جَذوَةُ الكتابة والإبدَاع وَرَوْعَة القراءة والإمْتَاع
د. السفير محمّد محمّد خطّابي
لأمير الشّعراء أحمد شوقي رحمه الله بيت شهير يقول فيه: لكلِّ زمانٍ مضىَ آيةٌ / وآيةُ هذا الزّمان الصُّحُف… ماذا تُراه كان سيقول لو عاش بين ظهرانينا اليوم، أمام ما نراه يتواتر وينثال أمامنا كشلاّل منهمر من الكتابات الورقية، والإلكترونية، والرقمية، ومن المسموعات والمرئيّات وسواها؟ يقف الكتّاب والقرّاء على حدّ سواء حيارىَ أمام هذا الزّخم الإبداعي الهائل، والخضمّ الإعلامي والصّحافي والثقافي الذي تميّز به هذا الزّمان، ويطبع هذا العصر، من كثرة الصّحف، ووفرة الجرائد، وتعدّد المجلاّت، والمواقع والمنصّات الإعلامية.. هذا الكمّ الكبير من المنشورات، والمطبوعات، والكتب، والمقالات، والبحوث، والدّراسات، والأطروحات، والمؤلّفات، والتحاليل، والتعليقات، والحوارات، والتحقيقات، والمنشورات (الورقية والإلكترونية) وسواها من أشكال الكتابة، والنشر، والتواصل، والخلق، والعطاء أصبحت تملأ علينا حياتنا اليوم، وتغصّ بها رفوف مكتباتنا، وأرصفة مدننا، وجدران مواقع التواصل الاجتماعية المختلفة التي أصبحت من مميّزات، وعلامات،وأمارات هذا العصر الذي نعيشه.
يتعلّق الأمر بإشكالية مثيرة كانت وما فتئت فى كلّ عصرٍ ومصر حديثَ المبدعين، والباحثين، والنقّاد، والإعلامييّن، والصّحافيين، والناشرين، والموزّعين في مختلف الملتقيات والمنتديات، والمحافل الأدبية، بل وعلى صفحات الجرائد، والمجلاّت الثقافية في العالم العربي والغربي على حدٍّ سواء، هذه الإشكالية سال لها وبها ومن أجلها حبر غزير، وهي تحوم في معظمها حول التساؤل التالي: هل كلّ ما يُكتب صالح للنّشر؟ وهل كلّ ما ينشر صالح للقراءة؟ وهل كلّ ما يُكتب وينشر يقبل عليه القرّاء؟ وهل كتّابنا يكتبون أكثر ممّا يقرؤون.. ثمّ أخيراً وليس آخراً.. هل تعيش مجتمعاتنا حقّاً أزمة قراءة، أم تعيش أزمة نشر أم أزمة كتابة واشعاع؟ وأخيراً ما هي المسافة أوالمساحة الواصلة بين مخاض جذوة الكتابة والعطاء الإبداع، وبين روعة القراءة والتلقيّ والإمتاع..؟!
هَلْ نكتب أكثر ممّا نقرأ؟
ما فتئ هذا التساؤل يتكرّر ويطرح نفسه بإلحاح بين الوقت والآخر، ويراود مختلفَ الأوساط الأدبية، والثقافية، والإبداعية، والصّحافية في كلّ وقت وحين؛ ويرى البعض أنّه غالباً ما يطرح على وجه الخصوص حول هؤلاء الذين مازالوا يخطون ويتلمّسون العتبات الأولى في عالم القراءة، والكتابة، والأدب، والخلق، والإبداع، ثم بعد ذلك النشر. فعالم الكتابة بحر زاخر لا قعر ولا قرار ولا حدود له. وفي منظور هؤلاء أنّ بعض الكتّاب الجدد يرمون أو يرتمون فوق لججه العالية، ويغوصون في أعماقه الغائرة، باحثين عن درره وصدفاته، وعن لآلئه ونفائسه، وداناته، قبل إجادتهم للسّباحة وإتقان فنّ العوْم..! وقد يصعب أو يستعصي عليهم في ما بعد العودة بسلام إلى برّ الأمان؛ بل إنّهم قد يصبحون بعد ذلك عرضة للمحاسبة والمتابعة والنقد اللاذع من طرف القرّاء والنقّاد!
