“أبراج من ورق” رهان مقاومة الزمن والتأسيس لكتابة سردية جديدة

“أبراج من ورق” رهان مقاومة الزمن والتأسيس لكتابة سردية جديدة

مصطفى امزارى*

     الكتابة عمرانٌ ثانٍ وعمران أكثر صمودا من عمران الإسمنت…هكذا كان رهان الكاتب الروائي والقصصي سعيد رضواني في “أبراج من ورق “.

فإذا كانت الضيعة بما تمثله من تاريخ، قد خاضت في حرب مثاقفة مع معمر قديم وهي تبني معالمها بالحروف ، وتؤشر في مستوى ثانٍ على الايماء الى المعمّر القاتل والاقطاعي الذي بقدرما يسعى إلى مزيد من الاستيطان، بقدرما يمارس عداءه الدفين إزاء أبناء الوطن والذي يمثل الجد والأب نموذجين واضحين لهما ….ولعل ظهور ليلى ابنة المخرج(كيرش) المعمر في سياق الاحداث، والزج بها في طريق الابن ، نموذج المواطن المغربي المثقف المنتقم بسلاح آخر قوامه العدالة والكتابة، كان دليلا على استمرار الحرب بين المعمّر وأبنائه وابناء الوطن وآبائهم ..إنه صراع حضاري لكن أدواته تختلف ، ذلك أن الكاتب راهَن بكثير من

الدّقة على مواصلة النضال والانتقام لتاريخ العائلة والوطن بمواصلة البناء ، لكن بواسطة الورق وما يحيل عليه من رمزية احتواء الأفكار واحتضان الابداع ، لأنه يبقى مستمرا في الزمن بما يحمله من سرد . إن إعادة كتابة التاريخ والانخراط الحضاري في فلسفة التثاقف كانا رهاني الكاتب الكبيرين ،يقول في صفحة 106: “الثتاقف محمود لكن الاستلاب مذموم” ،ويقول في صفحة 108: “إعادة كتابة التاريخ لابد لها في السلم كما في الحرب من ضحايا ودماء”..

بالعودة إلى العنوان والتأمل فيه كعتبة أولى يجعلنا نقف عند متوالية اسمية جاءت خبراً لمبتدأ محذوف تقديره (هذه أبراج) كمضاف مسنود بمضاف اليه وهو الورق لنكون أمام توصيف اسمي يثبت الواقع ويجعل الابراج الورقية واقعا ملموسا تدعمه صورة الغلاف وهو يحتضن أبراجا مزخرفة بحروف عربية..تلك الأداة التي كانت وسيلة في إثبات الذات على مستوى التاريخ العائلي اي تحقيق ذلك الامتداد بين ابن وأب وجدّ وإثبات خصوصية تحقيق الوجود عن طريق الكتابة كفعل حضاري يمارس حضوره في الآن والاستقبال و يراهن على التميز .

تقوم الرواية على ثنائية واضحة يحددها المعجم بدءً بلفظة (القدمين) التي تكررت على طول المثن بما تحيل عليه من توازن وتنقل مكّوكي بين القرية والمدينة إلى جانب الايحاء بالمشي والتقدم إلى الأمام في الحياة كما في الكتابة…إلى جانب ثنائية الأم الحية/ الأم الميتة ، الاب/الابن، القر ية /المدينة

المشي على الورق/المشي على الارض،

القبر الحقيقي/القبرالافتراضي،

الزمن (هذه الاثار) /خارج الزمن (تحفة جدي) ص39، اللغة والحروف الاسمنتية في الضيعة/لغة الضاد وابراج الورق في الحاضر والمستقبل،

الحروف العربية /الحروف اللاثينية،

ثنائية الموت (ممثلة في الام والجد) /القتل (مثلا في الاب)،

العيش(داخل المدينة بكل إكراهاتها) /الحياة (الكتابة/التخييل)، 

القرية /المدينة، 

أحلام اليقظة/يقظات الاحلام…،

السفرالى الضيعة (ضيعة اسافر إليها لأحيي ذكرياتي معه) /السفر عبر القراءة (روايه اعيد قراءتها كي اطعم تفاصيل الواقع بتفاصيل التخيييل-ص30)….

ولعل هذه الثنائية هي التي بنت -في نظري – هذه الابراج على هندسة تناظرية جعلت الكاتب يقيم من ابراجه بناءً شامخا يصل في الجزء الأول 26 عنوانا/درجا في سلم الأبراج ويقابله 27 عنوانا/ درجا في الجزء الثاني. يقول الكاتب في هذا الصدد: “فأنا مغرم بالتناظر ، وإذا لم تتناظر الوقائع لابد أن يتكفل ذهني بإحداثها بطريقة يعجز هو نفسه عن تفسيرها “. (ص126).

ولعل رصدا لهذه التناظرية سيظهر مدى صرامة البناء في هذه الرواية:

البرج الأول البرج الثاني 

نسيج أشعة الشمس لحاف من صقيع

فرار من هواجس النفس ملاحقةهواحس الكتابة

ثمة جدوع وفروع ثمة حروف وكلمات 

ويغمره البحر ويغمره البخار 

مدينة الأموات مستوطنة الاموات

حروف القرية كلمات المدينة

تلال القميص أبراج الجاكيت

منازل الموتى توابيت الأحياء

ازقة الكتب دروب السرد

نقار الاحلام زعيق منبهات الاحلام

خشونة الشارب الكث ليونة الشارب الكث 

مواجهة الذات مكاشفة مع الذات

ضد الحر ضد الصقيع  

سم الطبيعة ثرياق الطبيعة 

البعاد القريب القرب البعيد

النمو والتطور الانكماش والتقدير

أحاديث الحصاد والادب/ أحاديث السكارى والأدب

قدر الصيف قدر الشتاء

وخز الشعور بالذنب مداعبة الارتياح

إشارات تحذير إشارات مطمئنة

تواطؤ الطبيعة تواطؤ السرد

قاع القبو أعلى السطح

نداء الحقول نداء اللغة

الزمن المؤجل الزمن الموعود

قلعة من حجر قلعة من سرد

امتداد السطور امتداد الطريق

واذا عدنا إلى هذه الصرامة التناظرية نجد أن الكاتب اعتمد خطة يوازن بها بين فصول الجزئين في مسار الحياة والكتابة والوصول، تقود إلى خلاصات أساسية عمادها الرغبة في خلق توازن بين الضيعة والكتابة، وبالتالي بناء توازنه النفسي وعدّته المنطقية لإتمام بناء أبراجه ، إذ من الشاطئ إلى حل اللغز والكشف عن خيوط الجريمة ،ذلك القتل الذي أبدع فيه المخرج وكشف عنه الكاتب بمصباح السرد وتقنية الحكي وبراعة اللغة. يقول: “أغادر قاعة السينما بانطباع عارم يجعلني أجزم أن المخرج متيم بالغابة، فأغلب المعارك التي شاهدتها دارت في الغابات،وليست مصادفة أن يكون مقتل الطفل وطعن والدي والمكان الذي اختاره للقائي، كلها أماكن موجودة في غابة واحدة هي تلك التي تقع عند تخوم قريتنا. أبتعد عن السينما وأنا شبه متيقن من أن اغلب من صادفتهم في طريقي يمثلون في هذا الواقع”. (ص173).

وهذا الترتيب لعوالم الابراج كان محكوما بمنطق سردي منضبط جدا خاضع لإحكامٍ دقيق لكل المتواليات السردية، مع التحكم في كل الاصوات والازمنة والأمكنة والاحداث إلى جانب اللغة ،ذلك الناظم الأساسي للنص بشكل اكثر دقة ، هذه اللغة التي تستمد عمقها من مقروء الكاتب بزخمه العربي والعالمي اللاثيني منه تحديدا ، إلى جانب طابعها الشعري الذي ميز العديد من المحطات السردية انسجاما مع عالم الكاتب النفسي كما نرصد ذلك في(ص22): “إلى أن وجدتني داخل ادغال غابة تبدو في هذا القيظ كأنها تتثاءب في الهجير  أو تغفو في السعير”..

يقول ايضا في ( ص 51) :” ارتدي ملابسي بتثاقل طفل يرفض الذهاب إلى المدرسة واستعد لمغادرة البيت قبل أن يرتدي ذهني كامل صفائه”.

ولعل تأملا دقيقا في هذا العمل يجعلنا نقف على العديد من الرسائل التي تؤشر كثيرا على همّ الكتابة عند ذ .سعيد رضواني وهو يجيب عن سؤال لماذا تكتب ؟ : ” اكتب لانتقم لأبي “

إن الانتقام هنا لم يكن انتقاما مبتذلا، بل كان انتقاما للاب عن طريق العدالة والسرد، إنه انتقام للاب وانتقام للذات نظرا للتقارب، حد التماهي، بين الشخصيتين خاصة في عالم الكتابة : “فشخصية والدي انعكست في روايته، وأصبح بيني وبينها حاجز زجاجي ومرآوي في الآن نفسه”(ص45) ..

لقد ورث عن أبيه الإبداع ” اختار تحويل كل ما ورثه عن ابيه إلى عمل إبداعي ” (ص118)..

وتبقى الكتابة بالنسبة للكاتب إرثا جميلا وشرط وجود لذلك حضرت في النص كتيمة أساسية يقول: “الكتابة متعبة ياصديقي، لكنها مطهرة . في البدء ظننتك ستلهث في كتابك وراء حبكته البوليسية ،لكن تبين لي أنك تهدف إلى أكثر من ذلك؛ ضخ الحياة في ضيعة جدك، وانصاف رواية ابيك ،وأنا أشجعك على المضي في هذا الطريق.” (ص185)…

واذا كانت الكتابة إسعاداً لروح الأب فإنها تسعد روح الأم ايضا :” تذكر أن والدتك ستكون سعيدة اذا استطاع ابنها أن يعيد مجد الضيعة ويعيد الاعتبار لرواية والده”(ص189).

إن فعل الكتابة يبقى ذا أهمية قصوى في حياة الكاتب ، إذ في الجزء أو الدرج الي سماه “تواطؤ السرد” كشف عن أسباب الكتابة ، بل عن أسرار الكتابة ايضا ، هذه الكتابة التي لا تمنح القارئ نفسها إلا بعد تعب جميل… إذ منذ البداية يحاول إرباكنا باللايقين انطلاقا من كلمة (أو) التي توقعنا في الإبهام، إذ في درج ” نسيج أشعة الشمس” نلاحظ حضورها اللافت (لمساري او مساره/صوت صوت أمه أو أمي/ أذنيه أو أذني/حتى لا يضيع أو أضيع ../ايصاله أو ايصالي الى الضيعة..) (ص12)… أن البداية كانت مؤشرا على ذلك، يقول في أول جملة في الرواية: “لا أذكر من منا كان يمضي في ذلك الطريق …” لكن الكاتب لإدراكه العميق لخصوصية الرواية، يريحنا من هذا الإرباك ويجيب بذكاء: “وأتأكد لاحقا أن هذا الخلط بين الأشخاص والارتباط في المشاهد المخزّنة في الذاكرة انبثق من تشابهّ بين ما عشت فعلاً و ما قرأته في رواية والدي”. (ص14). 

واذا كانت القراءة سندا للفعل الإبداعي فأن غيابها لسبب من الأسباب لا يقلل من قيمتها ارتباطا بواقع الادب وتدني المقروئية يقول: “ولا أحد يستطيع إقناعي بأن عملا ادبيا لم يقرأ أصلا هو عمل رديء او جيد “.(ص129).

وقد مرّر الكاتب العديد من الرسائل وهو يبني أبراجه الورقية بعمق رؤيوي يتحدث عن الموت والحياة والدين والزمن إذ يقول مثلا : “أتأمل السور وأنا أفكر بأننا نحن البشر أيضا مطوقون بالزمن ولا سبيل لنا للافلات من طوقه إلا بالتذكر”. (ص51) . وفي سياق آخر وبنغمة نقدية يقول: “لا يحتاج الله إلى الإعلان عن نفسه هكذا، لأنه يتجلى في كل شيء”. (ص113). 

و في سياق الحديث عن نقد الواقع ،فإن عين الكاتب لم تغفل عن مجال تحركه سواء في القرية (ص114) “وبعد شهر أخر اختفت الغابة وحلت محلها غابة من البيوت الواطئة ” أو في المدينة وتحديدا منطقة الفداء حيث سقوط البيوت وترحيل الأسر الى الضواحي (ص142).. 

ولا يمكن أن اختم هذه الورقة دون الإشارة إلى خاصية تميز الكتابة عند ذ.سعبد رضواني وهي بنية التكرار الذي تمّ التعارف على حضوره في الكتابة كاختلال إبداعي، لكنه هنا وكما في المجموعتين القصصيتين “مرايا” و “قلعة المتاهات” ، يبقى بنية مقصودة لترسيخ مشهد أو شخصية أو لغة… ذلك أن التكرار يبقى هنا منتجا والكلمة تبقى ولاّدةً، لا تنتهي مهمتها بشكل ظرفي، بل تنتج متواليات اخرى تربط السابق باللاحق و تصبح من نقط التميز عند المبدع سعيد رضواني.

إن التأمل النقدي في العوالم السردية للكاتب تجعلني أجزم بفرادته وتميزه السردي، وكأني به لا يكتب قصة / رواية بل ينظّر لكتابة سردية جديدة إن على مستوى اللغة أو البناء أو الرؤية السردية… إننا لا نقرأ بداية ونهاية لقصة بقدر ما نقرأ شكل كتابة جديدة كما يؤسس لها الكاتب.

*ناقد من المغرب

Visited 23 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة