الاحتفالية: الكتابة الحية والقراءات الميتة

الاحتفالية: الكتابة الحية والقراءات الميتة
د. عبد الكريم برشيد
 
فاتحة الكلام
     شيء صعب جدا، أن تكون احتفاليا مثلي – مثلنا، وأن تفتتح هذا الكلام الاحتفالي الجديد، وفي أول يوم من أيام السنة الهجرية الجديدة، بكل ما تعنيه الهجرة من معاني البحث عن العوالم الأخرى، وعن المدن الاحتفالية المنورة، وأن تجد نفسك،من حيث لا تريد مجبرا على أن تتحدث عن الموت، ولكن بلغات الحياة وأن تتكلم عن الغياب والغائبين، ولكن بأبجدية الحضور العيدي والاحتفالي، وأن تتحدث عن الرحيل وعن الراحلين، وهذا ما يتناقض كليا مع رؤيتك العيدية للوجود، والتي هي حضور في المطلق من الزمان وفي المطلق من المكان.
   وإنني أسأل ذلك الاحتفالي الذي أسكنه أو يسكنني، وأقول له، كيف تقبل بالغياب، أنت المناضل الوجودي المؤمن بالحياة والحيوية وبفعل الحضور، وبشرف الحضور؟
   وكيف يمكن أن تتحدث عن الرحيل الأبدي والسرمدي، أنت المؤمن بالسفر والعاشق للسفر، بحثا عن عمر آخر، وعن حياة أخرى ممكنة الوجود، حياة تكون أوسع وأرحب، وتكون أغنى وأعلى وأسمى وأصدق وأشرف وأرحب.
   والراحل هذا اليوم هو سليم بن عمار، الاسم الذي أصبح اليوم معروفا لدى كل الناس بعمر سليم، والذي عرف أكثر بانتمائه إلي حقل الإعلام، المكتوب والمسموع والمرئي، مع أنه في الأصل رجل مسرح، وأنه مواطن مسرحي، في هذا الوجود الذي هو أساسا مسرح بلا حدود، وهو في الأصل فنان عاشق للمسرح، لأن هذا المسرح يتضمن كل الفنون، ويتضمن كل العلوم، ويتضمن كل الصناعات التضامن والمتحدة، وهو بهذا فنان شامل منحاز لذلك المسرح الشامل والمتكامل، وذلك في أبعاده ومستوياته، وفي كل صوره الجديدة والمجددة والمتجددة، تماما كما أن الإعلامي المسرحي الأديب والحكواتي عاشق للحياة، وعاشق لكل علوم وفنون هذه الحياة.
    وما لا يعرفه الجميع أن سليم بن عمار – عمر سليم – قد كان أول من قرأ مسرحية (امرؤ القيس في باريس)، وكان أول من قام بإخراجها مع المسرح البلدي بمدينة الدار البيضاء، وكان امرؤ القيس هو محمد كافي، وكان في دور عامر الأعور الفنان المسرحي والسينمائي الكبير والخطير محمد الحبشي،
   وما معنى أن تقدم مسرحية (امرؤ القيس في باريس) والتي هي أساسا صرخة ضد العسكر والعسكرتاريا وضد الانقلابات العسكرية، وضد كل تلك الشعارات المرحلية، والتي كانت تتعلق كلها بغلاف الديمقراطية وبغلاف الشعبية وبغلاف التقدمية، وبغلاف الحرية والتحرر، وكل تلك الأنظمة العسكرية التي أدانتها تلك المسرحية في بداية الثمانينات من القرن الماضي أين هي اليوم؟
   لقد القى بها التاريخ إلى مزبلته التي وسعت كل الزائرين والمزيفين وكل (حراكة) التاريخ.