هناك لوم يُوجَّه في هذا السّياق للأجيال الجديدة من “المبدعين” من طرف بعض النقّاد، فينعتونهم بأنهم ربّما يكتبون أكثرَ ممّا يقرؤون؛ وذلك نتيجة رغبتهم وتطلّعهم أو هَوَسهم في الكتابة المبكّرة والنشر السريع ؛ فهل يا ترى أصبحت أجيالنا الحاضرة تعاني كذلك من هذه الآفة، مثلما عانت منها أجيال أدبية سابقة؟ بمعنى هل تعاني هذه الأجيال حقّا من صعوبات في نشر إبداعاتها، وذيوعها وإيصالها إلى القرّاء؟ أو بتعبير آخر أدقّ هل يعاني هؤلاء الكتّاب من أزمة نشر؟ أم يعانون من أزمة إبداع حقيقية؟ أم من أزمة قراءة، و من خصاص في الاطّلاع وشحٍّ في التحصيل؟ والمقصود هنا بهذه الأزمة هي الرّغبة الملحّة التي تراود بعض هؤلاء الكتّاب، والكاتبات، وتدفعهم إلى الاستعجال في عملية الكتابة والنشر المتسرّعين.
الكتابة كما هو معروف ومألوف لدى المتخصّصن هي كياسة، وفنّ، وتمرّس، وصنعة، وصبر، وتحمّل، وأناة، وسهر، وسمر، وسهاد، ومواظبة ومثابرة، ومواكبة، وتتبّع ومعاناة؛ ثمّ هي بعد ذلك خلق، ومَخاض، وإبداع، وعطاء. وقد لا يتوفّر الكثير من الكتّاب الجُدد في بداية حياتهم الإبداعية، أو في مستهلّ عطاءاتهم المبكّرة، على هذه الصّفات التي ينبغي أن يتسلّح بها هؤلاء الذين مازالوا حديثي العهد بخوض غمار تجربة الكتابة والإبداع، والكيّ بأوار لهيبهما، ولسعة جمرتهما والاحتراق بنارها والاستضاءة بنورها.
بين الكمّ المُهلهل والكيْف المُميّز
يؤكد معظم النقاد أنّ هذه الأزمة بمفهومها الواسع هي قائمة بالفعل، خاصّة لدى بعض المبدعين والمبدعات ممّن اكتملت لديهم ولديهنّ عناصر النّضج الفنّي، وتوفّرت عندهم وعندهنّ مؤهّلات النّشر والذيوع والانتشار. ومع ذلك ما فتئ هؤلاء وأولئك يعانون ويواجهون أزمة نشر حقيقية، وما انفكّت الشكوك والتخوّفات تخامر مختلف الجهات التي تُعنى بالنشر وتسويق الكتاب وترويجه في مختلف بلاد الله الواسعة في مساندتهم، وترتاب في تقديم الدّعم لهم لتحقيق أحلامهم، أو بلوغ مأربهم. فالشباب دائم الحماسة والاندفاع، سريع السّعي نحو الشّهرة المبكّرة. وقد يجعل من ذلك معياراً أو مقياساً لمعرفة نفسه من خلال بواكير عطاءاته وإنتاجاته الأولى؛ وقد يفوت بعضَهم أنّ العبرة ليست في “الكمّ الكثير المهلهل” الذي ينتجه أو يقدّمه هذا الكاتب أو ذاك من أيّ نوع، بل إنّ العبرة الحقيقية تكمن في “النّوع القليل الجيّد” الذي تجود به قريحة هذا الكاتب أو ذاك، والأمثلة على ذلك لا حصر لها في تاريخ الخلق الأدبي في كلّ صُقع من أصقاع عوالمنا المترامية الأطراف.
كم من كاتب يصادفنا أثناء قراءاتنا المختلفة، ويحتلّ في أنفسنا مكانة أثيرة، ومنزلة مرموقة لعملٍ واحدٍ جيّدٍ من أعماله أو عملين بذّ بهما وتفوّق على سواه من كتّاب عصره. ومعروف عن القاص المكسيكي الكبير المأسوف على شبابه خوان رولفو أنّ مجموع إبداعاته الأدبية لا تتجاوز الثلاثمائة صفحة، ومع ذلك حقّقت كتاباته الإبداعيّة نجاحات منقطعة النظير،ممّا دفع صاحب “مائة سنة من العزلة”، الكولومبي العالمي الراحل “غابرييل غارسيا ماركيز:الى القول عنه بإعجاب: “هذه الصّفحات الإبداعية على قلّتها ارتقت برولفو إلى مصافّ سوفوكليس”. وينطبق هذا بشكلٍ أو بآخر على كاتبنا المصري المُجيد الرّاحل صاحب “قنديل أمّ هاشم” يحيى حقّي كذلك، كما ينطبق على مُبدعين آخرين؛ في حين أننا قد نجد كتّاباً كثيرين غيرهم ممّن كثرت تآليفهم، وتعدّدت كتبهم، وتنوّعت مجالات اهتماماتهم، ولكنّا مع ذلك قد لا نجني من وراء “غزارة إنتاجهم” هذه طائلاً يُذكر. (أنظر مقالي حول الكاتب المكسيكي (خوان رولفو) في هذا السّياق بجريدة “القدس العربي” عدد 7447 بتاريخ 29 مايو 2013).
مَنْ جَدَّ وَجَد ومن زرع حصد!
الكاتب الجادّ المتأنّي الدّؤوب، المثابر الحثيث الواسع الاطّلاع غالباً ما تظهر في كتاباته المبكّرة علامات النضج التي تميّزه عن غيره، تكون بمثابة إرهاصات، وأمارات، وعلامات تنبئ بولادة كاتب جيّد وتبشّر “عالم الكتابة والقراءة والابداع ” بخير عميم. وهنا يتّضح لنا الفرق بين الكاتب الذي لا يدّخر وسعاً، ولا يألُو جهداً من أجل اقتفاء بلا هوادة ولا وهن خطى الفكر والابداع في كلّ مكان داخل وطنه وخارجه؛ أيّ إنّه يتتبّع ويقرأ ويهضم كذلك باستمرار كلّ ما ينشر في الثقافات الأجنبية الأخرى من جيّد وجديد الأعمال الإبداعية المكتوبة وأنجحها في مختلف اللغات، ومن مختلف الأجناس، والأعراق، ويغذّي ويُغني كتاباته، وإبداعاته، وبضاعته الفكرية بالتراث الذي لا محيد ولا غنى له عنه.
أمّا الكاتب المتسرّع الذي لا يبذل أيّ جهد يذكر في البحث، والمثابرة، والتحصيل، والتتبّع، والاطّلاع المتواصل، سرعان ما يكتشف أمره من خلال كتاباته التي استعجل نشرها، فقد تكون هذه الكتابات تفتقد إلى المقوّمات الضروريّة، وعناصر النّضج اللاّزمة التي تجعل من الإنتاج الأدبي عملاً جيّداً أو على الأقل عملاً مقبولاً، وصالحاً للنشر، وقد تصبح هذه الكتابات، في بعض الأحيان، أشكالاً بلا مضامين ذات قيمة، أو على العكس من ذلك، قد تكون مضامين قيّمة في قوالب أدبية هشّة وضعيفة البنية. فهل هناك من يكتب أكثرَ ممّا يقرأ؟ للإجابة عن هذا السّؤال لا يمكن الجّزم نفياً أو إيجاباً، ذلك أنّ كلتا الحالتين قد يكون لهما وجود بيننا بالفعل.
هَوَس بعض هذا النوع الأخير من الكتّاب هو استعجالهم في عملية النشر، علماً أنّ هذه الفرصة لن تفوتهم أبداً؛ أمّا الذي يمكن أن يفوتهم حقّاً فهو فرصة اطّلاعهم، وتحصيلهم، وقراءتهم، وتتبّعهم، واقتفائهم لكلّ جديد في مجال تخصّصهم، أو ميدان اهتمامهم على الأقلّ. فالعالم دائم التطوّر، وعجلات قطاره لا ترحم، تدور بلا هوادة، وبدون انقطاع، وفي كلّ يوم يقذف إلينا الفكرُ الإنسانيُّ بالجديد المُذهل في كلّ فرع من فروع العلم،والمعرفة والأدب، والإبداع، والثقافة بوجه عام، ممّا ليس للأديب الحقّ بدّ، ولا مهرب، ولا مناص، ولا ملاذ من متابعته، وملاحقته، وهضمه واقتفاء آثاره، والتسلّح بسلاحه الذي يواجه به العالمَ المحيط به، والذي يجعل منه غذاءً روحيّاً ثرّاً لكتاباته، وعطاءاته، وإبداعاته، ويزيد في سعة اطّلاعه، وقديماً قيل في الأمثال: من جدّ وجد، ومن زرع حصد!
مَنْهُومَان لا يَشبَعَان!
على هؤلاء الكتّاب أن يضعوا في اعتبارهم دائماً ونصب أعينهم أنّ سبيلهم الأوّل إلى الكتابة الجيّدة، والإبداع الناجح، وبالتالي تعبيد الطريق إلى النشر والشهرة، والذيوع، والانتشار، هي القراءة، ثمّ القراءة ،ثمّ القراءة ، وبذلك يضمنون لأنفسهم المكانة المرموقة التي يتوقون إليها ليصبحوا في ما بعد كتّاباً حقيقيين؛ وعليهم ألاّ ينسوا أنّ أكبر الكتّاب من مختلف الأجناس والأعراق كانوا يقضون الليل كلّه أو معظمه بين أكوام الكتب، والمجلّدات، حتى يغلبهم النّوم،ويلفّهم الكَرىَ تحت عباءته، فيبيتون بين أحضان الكراريس، والقراطيس، والمطبوعات، والأسفار، والمجلّدات، وهم يعرفون ويستوعبون جيّداً فحوى تلك المقولة الشهيرة القائلة: من طلب المعالي سهر الليالي،أو المقولة الأخرى التي تقال على سبيل الدعابة والمزاح الهزلي والجدّي: مَنهُومَان لا يشبعان: طالبُ عِلمٍ، وطالبُ مال!، اللهمّ إجعلنا من زمرة الأوّلين الطالبين للعلم والمعارف والتقىَ، أما المال فله أربابه وأناسه وأساطينه وعشاقه! وهذا الأخير أضحى في زماننا الكئيب أكثر إلحاحاً وإمعاناً من سابقه، وهذا أمر يؤسف له حقّا ويُندى له الجبين ، وقديماً قيل كذلك في ذات السياق : كلّ إناءٍ يضيق بما فيه إلاّ إناء العِلم فإنّه يزداد اتّساعاً..!
قد تغدو، على ما يبدو الأزمة الحقيقية في بعض الأوساط الأدبية والثقافية إذن هي أزمة قراءة، قبل أن تكون أزمة إبداع ونشر؛ ذلك أنّ الإنتاج الجيّد لا بدّ أن يأخذ طريقه إلى النشر والنّور والظهور مهما أسدلت عليه حلكة الليل ستائر العتمة والظلام، واعترضت سبيله الصعوبات والعقبات، فبعد كلّ ليلٍ طويلٍ حالكٍ مدلهمٍّ لا بدّ أن ينبلج صباح باسم، مشرق، وضّاء.
وينبغي أن لا ننسى في آخر المطاف أن كلاًّ من: شكسبير، وتشيخوف، وفلوبير، وفولتير، وسيرفانتيس، ولوركا، ومركيز، وبورخيس، ورولفو، وتولوستوي،وديتوفسكي،وكافكا، وبيسووّا، وكونديرا، وطرفة ابن العبد، وزهير ابن أبي سلمى المزني، ولبيد الابرص، والنابغة الذبياني، وبشّار ابن بُرد، وابن الرّومي، والفرزدق، والأخطلان الكبير والصغير، وأبو تمّام، والبحتري، وأبوالعلاء، والجاحظ، والمتنبّي، وابن زيدون، وابن حزم، وابن سهل، وابن قزمان، ولسان الدين ابن الخطيب، ونجيب محفوظ، وطه حسين، والرّافعي، والمنفلوطي، ويوسف ادريس،ومحمد الصبّاغ، وعبد الجبار السّحيمي، ومحمد شكري، وسواهم من الكتّاب، والشّعراء، والمبدعين الكبار، ينبغي أن لا ننسى أنهم هؤلاء وأولئك عاشوا عندما ماتوا!