعتبر نَصّا مفضلا لدي قياسا لباقي النصوص؛ أيضا قرأت هذه السنة كتاب ”على نهر الميسيسيبي” لصاحبه مارك توين.

لقد حاربتَ بجسارة، في أمريكا، دفاعا عن الوجودية، ويلزم جراء ذلك توشيحكَ بوسام.

نيلسون حبيبي،

أنتَ وحدكَ من أتطلع إليه حين تفكيري في وجهة أمريكا، إذا لم تتمكن من ولوج علبة البريد بلحمكَ وشحمكَ، فعلى الأقل ابعث لي رسائل أخرى تشبه الحالية ولا أرغب في أيِّ شيء ثان.

أنا سعيدة: أعضاء لجنة القراءة الذين طرحت عليهم روايتكَ، أحبوها كثيرا، وأتمنى موافقتهم بخصوص إصدارها.

سأقضي فقط يوما واحدا في باريس، بعد ذلك سأرحل إلى لندن صحبة سارتر، لمدة أربعة أيام كي نحضر أولى عروض مسرحيته ”أموات دون مقبرة”.

التهب كل جسدي بأشعة الشمس، يتقشر أنفي وجبهتي، الأمر مقرف لكني مع ذلك أحس بأني على ما يرام.

مضت شهران تقريبا على عودتي من أمريكا، لازالت ذاكرتي تحتفظ بمختلف التفاصيل عنكَ، بل أضحيت قريبا مني أكثر.

لاتفارق هدية خاتمكَ أصبعي، أينما حللتُ وارتحلتُ، يكتسيه الصابون حينما أغتسل، وكذا الرمال أثناء تواجدي في الشواطئ الكورسيكية، ثم يعلق به قليل من الغبار في لندن، بالتالي فأنت منصهر كليا بين طيات وقائع حياتي.

قبل وضع خاتمة لهذه الرسالة،أبعث لكَ قُبُلات حبٍّ طويلة.

سيمون كلها لكَ.

*الثلاثاء 15 يوليو 1947

نيلسون حبيبي،

أنا سعيدة لقضاء ساعة هادئة طويلة بمعية رسالتكَ، إبان ظهيرة في لندن اتسمت بأجوائها الخانقة.

سبق لي أن زرتُ مدينة لندن رفقة سارتر، قبل عشر سنوات، بحيث استمرت إقامتنا لمدة خمسة عشر سنة. أشعر بالسعادة لأني أزورها مرة أخرى.

تبدي هندستها جانبا كئيبا بسبب دمار منازل كثيرة جراء قنابل الحرب العالمية الثانية.

يكابد الانجليز شحَّ المواد الغذائية وكذا الملابس، ومع حلول الساعة الحادية عشر ليلا، تغلق أبواب الحانات والمقاهي، تستحيل معه إمكانية العثور على مشروب معين، كأنهم لازالوا يعيشون ظروف الحرب، فلا زالت الأجواء بئيسة وحالكة، ولاشيء يُسْحر.

رغم كل ذلك، يصعب تعميم الطابع الكارثي، مادام الأفراد يتحملون الوضعية بشجاعة كبيرة وأناقة. الأطلال نفسها أزالت عن نفسها الطابع الحزين، بحيث تغطيها حاليا عفويا أزهار برية أرجوانية، حمراء، صفراء.

أثناء التجول، لانعاين فقط منتزهات رائعة وكذا مساحات تغطيها أشجار كبيرة خضراء، لكن أيضا حدائق عجيبة غير متوقعة مزهرة كليا عند موقع منازل تعرضت للقصف بالقنابل.

حين القدوم من أمريكا، تبدو لندن ذات طراز قديم، أكثر من باريس، فقد شرعت الأخيرة تحتذي حذو أمريكا على مستويات عدة.

تظهر السيارات، والحافلات مترهِّلة، يوحي الوضع بوضعية موصولة بحقبة عصر وسيط حديثة، إن تجَسَّد لديك ما وددتُ تصويره.

الزمان غفور، لذلك يتسكع الأفراد وسط الشوارع، يلتقون بجانب نافورة شارع بيكاديلي، لاسيما رجال البحرية والمومسات.