  وفي ذلك الزمن السبعيني، وفي بداية عقد الثمانيات، كان عمر سليم يكتب بالفرنسية في جريدة (البيان)، ولقد واكب ظهور الاحتفالية، منذ الإعلان عن نفسها، ولقد كان من الموقعين الأوائل على بياناتها التأسيسة الأولى، وكان من المؤمنين بمشروعها الفكري والجمالي والأخلاقي، وكان فنانا حرا ومستقلا، وكان طلائعيا وتجريبيا في رؤيته وفي فكره وفنه، وكان مع الحوار الديمقراطي، وكان مع الاختلاف الجميل، وكان مع التعدد، وقد كان ذلك في زمن الفكر الواحد والرأي الواحد والحزب الواحد، ولقد كان مع الاحتفالية، لأنها أول حركة فكرية وجمالية متمردة في كل العالم العربي.
   ولقد كان مدركا، في ذلك الزمن المتقدم من تاريخ مسرحنا، أن هذا المسرح المغربي بحاجة إلى مشروع نهضوي واسع، وأنه بحاجة إلى جرعة أكبر من الحرية ومن العقلانية ومن العلمية ومن الاستقلالية ومن الجدية، ولقد وجد كل ذلك في الصرخة الاحتفالية، والتي كانت صرخة من أجل تحرير المسرح بالإنسان الحر، ومن أجل تحرير هذا الإنسان المغربي والعربي بالمسرح الحر.
رحم الله الفنان والاعلامي والرياضي والإنسان النبيل عمر سليم – سليم بن عمار –
 
كتابات تجدد نفسها وتجددها الأيام
     ولأنه لا احتفالية بدون احتفاليين، فإنني في هذا النفس الجديد، من هذه الكتابة الاحتفالية الجديدة لما بعد الجائحة، ولما بعد بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة، سأطل على عوالم المسرح الاحتفالي من خلال شرفة الكتابة ومن شرفة الكتاب الاحتفاليين، وفي كتاب (التيار التجريبي في المسرح العربي الحديث) يقول الاحتفالي:
(وفي هذا الكتاب أنطلق من الحقيقة الأساسية التالية، وهي أن تاريخ المسرح العربي الحقيقي يوجد أمامه وليس خلفه، ويوجد في صدور ونفوس وذاكرة رجاله ونسائه من الأحياء والأموات أكثر من وجوده في الكتب التي في الرفوف، وإن ما هو موجود في الأوراق والوثائق قليل جدا، بالنسبة للشفهي الذي يحتاج إلى تدوين).
   ولدينا اليوم في مسرحنا المغربي والعربي كثير من المتكلمين، ولكن أصحاب الكلمة المكتوبة، بروح المسؤولية قليلون جدا، وعلى هامش كل المهرجانات المسرحية المغربية والعربية، تنعقد عادة كثير من الندوات (الفكرية) وتقام كثير من الموائد، المستديرة والمربعة والمستطيلة، وحتى تلك التي الموائد التي لا شكل ولا لون ولا طعم لها، وفي كثير من تلك الجلسات (النقدية) يحضر كل شيء، إلا .. النقد المسرحي الحقيقي.
   وفي أحد تعليقاته على كتاباتي التي أنشرها على الفيس بوك يقول أحد المسرحيين المغاربة الرواد (عندما قدمت مسرحية (اسمع يا عبد السميع) في مسرح مولاي رشيد سنة 1997 تعلمت أشياء كثيرة، وفهمت أن للحياة معنى، وللإبداع ذوق روحي، كما جاء على لسان عبد السميع، (والذي) أراد أن يكبر وأن يشيخ، فاختفى)، كما تعلمت أن للاحتفالية وطن كبير لا حدود له، وطن لا يحجبه الضباب، وتعلمت كذلك أن للاحتفالية مقولات عالمية ستبقى راسخة في الأذهان، وهذه واحدة: الكلام بالمجان يا الخامسة).
   ولأن هذا الكلام الشفهي بالمجان، فإنه موجود اليوم أكثر في جلسات النميمة الثقافية، وموجود أيضا في الإشاعات، وموجود في الاتهامات، وموجود في النقد الذي ليس نقدا، ويحدث كل هذا بتشجيع وبمباركة من مهرجانات وملتقيات مسرحية حرة، مهرجانات يمكن أن يقال فيها كل شيء يمكن أن يخطر على البال، إلا النقد العلمي والفكري الرصين.
   في هذه الفوضى الشفهية تحضر الكتابة الاحتفالية، وتبدأ هذه الكتابة المفكرة بالبيانات التي تبين، وبالتصريح الذي يوضح، وبالمقترحات العلمية الواضحة التي توضح.
   والأساس في كل هذه الاحتفالية، هو أنها كتابات انكتبت من قبل، وهي تنكتب اليوم بنفس الروح، وسيظل فعل الكتابة والانكتابة فيها متواصلا ومستمرا ومتجددا إلى ما لا نهاية، ومادام أن فيض الأفكار فيها لا يتوقف عند حد معين، فإن فعل تدوينها ومتابعتها لا يتوقف أيضا، والأصل في هذه الكتابة الاحتفالية الحية هو أنها حروف وكلمات، وأنها عبارات تراها العين، وتسمعها الأذن، ويدركها العقل، وهي أيضا رسائل وخطابات وعلامات وإشارات تتحاور وتتجاوب وتتناغم معها النفوس والأرواح، وهي أساسا معاني تعني شيئا، وهي أفكار تترجم درجة معينة في المعرفة وفي التفكير وفي السؤال الفلسفي، وقبل هذا، فإن هذه الكتابة الاحتفالية، هي حيوات إنسانية حية أولا، قبل أن تكون رسما على الورق، أو تكون حفرا على الألواح الرمزية والخفية، وهي في الأصل أعمار متحاورة ومتجاورة ومتناغمة ومتكاملة، وهي تجارب تفرض نفسها علينا، وهي تجريب نقترحه نحن على الفن والفكر والعلم وعلى كل صناعات الآداب والفنون، وهي كيمياء حالات، وهي سلم مقامات، وهي أفعال وانفعالات، وهي مشاهدات وشهادات، وهي قناعات واختيارات، وكل هذا العالم المركب، مختصر ومختزل في كتابات إبداعية وتنظيرية متعددة ومتنوعة، ويبقى أن يتساءل المتسائل:
ــ كيف يمكن أن أقرأ هذا المكتوب الاحتفالي؟
ــ وهل تكفي وحدها قراءة السطور، أم إن الأمر يتطلب قراءة ما بين السطور أيضا، وقراءة ما فوق السطور وما تحت السطور وما وراء السطور؟
   من هذا السؤال المركب أبدأ دائما، أما كيف يكتب الاحتفالي، فهو السؤال الضمني والخفي، والذي يمكن أن نجد الجواب عنه في الكتابات الاحتفالية.
   ومن فعل السؤال إذن، كان ذلك البدء الأول الذي مازال حاضرا، والذي سوف يظل بدء جديدا و متجددا إلى ما لا نهاية.
  وسؤال كيف نقرأ الاحتفالية، قراءة حقيقية، ينبغي أن ترافقه أسئلة أخرى كثيرة ومتنوعة، وذلك من مثل السؤال الأساسي والحيوي التالي:
– كيف نحب هذه الاحتفالية، حتى يمكن أن تحبنا هذه الاحتفالية أيضا؟
   لأنه بدون حب، وبدون شغف فاننا سنظل خارج عاولم هذه الاحتفالية وخارج أكوانها، وسنعرف قشورها البرانية فقط، ولا ندرك جوهره الجواني.
   من هذا السؤال الأولى إذن أستخرج ما يمكن أن يتفرع عنه من الأسئلة الأخرى الكثيرة، والتي لا يمكن أن يعدها العد، أو أن يحدها الحد، وفي المكتوب الاحتفالي جوانب متعددة ومتنوعة بكل تاكيد، وفيه ما هو حسي، وفيه ما هو رمزي ومعنوي، وفيه ما هو ظاهر وما هو خفي، وفيه ما هو إنساني، وفيه ما هو وحشي، وفيه ما هو إنسي وما هو جني، وفيه ما هو محسوس وفيه ما هو متخيل، وفيه ما هو حقيقي وما هو وهمي، وفيه ما هو واقعي وما هو حلمي..
 
زمن الكاتب النسبية وزمن الكتابة المطلقة
   وهذا الاحتفالي الذي نحيا فيه وبه، قد كتب كثيرا بلا شك، لأن زمنه الإبداعي الرمزي هو غير الزمن الفيزيقي، وحياته الداخلية أوسع وأرحب وأغنى من حياته البرانية، وما يميز الكتابة عنده هو أنها دائمة الفعل والحركة، لأن لها بداخلها محرك روحي ووجداني وعقلي ونفسي يشتغل بالطاقة الحيوية المتجددة، وأن كل ما كتب في هذه الاحتفالية، وكل ما تكتبه الآن، وكل ما سوف يكتبه الكاتبون في الآتي من الأزمان، هو فيض العقل الاحتفالي، وهو فيض الوجدان الاحتفالي، وهو فيض الروح الاحتفالي، وفي هذا المعنى يقول د. مصطفى رمضاني، في قراءته للمنجز الاحتفالي في مجال فعل الكتابة ما يلي: (ثم جاء برشيد فملأ الدنيا وشغل الناس بنصوصه المسرحية، وبنقده وتنظيراته، قبل أن يشغلهم بمواقفه التي لا تهادن فيما يؤمن به ويدافع عنه، هو نموذج للكاتب الذي نذر حياته للكتابة، فصار زمن الكتابة عنده أكبر من زمن حياته العمرية).
    هذه الشهادة قدمها مؤرخ المسرح الاحتفالي، في المغرب والعالم العربي، الدكتور مصطفى رمضاني، ذلك في الندوة العربية (نقد التجربة ـ همزة وصل) بمدينة مكناس سنة 2012.
   وهذه الكتابة الاحتفالية، لا تشبه إلا نفسها، وقد لا تشبه نفسها في زمنين مختلفين وفي سياقين مختلفين، وهي كتابة لها نظامها الخاص، ولها مناخها، ولها سياقها، ولها ذوقها، ولها طعمها، ولها معجمها ولها لونها الذي يتضمن كل الألوان، ولها جرسها وموسيقاها، ولها نحوها وبلاغتها، ومثل هذه الكتابة الأخرى، بكل غناها وسحرها، هل يمكن أن نقرأها قراءة سطحية فقيرة؟
   وهل يكفي أن تتأسس الكتابة الاحتفالية الجديدة في غياب تأسيس نظام جديد في القراءة أيضا؟
   ومن أجل إيجاد أرضية مشتركة، بين فعل الكتابة وفعل القراءة، فقد اقترحت دائما ـ في كل كتاباتي الإبداعية والنظرية ـ شكلا آخر من القراءة، وقبل هذه الكتابة ـ القراءة، اقترحت شكلا آخر من الوجود، ومن العيش، ومن الحياة، ومن الفعل والانفعال، ومن العلاقات والمعاملات، وكنت في هذا منحازا إلى الحقيقة والناس، وإلى الجغرافيا والتاريخ، فأرضيت نفسي وضميري، وأغضبت كثيرا من الناس، وأزعجت كثيرا من الجهات، وقد ترون أن هذه الأوراق ما هي إلا كلمات وكلمات، بعضها وراء بعض، أو فوق بعض، تماما كما قال هملت في مسرحيته التي كتبت له، أو كتبت عنه.
   ولقد اقترحت أيضا، أن تؤسس هذه اللحظة الحية الهاربة والشاردة كلماتها، وأن تكون هذه الكلمات ملتهبة ومجنونة ومسكونة بالمعرفة والجمال، وبالقلق والسؤال، وأن تبني هذه الساعات الوليدة والجديدة، والخارجة من رحم الزمن، لغاتها التي تشبهها، وأن تكون في مثل سرعتها، وفي مثل قوتها وعنفها وعنفوانها، وأن تختار هذه الكتابة/ القراءة الأخرى إنسانها الآخر.. تختاره أو يختارها؟ لست أدري..
   إن هذه الكلمات إذن ـ القديمة والجديدة معا، وباعتبارها رسما وتخطيطا وحفرا في الفضاء ـ تحتاج لعين تراها وهي تتحرك وتتجدد، وأكثر العيون اليوم ترى، ولكنهاةلا تبصر، وهي تقرأ الصور وحدها، ولا تقرأ الكلمات، وقد تستوعب الألفاظ، ولا تدرك المعاني ولا ما خلف هذه المعاني، ولعل هذا هو ما يجعلني أتساءل دائما:
ــ هل كل عين، تسكن في وجه من الوجوه سليمة؟
ــ وهل كل عين سليمة ـ عضويا ـ يمكن أن ترى، وأن تدرك؟
ــ وهل كل ما يراه المشاهد أو المتفرج أو السائح، في هذا الوطن العجيب، أو في ذلك البلد الغريب، أو في هذا الزمن الأغرب والأعجب، يمكن أن يكون حقيقة ؟ أم إنه مجرد مشاهد مصطنعة ومفبركة للاستهلاك الآني والظرفي؟
ــ وهل كل عين لها عينها الداخلية؛ عينها التي ترى كل الناس وكل الأشياء، والتي لا يمكن أن يراها ـ في المقابل ـ أي أحد من الناس؟
ــ وهل كل ما يرى حقيقي، أم إنه واقعي فقط؟ والواقع ـ كما نعرف ـ مصنع دائما، أو مصطنع في أغلب الأحوال، وكل صناعة ـ كيفما كانت وأينما كانت ـ لابد أن يكون وراءها رأسمال ما، قد يكون مالا حقيقيا، وقد يكون فكرة، أو عقيدة، وقد يكون خرافات وأساطير رائجة، ولا شيء غير ذلك، وهذا زمن أصبحت فيه للإيديولوجيا نفس معنى الأسطورة، ونفس معنى الدين، وأصبحت له نفس سلطته وسلطانه.
   ويمكن أن نواصل فعل التساؤل وأن نقول ما يلي:
— وهل كل ما هو حقيقي، يمكن أن يعبر عنه الكاتب، بشكل كلي وجامع ومانع؟
ــ وبأية لغة يمكن أن يتم هذا التعبير؟ بلغتنا نحن ـ هنا ـ أم بلغة الآخرين هناك؟
ــ بلغة الموت والموتى، أم بلغة الحياة والأحياء وبالكتابة الحيوية؟
ــ بلغة القواميس المعلبة والجامدة والمحنطة، أم بلغة البيت والحارة والشارع والراديو والتلفزيون والجريدة؟
ــ وهل أسسنا لغتنا فعلا؟ أم ترانا نصب شيئا يشبه المعنى في شيء يشبه القوالب الجاهزة؟
   وعوض أن نحرر الكلام، وأن نتحرر به، نضاعف قيوده وأغلاله، ونبقى في حدود القوالب القديمة والبالية، ولا تخرج منها، ولا نستطيع أن نتحرر بها وفيها؟
ــ وبأي الحروف يمكن أن نكتب؟
— بهذه الحروف الكائنة، أم بتلك الأخرى الممكنة ؟ بالحروف المسمارية أم بالحروف الشوكية؟
ــ وعلى أي شيء من الأشياء يمكن أن نكتب؟
— على الصخر الجامد، أم على الرمال المتحركة والمهاجرة والمتواطئة مع الرياح المسافرة؟ رياح التجارة ورياح السياسة ورياح الوقت الرديء؟
ــ وهل كل هذا الذي نكتبه اليوم، بحرقة المحترقين، وبهم المهمومين، يمكن أن يقرأه القارئون غدا؟
ــ وأين يمكن أن يكون ذلك؟ ومتى؟ ومن يمكن يقرأه أيضا؟ الإنس أم الجن؟ الأحياء أم أشباه الأحياء؟ المبدعون أم المتبعون؟ الأخيار أم الأشرار؟ الأحرار أم المدجنون؟ الوسطيون أم المتطرفون؟ المتسامحون أم المتعصبون؟ العلماء أم الجهلاء؟
   شيء مؤكد أننا نكتب للأحياء، وعليه، فمن الضروري أن نكتب كتابة حية، وأن تكون هذه الكتابة الحية مفهومة، وأن تكون على علاقة عضوية ووجدانية بما يعرف الناس، وبما يفهمون، وبما يفكرون، وبما يتخيلون، وبما يعيشونه يوميا من قضايا اجتماعية وسياسية حقيقية،
   وتدعيما لتلك القراءة الأخرى المنتظرة، والتي يمكن أن تتم بكل العيون الأخرى ـ عين العقل وعين النفس وعين الروح وعين الوجدان ـ فإنني أريد أن أقول ما قاله الحلاج يوما:
تأمل بعين العقل ما أنا واصـف
فللعقـل أسماع وعـاة وأبصــار
   حقا، قد تكون بعض العيون مبصرة، فتدرك الأشكال والأحجام والألوان، ولكنها تبقى عند حدود هذه الدرجة، ولا تقدر أن تتجاوزها إلى ما بعدها.
   إن الإنسان يرى بالعقل أو بالنفس أو بالوجدان أو بالروح، أكثر مما قد يبصر بالعين الحسية المجردة، وبذلك فإن كثيرا من العقول يصيبها العمى والصمم، تماما كما يمكن أن يلحق بها الضعف والعجز والوهن والشيخوخة المبكرة، و أن يدركها الشلل.. الشلل الكلي أو الجزئي.. شلل الأطفال أو شلل الشيوخ الأطفال.. لست أدري..
   وبغير هذا، فإنه لا معنى لأن يكتب الكاتبون، وأن ينشر الناشرون، وأن يوزع الموزعون، وأن يقرأ القارئون.
 
الكاتب الاحتفالي رضوان احدادو والكتابة الاحتفالية
   ولهذه الكتابة الاحتفالية فرسانها، وعلى رأسهم نجد رضوان احدادو الكاتب، ونجد محمد الوادي الكاتب والمنظر، ونجد الطيب الصديقي، الممثل والحكواتي والكاتب، ونجد محمد الباتولي الشاعر في المسرح والمسرحي في شعره الغنائي، ونجد محمد أديب السلاوي، الباحث والمؤرخ، ونجد محمد فراح الممثل والكاتب والشاعر، ونجد محمد بلهيسي الكاتب المخرج والزجال، ونجد عبد المجيد فنيش المخرج الكاتب الذي أعاد كتابة شعر الملحون المغربي كتابة مسرحية، ونجد جناح التامي، الممثل الذي يكتب بجسده في الفراغ المسرحي، ونجد الممثل الإعلامي ماء العينين عناني، الكاتب الميكرفون والكاتب فوق خشبات المسارح، ونجد محمد التسولي الذي قرأ الإبداع الاحتفالي قراءة احتفالية، والذي كانت قراءته بدرجة كتابة مسرحية جديدة ومتجددة، وعن الكاتب المسرحي رضوان احدادو سبق وقلت في كتاب (التيار التجريبي في المسرح العربي الحديث ما يلي) قلت عن علاقة هذا الكاتب بفعل الكتابة ما يلي:
(هو في حياته اليومية لا يفعل شيئا سوى أن يعيش هذه الكتابة، وأن يطرق بابها، أو أبوابها، وعندما يسائل الواقع والتاريخ فيها، فإنه لابد أن تستجيب هذه الكتابة، وأن تنطق بكل اللغات الحية، الكائنة والممكنة معا، وان تأتي إبداعا جديدا ومجددا، يشبه الجسد الذي خرج منه، ويكون عادة في قامة هذا الكاتب المبدع، ويكون بلون معاناته الصادقة والحقيقية، وأن يكون في (مستوى) قيمته الرمزية والاجتماعية أيضا، وأن تكون (هذه الكتابة) مركبة كما هو هذا الواقع المركب، وأن تكون مفتوحة، كما هي هذه الحياة المفتوحة على كل الممكنات والاحتمالات أيضا، وأن تكون زئبقية ومذاكرة، كما هو التاريخ المنفلت والمستعصي على التحليل والتأويل دائما، وأن تكون هذه الكتابة غنية بالأضواء والظلال، تماما كما هي هذه الطبيعة الممتلئة والغنية على الدوام، وأن تكون يومية بأحداثها ووقائعها، وأن تكون أبدية بقضاياها وبمبادئها الإنسانية الخالدة، وأن تكون متحركة بفعل تلك الطاقة النفسية والفكرية والوجدانية والروحية التي تقيم فيها، والتي هي أساسا طاقة متجددة لا تنفد ولا تنضب).
   وما يميز هذه الكتابة الاحتفالية هو شكلها، بالإضافة إلى مضمونها الإنساني والمدني الحي طبعا، والذي هو شكل خماسي الأضلاع، والضلع الأول فيها تمثله تلك الكتابات التي سبقت ظهور مصطلح الاحتفالية ومصطلح المسرح الاحتفالي، والتي ظهرت في كثير من الصحف والمجلات المغربية والعربية قبل سنة 1976. أما الضلع الثاني فتمثله كتابة البيانات الاحتفالية، والتي جاءت في البدء بدون أرقام، ثم أصبح لها بعد ذلك أرقام ترتيبية، من البيان الأول بمراكش حتى البيان السابع بمدينة سلا، وإلى جانب الأرقام، أصبحت البيانات تحمل حروفا أبجدية ترتيبية، ابتداء ببيان (ألف باء الواقعية الاحتفالية في المسرح) وانتهاء ببيان (جيم دال الواقعية الاحتفالية في المسرح)، والأول نشر سنة 1977 بمجلة (الثقافة الجديدة)، والثاني نشر في كثير من الملاحق الثقافية في المغرب وفي العالم العربي، وفي المرحلة الحالية أصبحت هذه البيانات تحمل اسم المدن المغربية والعربية التي تصدر منها، ابتداء من (بيان تازة للاحتفالية المتجددة)، وانتهاء إلى (بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة)، مرورا ببيانات تحمل أسماء عمان والشارقة والرباط وطنجة وسيدي قاسم وأم درمان السودانية وأربيل الكردية، أما الضلع الثالث في هذه الكتابة الأحتفالية، فتمثله الكتب الاحتفالية، ابتداء من كتاب (حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي). أما الضلع الرابع، فتمثله المساجلات الاحتفالية، وذلك من مثل كتاب (الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة)، الكتاب الأول والكتاب الثاني، أما الضلع الخامس فتمثله الحوارات والتصريحات الاحتفالية، والتي لا يمكن أن أعرف بالتحديد عددها.
   وأختتم هذا النفس، أو هذه العتبة، بتلك التساؤلات التي طرحتها الأستاذة بن المدني ليلة على نفسها في مقالة لها أعطتها عنوان (المبدع عبد الكريم برشيد والكتابة الركحية)، وهي في هذه المقالة تؤكد أن الأهم في هذه الكتابة هو أن (برشيد أيقظ فينا العديد من الأسئلة، فقضية التراث، وموقف المثقف من السلطة، وهل هناك مثقف احتفالي؟ وكيت التعامل مع اللغة؟ وما علاقة الاحتفالية بعلم النفس والفلسفة؟ وهل الاحتفالية إيديولوجية جديدة في الخطاب المسرحي؟ وهل برشيد هو شيخ الزاوية الاحتفالية؟ وما علاقتها بالتاريخ؟ كيف تعامل هذا الشيخ مع مريديه؟ أسئلة كثيرة ومتنوعة أرجو أن أجيب عنها في مقالات أخرى).
   وشيء جميل جدا أن يتم البحث في الاحتفالية بالأسئلة، وأن يكون لتلك الأسئلة صدقها ومصداقيتها، وأن يتم إرجاء الإجابة عنها حتى تتضح الرؤية.
Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي