العجرفة والشعر
إلياس الطريبق
كثيرا ما قيل إن فن الشعر فن النخبة، وإنه فن أدبي بعيد عن الفهم والذوق العام، ولذلك فهو فن لا جدوى منه. فيُطرح سؤال ما الغاية من الشعر؟ ومن وجود الشعراء أصلا؟ وإلى أي حد يعد الشعر جنسا أدبيا لا شعبيا ولا يحظى بنفس الإقبال والرواج الذي تحظى به الرواية مثلا؟
قيل إن الشعر هو ديوان العرب؛ ببساطة لأنه مصدر أخبارهم وأيامهم ومناقبهم ومثالبهم. هذا جميل. إلى هنا كل شيء على ما يرام. لكن ألا يحيل هذا القول على دنو منزلة الشعر من المجتمع الذي أنتجه والبيئة التي أسهمت في تشكله؟
لقد كان الشعر العربي قديما ينشد في الأسواق (عكاظ والمِربِد أنموذجا) وكانت المرافعات النقدية والمحاكمات تتم فيها أيضا (واقعة الخنساء والنابغة الذبياني على سبيل المثال) كما كان الشاعر كذلك لسان حال قبيلته والناطق الرسمي باسمها- إن شئنا ترجمة ذلك بلغة عصرنا- وهو الذي يذوذ عن حماها ويدافع عن مصالحها وحقوقها (الحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم مثلا) إذ كان سلاحا بديلا بمنزلة السيف والرمح والسنان، وخير مثال على ذلك قول النبي صبى الله عليه وسلم لحسان بن ثابث: “اهجهم أو هاجهم وجبريل معك” فضلا عن أن القبيلة كانت إذا ازداد فيها شاعر أقامت الأفراح احتفالا بمولده فيها، ولعل هذا مما يدل عن أن مكانة الشعر وقيمته وأدواره داخل المجتمع كان عموم القبيلة وأفرادها واعيا بها دون استثناء.
ظل الشعر متنزلا عن الكبرياء، متنزها عن التوجه إلى فئة دون غيرها إلى أن جاء العصر العباسي وقبله الأموي فانحسر دور الشاعر وخفَتَ صوته وزُجّ بنبرته إلى القصور بدل الصحاري وإلى المجالس النخبوية بدل الأسواق والتجمعات العفوية، لأن السلطان استبد بالشعر وامتلك ناصية الشعراء، واشترى ذمتهم فأضحوا في خدمته لا في خدمة الناس وهكذا فقد هذا الفن مصداقيته في هذه الفترة من التاريخ وتسرب إلى وظيفته الاجتماعية الشك وأهمله الناس، كما يُهمل كل من لا مصداقية له.
أما في عصر النهضة كان الشعر هذه المرة لسان حال الشعوب التواقة إلى التحرر من قبضة الاحتلال، ومن هنا ظل هذا الفن يراوح زمانه ومكانه بين خدمة الفن وبين خدمة الأيديولوجيا. أستشهد هنا بحافظ إبراهيم شاعر النيل الذي تنزل إلى عقول الشعب وأذواق العامة إلى أن نال هذا اللقب، وبعلال الفاسي شاعر الاستقلال في المغرب الأقصى، وبمحمد مهدي الجواهري ومعروف الرصافي، هذا الأخير الذي كان ملتزما أشد الالتزام بقضايا أمته ووظف خطابه الشعري لصالح تحرر بلاده من براثن الاحتلال الإنجليزي، وكان غيورا أشد الغيرة على نهضة أمته وحسن تعلمها. وفي هذا السياق يقول في كلمة ألقاها بمناسبة افتتاح مدرسة:
ابنوا المدارس واستقصوا بها الأملا |
|
حتى نطاول في بنيانها زحلا |
لا تجعلوا العلم فيها كل غايتكم |
|
بل علموا النشئ علما ينتج العملا |
إنا لمن أمة في عهد نهضتنا |
|
بالعلم والسيف قِبلا أنشأت دولا |
لكن لنقترب من الإشكال رويدا رويدا. هل لا يزال الشعر اليوم ديوان العرب أم أنه تنازل عن هذه الحظوة لصالح أجناس وفنون أخرى؟
لنعد إلى العصر العباسي ولنأخذ فن المقامات مثالا، هذا الفن النثري الذي عالج بلغة نثرية وإن كانت قريبة من الشعر نظرا لسلطة هذا الأخير آنذاك التي لا تزال في أوج فتوتها عن طريق المبالغة في توظيف المحسنات البديعية (السجع والجناس خصوصا) هموم الطبقة الدنيا وشؤون المثقف المهمش (أبو الفتح الإسكندري أنموذجا) من المحمتل أنه نشأ كرد فعل على خيانة الشاعر وتواريه عن الأنظار وانشغاله بنفسه وبصورته أمام السلطان والأعيان. وإلا ما كان لفن المقامات أن يبرز بوصفه الفن الشعبي القادر على المرافعة لصالح الشعب ولصالح الإنسان المقهور.
ولنسائل مؤسساتنا الثقافية اليوم والتعليمية أيضا. لماذا لا تخرجون بالشعر الى الهواء الطلق؟ إلى الحدائق؟ إلى الساحات العمومية؟ وإلى الأماكن العامة والملاعب الرياضية؟ ما ذنب الشعر أضحى أصما وأبكما وأعمى؟ كم مهرجان شعري لدينا في الوطن العربي؟ كم بيت يسكنه الشعر في وطننا وكم دار تحتفي به؟ هل يعرف طلبتنا ما معنى الشعر وما هي وظيفته التي خلقت له؟ إلى متى سيظلون لا يقرأون الأشعار إلا في أوراق النصوص وأروقة الكتب المدرسية المبسترة؟ ولنسائل الشعراء أنفسهم. ماذا فعلتم أحبتي كي تخرجوا من دوائركم؟ لماذا لا تنفتحون على تقنية الفيديو والصورة السمعية البصرية والبث المباشر؟ لماذا نصر على العجرفة والنرجسية وحب الذات؟
إنه في نظرنا المتواضع لم يكن الشعر يوما فنا نخبويا ولا مقصورا على النخبة وإن أرادوا له ذلك عبر عزله وكبت صوته وتهميشه. ربما لأنه مقرون بالرفض بالفضح وبصوت الحقيقة. ألم يكن أمل دنقل مثالا صوت الرفض بامتياز من خلال رائعته لا تصالح؟ ألم يعش الشعراء تجارب السجون والمنافي بسبب الرفض والمقاومة والفضح؟ ألا يحدثنا الشعر عن أنفسنا، عن دواخلنا، مشاعرنا، غرائزنا عقدنا النفسية، مكبوتاتنا وصوت الله فينا؟
ختاما إن الشعر هو تلك الكلمة الجانحة الحالمة الطائرة في سماء الجميل والمطلق والفاتن، والكلمة هي الأصل في الكون، وهي دليل الخالق لآدم في الكون أول ما خلقه، وبالتالي فإن حياتنا سواء في الباص أو في الجدران والحيطان أو في المدارس والأبواب وقاعات الانتظار وفي الصالات والمنازل إن لم نعلق الأمل على الكلمة في تجلياتها الشعرية والفنية فإن حياتنا لا شك ستظل ناقصة. وتقريب الشعر من الناس إنما هو للارتقاء بأذواقهم وأفهامهم ومشاعرهم، وهو إذن ملمح من ملامح التحرر والدمقراطية التي نحتاجها أكثر فأكثر في عالمنا المعاصر.