اليوم السادس عشر.. قصة سرية عن انهيار جدار برلين
تعريب: محمد عبد الإله المهمة
1)-شذرات من سيرة أحد رواد الستازي
اعتاد الرجل، أثناء رحلاته الجوية نحو جمهورية ألمانيا الاتحادية، ركوب خط برلين- بون. مكانه دائما بالصفوف الأمامية. هذه المرة، وخلافا للسابق، حجز المقعد الأول من الصف الأمامي، كي يتسنى له أثناء عودته يوم 24 أكتوبر 1989 مغادرة الطائرة، ليندلف خلسة داخل السيارة الرسمية المعدة لاستقباله، من دون أن يأبه به أحد من الركاب، أو تلتقطه عدسات وعيون الصحافيين المتربصين على مرمى حجر من ممر العبور بمطار برلين. أهم ما يشد إليه الانتباه، صيته الذائع بين كبار مسؤولي المستشارية في ألمانيا الغربية. فالمقربون من هيلموت كول يلقبونه بالـ (رقم واحد) أو يلقبونه بالـ (الرجل الثالث في نظام ألمانيا الشرقية)، من دون أن تمنعهم مظاهر البروتوكول من النداء عليه هكذا: “شالك”، هي صيغة مجردة وباردة لاسمه الحقيقي، الثلاثي (ألكسندر شالك كولوفسكي).
فضلا عن كونه ملياردير ، شغل شالك منصب رائد بجهاز الأمن السري بألمانيا الشرقية.كما اعتبر المسير الحقيقي لوزارة المالية بها، وإن كان يقوم بذلك في الظل، في سرية تامة، فقد كان الممول الفعلي لبلده بالعملة الصعبة. فكيف تسنى له التوفيق بين وظائف و أدوار بعيدة عن بعضها؟
مند ما ينيف عن عقدين من الزمن، وألكسندر شالك، يباشر مفاوضات في غاية السرية مع جمهورية ألمانيا الاتحادية، غير أنها لم تكن مساع بريئة دائما. فقد أبرم اتفاقات بين الدولتين، وعقد صفقات خصت المواد الأولية، والتحف الفنية، وحتى المعتقلين السياسيين. إذ جعل من تجميع عائلات موزعة الأفراد بين الدولتين، موضوع متاجرة.
هذه المرة، وعلى عكس سابقاتها، ظهرت على شالك أثناء هذه الزيارة لألمانيا الاتحادية شراهة زائدة للمال. السبب؟ نوعية ما يسعى خلف عقده من صفقات تهم حياة نظام جمهورية ألمانيا الديمقراطية. فقد ألقى الاضطراب بظلاله على الحياة السياسية، وغطى واجهتها بأحداث عرضتها للاهتزاز. لم تستطع مساعي الرئيس إريش هونيكر إخفاء الأزمة. في ظل حكم بات على مشارف الانهيار. فالنازحون الفارون من نحو الشطر الغربي من ألمانيا يعدون بمئات الآلاف. هروب تدعمه بون وتشجع عليه عن طريق سفارتها في براغ، حيث لا يمر عبر الحدود المتاخمة لهنغاريا، سوى من تعذر عليهم المرور عبر خط براغ. أما في الداخل فالمتظاهرون يطالبون بإجراء انتخابات تعددية حرة،و بحرية السفر إلى الخارج.
بحكم مسؤولياته وموقعه في النظام، فإن ألكسندر شالك يدرك وبدقة متناهية حقيقة ما يتحكم في الاضطرابات المتربصة بالدولة، ويجعل من الشارع مجالها الأوحد، لحد أصبحت معه الدولة قاب قوسين من الانهيار. كما أنه يدرك أنه بعد أسابيع معدودة فقط لن يكون بوسع جمهورية ألمانيا الديمقراطية تسديد مديونيتها الخارجية جراء عجزها الجبائي. فليس لها من خيار سوى الإعلان عن فتح الستار الحديدي من جهة، لوضع حد لنزيف الهجرة، ومن جهة أخرى لطمأنة المحتجين.
تحث ضغط هذه الظروف لم يعد بوسع الرئيس إريش هونيكر سوى الاعتراف صراحة بجدية الاستعدادات الجارية لعرض قانون جديد، يحرر السفر إلى الخارج قبل متم احتفالات رأس السنة، و أن يوعز لمعاونة ألكسندر شالك بالتفاوض حول سبل تدبير ذلك في أسرع ما يمكن من وقت.
2)- شراكة بون- برلين ، الرابح و الخاسر؟
في العاصمة بون، لم يسلم ذهن ألكسندر شالك من التفكير. ظل يخمن ويقلب ما يجول بخاطره من أفكار يحتمل أن تعرضها عليه المستشارية الألمانية. يطرح الاحتمالات ويفكر في كيفية إبعاد أسوئها أثناء مفاوضة غريمه. خلال المناقشة حدث غودولف زايترز وفولف كانك شوبل عن ارتفاع تكاليف السفر من البلدان الاشتراكية نحو الغرب، معللا رأيه، بحاجة المسافر من ألمانيا الشرقية نحو الخارج للعملة الصعبة. الشيء الذي يثقل لا محالة كاهل الخزينة العامة للدولة. ثم دعا في ختام مداخلته إلى “مشاركة مالية منصفة” من جانب بون، مشيرا إلى محاسن عمل من هذا النوع على مستقبل “الشراكة الاقتصادية ” بين الدولتين الاشتراكية والرأسمالية.
من جانبهما، أوجز المفاوضان الغربيان ردهما، بعرض الشروط التالية:
1- رفع قرار المنع عن المنتدى الجديد، ممثل المعارضة السياسية.
2- تمتيع هذه المعارضة بالحق في نشر أفكارها والدعاية لها بين العموم.
لكن اكتفائهما بهذه الشروط، لم يكن تقليلا من ذكاء ألكسندر شالك ولا من قدرته على إدراك جوهر الإصلاح السياسي المطلوب، فتح الجدار، حتى و إن تجاهلا ذكر ذلك بالاسم. أما في ما يتعلق بطلبه مساعدة بون المالية، فقد صرحا بإلزامية معاودة السيد المستشار الألماني، و أخذ رأيه قبل إعلان أي موقف.
تلك كانت حصيلة جولة مفاوضات لم تترك لألكسندر شالك ما يدعوه لتمديد زيارته لبون. لذلك ،طار عائدا نحو برلين الشرقية، ليضع رئيسه إيغور كرينز في صورة مشاوراته. و من يومها ،شرعت القبضة الحديدية تشتد على جمهورية ألمانيا الديمقراطية، و بقوة لم يتوقف مفعولها طيلة ستة عشرة يوما دون توقف.
3-ضغط الوقت.. سلطة المال
تستر ممثلو المستشارية الألمانية عن رأي هيلموت كول، بل حتى على رئيس مكتب الرئيس إريش هونيكر. صمت اضطره لإجراء اتصال للاستفسار يوم 26 أكتوبر 1989، دون أن يدور بخلده أنه سيكون الاتصال الأول والأخير بين رئيسي الدولتين. تطرق، إيغور كرينز لمشكلة السفر، مضمنا إياه التأكيد على أن بلاده “سوف تصدر، ولو أن ذلك ليس بالأمر الهين، قانونا خاصا قبل متم احتفالات رأس السنة، ولو أنه سيجعل الحزب الحاكم في مواجهة مشكلات اقتصادية فعلية “، و رغم كل هذا لم يتلق من نظيره، الذي تهرب من الوقوع في فخ عرض التزام أو تعهد من لدنه كرئيس دولة، غير المناورة. وعوضا عن ذلك ألح هيلموت كول، ومن موقع قوة، على نفس ما عرضه مساعدوه من شروط “المهم بالنسبة لنا هو حرية السفر”، “مع تلميح لإمكانية تعاون ثنائي لإيجاد حلول ترضي كلا الطرفين، كل حسب قدرته. قبل إنهاء المكالمة، دعا المستشار الألماني هيلموت كول مخاطبه إلى عدم الكشف عن هذا الاتصال، تجنبا – كما زعم بمهارة الدبلوماسيين – “لعدم إثارة توقعات غير مرغوب فيها”.
على المدى التاريخي السحيق، لم تكن معركة الإنسان مع الزمن معركة عادية. لأنها بالفعل كانت حربا شاملة قاتلة، بل مدمرة أحيانا. فها هي اليوم الجمهورية الألمانية الديمقراطية تجد نفسها في مواجهة مع الزمن. تجد نفسها في خضم معركة وجود حاسمة. من ثمة، ليس هناك ما يفسر إسراع المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الديمقراطي لعقد دورته. أثنائها تقدم ألكسندر شالك بتقرير أنجزه بمعية واضع “مخطط احتواء الأزمة”.
كان تقريرا مفصلا من اثنتي عشرة صفحة. ضمنه تشخيصا أوليا للوضعية الاقتصادية دون تمويه، وسجل فيه بمنتهى الوضوح أن “لا سبيل إلى تسديد الديون الخارجية سوى بإحداث تخفيض في مستوى المعيشة يتراوح بين 25%و 30 %، و بالموازاة مع ذلك خوض مفاوضات مع جمهورية ألمانيا الفيدرالية، لجلب قرض على قدر كبير من الأهمية. كما أن التقرير نص على أن بلوغ هذا الهدف يقتضي إبداء الاستعداد أمام الطرف الآخر على أن “الوضعية الراهنة للحدود بين الدولتين، لابد من أن تصبح لاغية مع نهاية القرن العشرين”. هكذا، وعبر وثيقة حزبية، الإقرار رسميا بضرورة تحطيم الجدار. فإذا كان المخطط قد حدد عملية التحطيم في أفق 2006، فإن التطورات التي أعقبت دورة اللجنة المركزية جعلت مما سيحدث في مستهل العقد الأول من الألفية الجديدة حدثا تاريخيا. إذ سقع انهيار جدار برلين بعد ستة أيام فقط.
4-مأساة اللاجئ والمتملص
في العادة، تحاط لقاءات رؤساء الدول والحكومات بهالة من المراسيم والبروتوكول. فشرط عقدها تعرف دقة عالية في التنظيم، مع اعتبار نوعية اللقاء وقيمة الطرف المعني بالمقابلة، وترتيب جميع هذه التفاصيل، يصاغ وفق ما يسمى بمفكرة الرجل الأول في الدولة.
كان من المقرر، قيام إيغور كرينز بزيارة دبلوماسية للأخ الأكبر في موسكو. لذا فكر في استغلال المناسبة لطلب مساعدة “مالية” من الكريملين. أقلته الطائرة، ليقصد “مقر القرار السياسي المشرف على الساحة الحمراء”، متأبطا تقريره المفزع. هناك أطلع ميخائيل غورباتشوف عن العجز الحاصل في المديونية، مؤكدا حاجته الملحة لاثنى عشر مليار مارك. لم يستطع الأخير أمام حالة الذهول التي لبسته سوى قذف محدثه باستفهام استنكاري، هل أنت واثق من صحة أرقامك؟ إذ لم يتبق للاتحاد السوفياتي ما يسمح لرئيسه بتقديم مساعدة بهذا الحجم والقيمة.كما لم يعد قادرا حتى على مجرد الوعد بذلك. لذا، وجبرا منه لخاطر ضيف حليف، لم يبخل ميخائيل غورباتشوف بإسداء النصيحة التالية: يجب عليكم “الإسراع باقتراح معادلة تمكن مواطنيكم من صلة أقاربهم المقيمين بالشطر الغربي من ألمانيا، على أن تجيدوا الربط في هذا العمل بين ما تبادرون به، وبين تعهد معقول من لدن الطرف الآخر. “ثم أضاف محذرا: “حذار من هيلموت كول، فهو ليس نموذج المثقف المتنور، وإنما مجرد بورجوازي صغير، لكنه قبل هذا، هو سياسي ماهر وعنيد”.
لم تكن النصيحة أكثر من إشارة غير مباشرة، تحمل وجهة نظر الرفاق لمسألة الحدود والجدار. لأنهما حسب النصيحة – دائما – “ورقة ألمانيا الشرقية المربحة”، التي لا ينبغي استعمالها بخطأ. فلئن كان لا مناص من لعب هذه الورقة، يقول السوفيات، فالأجدى أن يتم ذلك بما يجعل القرض المطلوب مضمونا.
5-لماذا لا يقرر المستشار؟
الاثنين 6 نوفمير 1998.صباح مشحون بمشاعر العجز والعبث. شعور عميق وبلا نهاية. ما يزيد من حدته، كونه أصاب رجلا يتربع فوق قمة الحكم في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، يصارع ضجر الانتظار في استسلام لأحاسيسه، وكل أمله أن يبلغه خبره المأمول من هيلموت كول. الجميع من مسئولي الحزب والدولة متأثر بحركة عصيان مدني، أوشك قبل يومين أن يتحول إلى تهديد حقيقي. فالمتظاهرون في الشوارع بمئات الآلاف. مطالبهم حرية السفر والتنقل خارج البلاد، وتنحيته هو شخصيا عن الحكم.
على الرغم من هول الحادث، خرج إلى الناس لطمأنة الخواطر الغاضبة.فصرح أنه من حق الراغبين في الهجرة النهائية إلى جمهورية ألمانيا الفدرالية فعل ذلك. صرح بها حتى من دون ما كان ينتظره من مقابل مادي لهكذا إعلان رسمي. غير أنه شرط الالتحاق ببفاريا بضرورة المرور عبر يوغوسلافيا. من حينها شرعت البوابة الحدودية لهذه الجارة في استقبال أفواج المتدفقين من النازحين، إلى أن بلغ معدل المرور ثلاثة مائة سيارة عند نهاية كل ساعة.وسعيا خلف مبادرة إضافية تفوق سابقتها، أعلن إيغور كرينز صباح يوم الاثنين فاتح دجنبر، عن مشروع جديد للسفر، يكفل مقتضاه المسطري مرونة الحصول على تأشيرة المغادرة، تمنح للمواطنين على حد سواء حق السفر إلى الخارج ، لمدة ثلاثين يوما في السنة، دونما حاجة لتحويل عملتهم الوطنية إلى العملة الصعبة. مذكرا في هذا الصدد بالزوار المتوافدين على ألمانيا الديمقراطية، “الزوار الغربيون، يعتمدون الأسلوب نفسه أثناء زياراتهم لألمانيا الشرقية”. وقد كان يرمي بإشارته هاته إلى انتظاره إشارة مماثلة من المستشار الألماني الغربي.
6-دعه ينتظر.. دعه ينفجر
جلبة غير مألوفة زوال هذا اليوم بأروقة المستشارية الألمانية. فهلموت كول ينتظر ما ستسفر عنه اجتماعات اللجنة المركزية للحزب الحاكم في برلين الشرقية، تحت ضغط كاد أن ينفجر على إثره لولا أنه يردد: “إلى متى؟ إلى متى؟ “لقد استبدت به لهفة تلقي الخبر أولا بأول. أما إريش هونيكر، فلم يعد له من الوقت ما يكفيه لأجل عقد جولة تفاوضية جديدة. لا يمكنه مسايرة ضغط الشارع بالمزيد من التناور. لأنه سوف يخوض بعد يومين أول مواجهة مع أعلى هيئة تقريرية في الحزب منذ توليه منصب الأمين العام. خصوصا وأن هذه اللجنة سوف تلتئم بجيمع أعضائها المائتين والثلاثة عشر. وسيكون مجبرا على الاعتراف في حضرتهم – ولو بالتلميح – بإفلاس الدولة. لكن، هل يكفيه ذلك؟ وهل تفيده حماسة انتصاره الانتخابي كأمين عام للحزب ورئيس للدولة؟ حتى يضمن بمساندتهم، تلقي مساعدة مالية ضخمة من ألمانيا الاتحادية؟ بصرف النظر عن هذا الاعتبار، فإن الرجل لم يعد يجهل مصير مستقبله السياسي.
زيارة شالك لبون كانت خاطفة هذه المرة. كان هناك لعرض الفاتورة الحقيقية أمام رجالات هيلموت كول. “إثنى عشرة مليار كقرض، إلى حانب (308) أخرى لتغطية تكاليف نفقات الراغبين في السفر”.. يالها من جسامة وضع، فاجأت إيغور كرينز وزميله فولف كانك شوبل، اللذان أُبلغا بأن المقابل سيكون استعداد إريش هونيكر لقبول جميع شروط بون. كانت اللحظة مواتية للانقضاض عليه، غير أن الرجلين الغربيين فضلا عدم التصرف إلى حين العودة إلى السيد المستشار.
في المساء وهو بمكتبه بعد العودة من العاصمة بون، تلقى ألكسندر شالك مكالمة مكالمة من زايترز: “لقد تداولت مع هيلموت كول في الموضوع، وإليك شروطه الثلاثة. الإقرار بالتعددية الحزبية، انسحاب الحزب من دور الموجه، وإجراء انتخابات حرة. طبعا يضاف إلى هذا كله، الحرية المطلقة في كل ما يتعلق بالسفر “. ثم أضاف: “أما بالنسبة للتفاصيل المتعلقة بالسيولة النقدية، فيتعين انتظار عودة المستشار من بولاندا يوم 14 نوفمبر ، “ثمانية أيام من الترقب والانتظار، سوف تكون دون شك بمثابة ردح من الزمن. معاناة حقيقية ليس بالنسبة إريش هونيكر وحده و إنما حتى لمعاونيه.
7- الحصار المزدوج، صدفة أم ممنهج؟
في الطابق الثاني، شيد جناح خاص لاجتماعات اللجنة المركزية. صباح هذا اليوم 07 نوفمبر 1989، ومنذ الساعة التاسعة، دب الحديث بين الحضور، ثنائيا قبل أن يتحول |إلى حوار جدي بين مجموعات صغيرة.ستلتئم اللجنة المركزية بجميع أعضائها ، للبث في جدول أعمال محوره ما التطورات والضغوطات التي تمارس ضد السلطة الاشتراكية في ألمانيا الشرقية. لا سيما وأنها بلغت من الحدة ما يفوق تحمل دولة ذات سيادة. إذ، بالأمس فقط، هزأ المتظاهرون في مدينة ليبزغ.
من مشروع قانون السفر المقترح.علاوة على اعترضهم على ما اعتبروه ، سياسة أنصاف الحلول التي تقابل بها مطالبهم.
لقد أصبحوا يلوذون بمطالبهم في الحرية بهيلموت كول، الذي يصر على الديمقراطية في ألمانيا الشرقية. أما عن الرفاق التشيك، فقد صدرت تهديدات واضحة، أعلنوا عبرها ودونما تكلف، عن إغلاق الحدود مع ألمانيا الشرقية، مرددين قولهم “لا رغبة لدينا في حمل عدوى تفكك النظام، وإذا لم تقوموا بإيقاف الهجرة، سنقوم بذلك بدلا عنكم”. أمام هذه الوضعية المحيرة، ضاع السؤال في متاهة. جدار أخر، وبالضبط على الحدود الشرقية هذه المرة، ستكون كارثة فعلية وإضافية. فكيف السبيل إلى منع وقوعها؟ إن نقطة عبور مباشرة بين الألمانيتين يحتاج إلى مكان. لكن، أين هو هذا المكان؟ هل تفيد في ذلك الحدود بين الجارتين وبيت تشيكوسلوفاكيا؟.. مستحيل. إن حل مسألة من هذا الحجم ليس بالأمر السهل. فلا بد من ترتيبات وأولويات يتعين الخضوع لها. أمام حالة الانحباس هذه، دعا المكتب السياسي للحزب الوزير الأول لاقتراح حل مقبول قانونيا. على أن يتم عرضه في الدورة اللاحقة للجنة المركزية المقرر عقدها بعد يوم الغد الموافق لـ09 نوفمبر 1989. فبناء على هذه النقاشات الأولية، سواء للوضع داخل البلاد بما في ذلك المستجدات السياسية، وعلى خلفية ما جرى تحديده من تكليفات بمهام مستعجلة دعا وزير الخارجية أوسكار فيشر لعقد اجتماع، خص بع بتوجيه من المكتب السياسي، السفير السوفياتي، لاطلاعه على المقاييس المؤقتة المقترحة، بأمل أن يتراجع التشيكيين عن قرارهم بإغلاق الحدود مع ألمانيا الشرقية، وليطلب منه “رد فعل موسكو يوم التاسع من نوفمبر على أبعد تقدير”. من جهته وبمجرد وصوله إلى مقره بالسفارة، أجرى فياسلاف كوشيماسوف، اتصالا هاتفيا مع رئيسه إدوارد شيفارنادزي بموسكو، حيث أبلغه هذا الأخير بما يلي: “إذا ما ظهر للرفاق الألمان بأن الحل ممكن، فإن الحكم عليه يخصهم لوحدهم، “غير أنه أكد في الآن نفسه، على أنه سوف يعين من بين مستشاريه ، من يتولى التفكير في هذه الصيغة للحل. على أن يقدم بشأنها جوابه النهائي يوم التاسع من نوفمبر كما هو مطلوب. وقبل إنهاء المكالمة، طالبه بتعيين من يتولى الاستقصاء يوم الثامن من نوفمبر بدل يوم التاسع.
في برلين الشرقية، شهد مقر السفارة السوفيتية حركية جد استثنائية.فالجميع منغمس في غمرة الاستعداد لاحتفالات ثورة أكتوبر. فرغم أهمية الحدث، عقد السفير اجتماعا طارئا للازمة. حضره بصالة الحربية الفسيحة، إيغور ماكسمتشيف ثاني مسؤول رفيع المستوى يعمل بالسفارة، إضافة إلى أهم العاملين بها من مستشاري وضباط الـ( ك.ج. ب.) والاستعلامات العسكرية.
يوم الأربعاء 08 نوفمبر 1989 في حوالي الساعة الحادية عشرة، اخترق رنين الهاتف الصمت المخيم على القاعة (509) بمقر وزارة الداخلية ببرلين الشرقية. إنه، جرس الهاتف الأحمر المخصص للاتصالات الاستثنائية. رنة تنذر باتصال أحدهم على درجة قصوى من الأهمية. إنه فريدريش ديكل، من اتصل في طلب مستعجل لرئيس مصلحة الجوازات جرارد لوثر، ليبلغه “أن المكتب السياسي يرغب في وضع حد لتدفق الهاربين عبر تشيكوسلوفاكيا. لهذا، فهو مدعو للإسراع في إعداد مرسوم يجيز كل المغادرات النهائية عبر أي من مراكز الحدود، وليس هناك من يستطيع إنجاز هذا العمل “تم أنه و لأجل المزيد من الدقة في التبليغ، أضاف: “غدا صباحا، وفي الساعة التاسعة بالضبط، سوف تستقبل بمكتبك ضابطين من الستازي للاشتغال بمعيتك. وعند الزوال، لا بعده، يجب أن يكون مشروعك معروضا على أنظار اللجنة المركزية”. أمام هذه الوضعية بدأت تتناسل الأسئلة المؤرقة في تأمل مسار هذه الأزمة التي تمكنت من البلاد، من نظير ، لماذا لم يتلق وزير الداخلية نفس ما تلقاه رئيس مصلحة الجوازات من تعليمات؟ و أيضا، لماذا قيل للأول “جميع المراكز الحدودية؟ في حين قيل للثاني “منفذ واحد؟”، أليس من البديهي طرح سؤال من المسؤول عن الغلط إذا كان هناك غلط أو خطأ؟ هل هناك من قام بتسريب معلومات كاذبة؟
على الرغم مما مضى على انهيار جدار برلين من وقت، فإن هذه الأسئلة ظلت محاطة بسور من الغموض.
مع تقدم عقارب الساعة واستقرارها عند الساعة الرابعة بعد الزوال، أصبح التوتر يزيد من إحكام سيطرته على ألكسندر شالك. على خلافه كانت حالة هيلموت كول، فأمام البوندستاغ، وفي أعقاب خطابه التقليدي حول دولة الأمة، صرح بأن إذعان الحزب الاشتراكي الديمقراطي لشروطه الثلاثة، سوف يجعله يرخص “لمساعدة اقتصادية على درجة من الأهمية”.
من أحد مكاتب اللجنة المركزية، التي أوشكت حينها على انطلاق اشغالها الاستثنائية، قام ألكسندر شالك بمهاتفة غودولف زايترز في قصر المستشارية. “من المؤكد أن الحزب سيقول نعم ابتداء من يوم غد. فاطلب الآن من هيلوت كول أن ينزل ببرلين الشرقية أثناء رحلة عودته من بولاندا يوم 14 نوفمبر “. لم ينه زايترز المكالمة وإنما احتفظ بالخط مفتوحا وغاب، ليعود بعد عشرين دقيقة، ويرد على مخاطبه بالقول: إنه لا يرغب بذلك . سأله: “فمتى سيعود؟ “، لا جواب.إنه أوان إحكام القبضة الحديدية. على ماذا ينوي – غودولف زايترز- بالضبط؟
في الساعة التاسعة من صباح يوم الخميس 09 نوفمبر، وتبعا لما جرى حوله الاتفاق من تعليمات، حضر الجميع الاجتماع المقرر بالمكتب (509).حضر جيرارد لوثر قبلهم جميعا. بعده، وصل ضابطا الستازي وبرفقتهما خبيرين قانونيين. على الجميع الانكباب على إعداد مشروع مرسوم مؤقت. مرسوم يجيز الحق في الهجرة نحو الغرب، لكل من يرغب في ذلك، عبر أي مركز حدودي. أمامهم فقط، ثلاث ساعات للعمل. تحلقوا حول مائدة الندوات وشرعوا يحررون. كلما حرروا مشروعا يلقون به جانبا ويعيدوا تحرير غيره. حبروا بياض صفحات كثيرة، وككل مرة يصطدمون بنفس الصعوبة: ما العمل مع من يرغب في مجرد السياحة فقط؟ مع هؤلاء الذين لا يسعون وراء مغادرة نهائية لوطنهم؟ كيف يتسنى لنا مصادرة هذا الحق على أشرف مواطني جمهورية ألمانيا الديمقراطية؟
بعد اقتناعهم باستحالة الانجرار إلى هكذا موقف، و في محاولة منهم لتجاوز المأزق، قرروا عدم الخضوع للتكليف المنوط بهم, وفي لمحة برق حرروا حملتين سوف تغيران وجه العالم.
المادة الأولى، يمكن لطلبات السفر إلى الخارج أن تتم من دون شروط.
المادة الثانية، يمكن للمغادرات النهائية أن تتم ابتداء من الآن عبر كافة المراكز الحدودية بين الألمانيتين، ومن ضمنها حدود مركز برلين.
كما نصصوا على أن هذا المرسوم سيكون ساري المفعول ابتداء من بعد يوم غد 10 نوفمبر 1989.
زوال نفس اليوم ، ومن مقر وزارة الشؤون الخارجية بموسكو ، اتصل إيفان إبويموف، مساعد وزير الخارجية المكلف بالدول الاشتراكية، وطلب كوشيما سوف، سفير موسكو ببرلين الشرقية: “أخبر الرفيق إيغور كرينز بأنه ليس لدينا اعتراض على الحل المقترح، فتح مركز وحيد بالجنوب الشرقي لجمهورية ألمانيا الديمقراطية”، و للتو، هرع السفير لتنفيذ التبليغ.
8-حينما انهار الأفق
الساعة الواحدة بعد الزوال. لازالت دورة اللجنة المركزية جارية، فلا سبيل أمام المجتمعين ليتقدموا في النقاش طالما يجهلون رأي الكريملين. “ما رأي موسكو بالحل المقتر؟ “حاجة من يدخل نفقا وهو يجهل نهايته، لبلوغ منطقة الضوء. كانت الحاجة لموقف الأخ الأكبر، ضرورة سيبنى عليها القرار النهائي. خلال فترة استراحة، اجتمع إيغور كرينز بالمكتب السياسي ليتلو علي أعضائه مشروع المرسوم الذي أعده جرارد لوثر، غير أن أهم ما استأثر باهتمام القيادة هو معرفة رأي موسكو، لهذا كان رده هو أن “ليس لديها اعتراض”.
حالة من الإحساس بالإحباط والعزلة أصابا الجميع. صاروا، كأنهم جثث تسمرت في المكان وقد رحلت عنها أذهانها. راحوا يخمنون في المستقبل، في الأفق الممكن بعد هذا القرار، فلا يطالعهم غير الشعور بالاندحار والتلاشي. لم يكن الحال غريبا بالنسبة لقيادة سياسية أصبحت ترى إلى عالمها ينهار. لقد أصبح التصديق المرسوم أو إلغائه سيان بالنسبة لهم.
فلا مستقبل سياسي بعد إجراء انتخابات تعددية، وبعد إلغاء الدور التوجيهي للحزب. كانت حالة إيغور كرينز على غير حالتهم، فقد كان مقتنعا بأن فتح هذه الفجوة المراقبة والمؤقتة،سوف تدر على الخزينة العامة مليارات الماركات. ربما هو على حق في ما ذهب إليه، غير أن للزمن إرادة مغايرة. فقد جاءت على العكس من توقعاته. إذ، سوف تحدث واقعة مجلجلة بعيدا عن أية مراقبة من طرف برلين، ومن دون تعويض مادي من طرف بون. لقد حدث الانهيار، وكان انهيارا نهائيا وإلى الأبد.
9-ثمن الخطأ
عقارب الساعة متوقفة في (05.45). في هذه الأثناء سلم إيغور كرينز لغونتر شابووسكي ، الناطق الرسمي باسم الحزب وهما في قاعة ندوات اللجنة المركزية ورقتين اثنتين، وطلب منه أمرا: “قل لهم هذا،، بعد حين، خلال ندوتك الصحفية.إنه في صالحنا”.
لم يكن لهذا المسؤول الحديث العهد بالكتب السياسي علم بأمر المرسوم. فقد أمضى اليوم كله في لقاء الصحافيين. أما الآن وهو على متن سيارة الفولفو التي تقله من مقر اللجنة المركزية إلى مركز الإعلام، فبوسعه إلقاء أول نظرة سريعة على الخطاطة. حينما وصل مركز الصحافة، كانت الساعة تشير إلى (06.42): ” ابتداء من أي وقت سيسري مفعول المرسوم؟
كان هذا أول سؤال طرحه عليه الصحافيون.فأجاب، وعينيه مسمرتين على الورقة: “حسب معلوماتي، ابتداء من الآن”. قبل أن يستدرك تم يضيف للتأكيد: “أجل، ابتداء من الآن”. هكذا، رغم أن الورقة الثانية، والتي لم يلق عليها بعد أي نظرة تنصص كـ”خبر يجري تعميمه ابتداء الساعة السادسة من صباح يوم 10 نوفمبر1989″، أي ابتداء من يوم غد .لم يقرأ هذه الإشارة الحاسمة. زلة جسيمة يقترفها خلال بث مباشر للقناة الألمانية الشرقية. يصرح بها أمام حوالي مائتي صحافي من مختلف وسائل الإعلام والقنوات الدولية. لقد أخطأ غونتر شاوبووسكي، في لحظة لا أحد بوسعه توقع كم سيكون ثمن هذا الخطأ. فما أعلن عنه، يتطلب إعلام المراكز الحدودية، ودعوتها للتعبئة والاستعداد لتنظيم عملية سحب تأشيرات الخروج. وبعبارة أصح، جعل المراكز الحدودية في حالة استعداد لضبط ضغط الوافدين عليها.
10-كرونولوجيا التوافد والانهيار
1-الساعة 08.30 : بدأ التوافد على مركز ساحة بور نهو لمار الحدودي ببرلين الشرقية، جميعهم يعبرون عن الرغبة في الهجرة.منهم من وصل مستقيلا سيارته، ومنهم من قدم راجلا إلى الساحة.ينتظرون في هدوء ، فلا أحوال الطقس ولا البرد القارس، عطل سعيهم للحاق بالغرب.أصبحوا كتلا أدمية مكدسة ، فنبأ ” ابتداء من الآن ” ذاع و انتشر فتلقاه الآلاف في أطراف البلاد. أمام هكذا وضعية مقلقة، بادر جرالد بايير، رئيس فرقة الستازي العاملة بهذا المركز للاتصال بغرض الاستخبار لدى رئيسه. فكان الرد في غاية الصرامة: “مرهم بالعودة غدا “. كيف سيتأتى له ذلك مع كثل أدمية ترفض مغادرة المكان رغم أنها تجمدت من شدة القر.
2-الساعة 09.30: بنفس المركز، أصبح المائات ألافا مؤلفة، عازمة على مغادرة برلين الشرقية. لا بدون في المكان غير مبالين بما قد ينجم عن تعرضهم لنور المصابيح الكاشفة الموجهة صوبهم. أعاد جرالد بايير الاتصال برئيسه، وفي هذه المرة كان الرد جاهزا ” دعهم يمروا، الواحد تلو الآخر،لكت ضع خاتمك على أوراقهم الشخصية. فالمغادرة ستكون بالنسبة لهؤلاء نهائية”، ولن يحفظ لهم حق العودة”. بمجرد ما عبر الأولون منهم، وبدافع من فرط الفرح، بدأ بدأ اللاحقون يقفزون من أعلى الجدار/ حائط برلين.
3- الساعة 10.30: دائما بنفس المركز، أصبح المصممون على العبور يناهز العشرين ألفا.يرددون في صخب “افتحوا الأبواب.. افتحوا الأبواب”، يصيحون في تحد ودونما احترام لرجال الحدود. غضب جامح بث الرعب والهلع في رئيس فرقة الستازي ورجاله، فطالب بالإذن للجميع بالمغادرة، غير أن طلبه قوبل بالرفض. خوفه على حياته وحياة من معه، دفعه للمغامرة وعدم تنفيذ التعليمات الموجه إليه.لذالك فتح الباب على مصراعيه في محاولة كانت الأولى من نوعها، قبل أن تحذوا مراكز أخرى نفس حذوه. فمن دون إدلاء بالوثائق الرسمية، ودون حاجة لتأشيرة الخروج ، اندفعت حشود برلين الشرقية إلى الأمام، في ما يشبه خطوة رجل واحد، ثم انهار الجدار.
4-الساعة 21.00: حسب ما يبدو، أصبح متعذرا التواصل هاتفيا مع المستشارية الألمانية في بون. قبل ربع ساعة، وهو بفارسوفيا اتصل به صديقه الوفي إدوارد أشرمان . أخبروه أن هيلموت كول يحضر مأدبة عشاء دعا لها على شرفه الرئيس تادوز مازوفسكي، وأنه لا يصح إزعاجه. أمام إصرار الصديق الوفي، ربطوا له الخط مع المستشار: “السيد كول، تماسك جيدا، لقد فتح الألمان الشرقيون الجدار” سأله مخاطبه و قد احتوته بالدهشة المفاجأة : هل أنت متأكد و واثق مما تقوله؟؟”
حينذاك، شرع إدوارد إشرمان يصف له ما يشاهده من خلال جهاز التلفاز من مشاهد رائعة: “الحشود المتخطية للحواجز الحدودية، الشرائط الملونة، البكاء، الضحك.. السيد كول.. السيد كول، إنني أحكي لك بعيني”. هيلومت كول من جهته علق بخبث ماكر و خسة صريحة: “صراحة.. صراحة إنه موقف صعب التصديق”.
11-صدمة موسكو
لو لم يكن سقوطه إعلانا بميلاد عهد جديد بين شطري البلد الذي شطرته الحرب الباردة شطرين، لما حظي سقوط جدار برلين باجتذاب أنظار العالم. فمنذ وصوله صباح يوم الجمعة 10 نوفمبر1989، إلى مكتبه بمقر وزارة الشؤون الخارجية، ونائب الرئيس السوفيتي أ بريموف يتساءل في حنق وغضب: ما الذي حصل ليحدث انهيار الجدار بهذه الصورة؟ يتساءل وهو عاجز عن فهم حقيقة الذي جرى. لقد أعلموه بإمكانية تيسير السفر “على أن لا تتعدى منفذا واحدا في الجنوب من جهة ألمانيا الديمقراطية”، ليعودوا عند الساعة الثامنة لإخباره بالانهيار الكلي للجدار، من دون حتى موافقة موسكو. فحتى قبل أن يتحرر من وقع الذهول والحيرة، سارع إلى إجراء مكالمة مع السفير السوفيتي في برلين الشرقية: “أستوضح أصدقائنا الألمان حول الواقعة”، دقائق فقط، وجاءه الرد من وزير خارجية جمهورية ألمانيا الديمقراطية. كان ردا، ملؤه العتاب والتذمر واللوم:” وما الفائدة من وراء الذي جرى الآن؟ ما الفائدة يا ترى؟…”.
Le Nouvel Observateur-N°1565 de 09Nouvembre 1994