يستلقي العشاق فوق عشب الحدائق، وقد انغمسوا في قُبُلات شغوفة دون اكتراث لما يحيط بهم، ويفعلون ذلك بانشراح ومتعة.

أحببتُ الأزقة، الساحات الصغيرة،نهر التايمز، اللوحات الإعلانية القديمة، الحانات، كل هيكل حجر لندن وأرضها، بالتالي أتطلع صوب العودة ثانية إلى المدينة صحبتكَ.

أنا الآن رفقة سارتر وأحد الناشرين يدعى ناجيل يهتم خاصة بالعثور على مصادر مالية لمسرحه، وشكله أقرب إلى ضفدعة صغيرة قبيحة. يخشى ركوب الطائرة، لذلك وصلنا إلى لندن على متن قطار فاخر يسمى السهم الذهبي، يتوفر على أرائك وطاولات صغيرة.

يأمل هذا الناشر في إصدار عملكَ، حدثته عنكَ كثيرا، دون التغافل طبعا عن سيرة طيبوبتكَ المجنونة مثلما تبلورها شخصيتكَ.

أيضا، قدمتكَ أمامه باعتباركَ شخصا محترما، مُهِمّا، فَرَسَ رهان الأدب الأمريكي الراهن.فعلا، استهواه أمركَ، لكن هل بوسعه دفع مكافأة مالية جيدة؟

احتجَزَ جناحا في فندق كبير، من هنا صعوبة الموقف، نظرا لعدم رغبتنا  في قضاء يومياتنا معه، ليس لأنه أبله، لكنه  مضجر بشكل رهيب، وتسيطر عليه بشاعة روح صغيرة لرجل أعمال. بالتالي، اضطررنا كي نبدي نحوه عدم الاحترام  لكنه لايهتم لأنه يسلب سارتر الذي يحبه كثيرا من النقود. وجب الاعتراف بأنه في غالب الأحيان يضحكنا كثيرا. باختصار، تعمدنا إهماله.

اليوم مشينا طيلة الصباح، ثم امتطينا تلك الحافلات الحمراء الامبريالية الكبيرة، زيارة فائقة الجدية. حينما نشعر بالجوع، نختار مطاعم رخيصة ويصعب اقتناء أيّ شيء دون الحصول على بطائق، في المقابل، نبتلع غاية التخمة نبيذا ومشروبات غازية.

*الأربعاء 16 يوليو 1947

صباح الخير، حبيبي،

لم أتمِّمْ بعد رسالتي التي ابتدأتها البارحة، فقد هزمني النوم وبعدها انطلقتُ مجددا نحو شوارع لندن.

تناولتُ وجبة العشاء في شارع سوهو،جيدة لكنها غير كافية، ثم عدت ثانية للتجول،هكذا ازداد شيئا فشيئا، تعلقي بمدينة لندن، تبقى مشكلة وحيدة تتمثل في عدم انكبابي على الكتابة منذ فترة طويلة، بينما أحترق رغبة وأحسبه أمرا واجبا.

لاأعرف اسم المجلة التي أكتب لها، ستصدر شهر أكتوبر، تنتمي إلى مجموعة التايمز، الحياة والصحبة، بيد أني لست سعيدة للغاية حيال هذا الاختيار، ولن أعيد الكَرَّة.

هل تعلم، بأنَّ رسائل عديدة وصلتني تعقيبا على موضوع مقالتي في نيويورك تايمز، اقتنع بعض الأمريكيين بنقدي الصارم لبلدهم، بينما رفضه فريق آخر.

مريح، الاستماع إلى تداول اللغة الانجليزية، وقد باعدت بيننا المسافة كثيرا، والتقاط صدى لغتكَ رغم عدم تواجدي داخل أمريكا.

أتأمل باستمرار صوركَ ذات الإطار الصغير، وأهمس نحوها بكلمات حنونة ومفعمة بالعشق، فهل بلغتكَ ارتدادات صوتي؟ حاول فعل ذلك ثم تحسس يداي تحيط بكَ.

أعشقكَ. 

سيمون مِلْكُكَ.    

المصدر:

Simone de Beauvoir :un amour transalantique(1947 -1964) ;Gallimard1997.PP :66.71.

Visited 10 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي