رحم الله طلال سلمان
علية عباس
… كان ذلك ذات شمس ناعمة, ذات صباح ربيعي ما عدت بالتأكيد أذكر موقعه من الأيام, ولا اهتممت بمعرفته, يكفيني من ذاكرتي أنها لاتزال تحتفظ بفرح طازج بإمساكي بالعدد الأول من جريدة السفير, فرح كنت أشعر معه وكأنني محمولة على ريح تجعلني مالكة للكون أو على الأقل حق الحلم بذلك، فرح دفعني لأن افتح الجريدة في الشارع وأقرا عناوينها وأشعر أنني مقصودة بالشعار الذي روج لظهورها, إنها صوتي أنا أيضا، أنا القادمة من الريف إلى المدينة, صوتي أنا الباحثة عن مكان لي لا تمنحني إياه قريتي التي لم تكن قد اعترفت بعد بحق البنت بتعلم ما يزيد عن “فك الحرف”…
اللهفة لشراء هذه الصحيفة جاءتني بالتأكيد من خرق المألوف في سيرة بنات قريتي, فها أنا أدرس في بيروت، أسير في شوارعها، لا بحثا عن ثياب في محلاتها، التي لم أكن على كل حال لأملك ما يمكنني من شراء أي شيء فيها، بل هي اللهفة إلى الحياة بحماسة بثها في أخي الذي كان معلمي ورفيقئ ولا يزال… وأيضا مما كانت تعدنا به الأيام المشرعة أمام أعيننا آفاقا لا تحدها حدود ولا نحسب لها نهاية… ومن إقبال الشباب على الحياة نعبها عبا خوفا من أن تضيع منا لحظة لا نأخذ منها جديدا… معرفة، فكرة، أملا … إلى ما لا نهاية من مفردات الرغبة في التجذر في أحداث ومجريات ذلك الزمن والأمل بمستقبل فيه ستكون وحدتنا العربية واقعا لا حلما و ستكون القدس عاصمة فلسطيننا المحررة ونحن سنكون مواطنين حيث وساعة شئنا.
انشغلنا بهذه الافكار والقضايا ولم تشغلني والكثيرات من بنات جيلنا, الا قليلا, قضايا الشكل والملبس بل كنا ننشغل بتدبير هروب من الجامعة من بعض محاضراتنا المملة لننضم الى حشود سبقتنا الى محاضرات لادونيس أو صادق جلال العظم, أو للاستماع الى شعراء الجنوب وفلسطين والعرب الذين كانوا يحتلون المشهد الشعري انذاك , او للاستماع الى مارسيل خليفة يدربنا على كيفية الدخول الى الوطن او الوقوع في حب عيون ريتا او حب ام الشهيد التي بكت دمعتين ووردة…..كانت أيضا فتيات من بلادي لا ممثلات السينما يجعلننا نحلم بالتشبه بهن.. كانت نهلة الشهال ودلال البزري وكاتيا سرور ونجوي حيدر وغيرهن كثيرات يجعلننا نثور على ضعفنا أمام التقاليد وعلى أهلنا ورقابتهم . كنا نريد أن نكون مثلهن فكرا وقوة شخصية وحملة أفكار ثورية ومشاريع تغييرية حتى نليق بالمستقبل الاتي.
كثيرات من صديقاتي انذاك عوضن عن ضعف المواجهة مع معوقات وصولنا الى تلك النماذج النسوية الثورية بالقراءة بشكل أساسي, أقصد القراءة بقصد التثقف لا الحصول على شهادة , اذ أن المحيط الذي كنا فيه وخاصة كلية التربية, يدفعك الى المعرفة والا كنت جاهلا و على هامش حياة طلابها والقادمين اليها من كل الكليات والجامعات الاخرى.
كانت أحلامنا أبعد مما كانت تتحمله العقول الممسكة ببلادنا والمحيط الأقرب والأبعد كان لا بد من وأدها , وكان ما كان مما يعرفه الجميع. لكن “سوسة” القراءة كانت قد تملكتنا ومتابعة ما يجري عندنا وفي العالم كانت قد عششت فينا وبصدق أقول كانت “السفير” سفينتنا” الى كل ما يجري في السياسة والثقافة والرياضة, حتى أننا اعتدنا صفحة الوفيات فيها .هكذا صارت رادار أيامنا نشتري الكتب التي تعرف بها صفحتها الثقافية ونشاهد أفلاما يوصي بها كتابها ونستمع الى موسيقى تعرفنا صفحاتها بها….
تبدلت السفير كثيرا منذ عرفناها وتبدلنا نحن أيضا . أربعون سنة .. قد تكون دروبنا قد اختلفت , او اختلف منطلق الوصول اليها, لكنها الصحيفة التي عرفت كيف تبقينا من مقتنيها وقارئيها بما سمحت به من مساحة للاختلاف في الآراء لا ينكرها أحد .
ترى كيف سيكون الحال بعد أربعين سنة أخرى؟
لن نكون هنا لنعرف لكن أتمنى لها أن تبقى مساحة للمعرفة والاختلاف.
* نص كتب في الذكرى الأربعين لتأسيس جريدة “السفير”.
Visited 5 times, 1 visit(s) today