احمد بن صالح: سيرة مناضل مغبون ـــ الصعود إلى الهاوية (1 ــــ2)
جورج الراسي
في 16ـــ9ـــ2020، وعن عمر ناهز 94 عاما (من مواليد 13 كانون الثاني/ يناير1926 بالمكنين)، رحل السياسي التونسي احمد بن صالح على رؤوس الأصابع، دون أن يثير كثيرا من الإنتباه. فقد حكم على الأجيال العربية الجديدة ان تكون منقطعة عن ماضيها وعن رجالاتها.
آخر مرة التقيت فيها أحمد بن صالح، كان ذلك في بغداد مطلع العام 1990، (في فندق الرشيد على ما أذكر)، كان العراق خارجا لتوه من حرب ثماني سنوات مدمرة مع إيران، يريد ان يستعيد انفاسه، ويعود إلى حياته الطبيعية.
امضيت مع سي أحمد جلسات عديدة في بهو من قاعات الفندق، روى لي خلالها تجربته المريرة في تونس منذ حاول تطبيق نمط من أنماط النظام الإشتراكي، أطلق عليه حينها “المجاهد الأكبر” الحبيب بورقيبة اسم “الإشتراكية الدستورية”، بين عامي 1961 و1969، وكان من أهم ملامحه “التعاونيات” الزراعية في الريف، وخطط صناعية، وبرامج اجتماعية وتقلبه في مناصب وزارية متعددة وصل عددها الى خمسة مجتمعة في وقت من الأوقات.
روى لي فصول علاقته المتقلبة مع الحبيب، واسباب انهيارها مع انهيار تجربته. دونت حينها كل تلك الملاحظات، التي بدا لي وكأنه يبوح بها لأول مرة، وكان حريصا عليها كل الحرص، فمنذ تلك اللقاءات كان يقول لكل من يراجعه في شأن تلك المرحلة ان يعود الي، ويستفسر ما إذا كنت قد نشرت فحواها.
عفوك يا سي احمد…لم أنشر تلك الأحاديث في حينها وانا اريد ان اعيد لك بعض حقك اليوم. أعرف ان عشرات الكتب والدراسات صدرت منذ ذلك الوقت بالعربية والفرنسية حول تلك السنوات الحاسمة في تاريخ تونس، وقد لا اضيف شيئا” كثيرا عليها اليوم سوى عربون محبتي وعرفاني لمناضل عربي تونسي كان على الأقل صادقا.
1961 سنة التغيرات الكبرى
العام 1961 ليس عاما محايدا في تاريخ تونس والعرب والعالم. في أميركا وصل كنيدي إلى السلطة وإتخذت إدارته توجها اكثر ليبرالية تجاه كثير من القضايا (من ضمنها القضية الجزائرية).
في تونس تعرض منافس بورقيبة في الخمسينيات، ورفيق نضاله الأول صالح بن يوسف، الذي تبنى خطا عروبيا واسلاميا متشددا، إلى النفي بعد الإستقلال، ومن ثم إلى الاغتيال على يد المخابرات السرية في فندق وسط مدينة فرانكفورت الألمانية.
وفي تلك السنة جرت أول مواجهة مسلحة مع فرنسا يومي 19 و20 تموز/يوليو حول قاعدة بنزرت بسبب رفض الجنرال ديغول الإنسحاب منها، ورفعت المسألة ألى الأمم المتحدة، وتم تأميم الأراضي المملوكة للغرنسيين .ولم تنته تلك الازمة إلا بعد الإنسحاب الفرنسي من القاعدة في 13 كانون الأول/ ديسمبر من عام 1963.
وقد حفزت تلك الأحداث حينها الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان على خلاف سياسي كبير مع بورقيبة، للقيام بزيارته اليتيمة لتونس عام 1964، التي اقترنت مع إضافة لقب “الإشتراكي” على الحزب الدستوري الحاكم تكريما له.
وكانت تلك السنة 1961 التي شهدت انهيار الوحدة السورية ــــ المصرية، هي أيضا سنة إصدار “القرارات الإشتراكية” في مصر والمد الإشتراكي الذي لفح المنطقة. في هذه الأجواء بدأ بن صالح صعوده نحو الهاوية.
1954 : العمل النقابي أولا
نشأ احمد بن صالح في عائلة وطنية دستورية، تناوب العديد من أقاربه على السجون الإستعمارية. درس بالمعهد الصادقي وفي فرنسا دون أن يحصل على الإجازة في اللغة العربية
في باريس ناضل في صفوف “جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين” A.E.M.N.A ثم عاد إلى تونس وعمل مدرسا للعربية، وانخرط في صفوف “الجامعة العامة للمتوظفين التونسيين” ـــ فرع سوسة التابعة للإتحاد العام التونسي للشغل. وقد ارسله الإتحاد للعمل ضمن الكونفدرالية العامة للنقابات الحرة C. I. S. Lفي العاصمة البلجيكية بروكسل لمدة ثلاث سنوات من عام 1951 حتى عام 1964 .
كان نشاطه “السياسي” الأول الالتحاق “بالشبيبة الدستورية”، ومن ثم في حزب “الدستور الجديد” الذي اسسه المحامي بورقيبة عام 1934 بعد انفصاله عن “الدستور” القديم. كانت الحركة العمالية بقيادة الشهيد فرحات حشاد تناضل لإسقاط نظام الحماية، لذلك اغتالته منظمة “اليد الحمراء” الإستعمارية في 5 ديسمبر/ كانون الأول 1952، وهو من مؤسسي “الإتحاد العام التونسي للشغل” عام 1946، وأول أمين عام له .
كان بن صالح من أبرز نقابيي اسرة التعليم .في مؤتمر العام 1949 عارض الإنضمام إلى “الجامعة الدولية للنقابات الحرة” التي يهيمن عليها طابع “غربي”، داعيا آلى نوع من “الحياد الإيجابي”.
بعد اغتيال فرحات حشاد بقي منصب الأمانة العامة شاغرا حتى شهر تموز/ يوليو 1954 حين قررت قيادة الإتحاد اسناد المنصب إليه.
دعم الحبيب ضد صالح بن يوسف
بعد تسلمه قيادة الإتحاد بدأت مرحلة العبور للإستقلال واشتداد الصراعات الداخلية، فلم تمض أيام قليلة حتى قام رئيس وزراء فرنسا الجديد الإشتراكي Pierre Mendés France بزيارة إلى تونس لإستطلاع خطوات التحضير للإستقلال ، فقابل الباي الأمين وأعلن بيان 31 تموز /يوليوالذي تضمن إستعداد باريس لرفع الحماية ومنح الإستقلال الداخلي إبتداء من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر اللاحق. فما كان من الحركة العمالية إلا أن بادرت إلى وضع برنامج عمل للمرحلة الجديدة.
في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1955 إنعقد في مدينة صفاقس مؤتمر الحزب لحسم الصراع بين رئيسه بورقيبة ، وأمينه العام صالح بن يوسف. وكان واضحا ان الصراع على السلطة طغى على كل القضايا الأخرى.
وبعد شهر واحد في 29 ديسمبر/كانون الاول 1955، اصدر الباي مرسوما يقضي بإنشاء “جمعية تأسيسية” لإعداد مشروع دستور، فما كان من الحكومة الفرنسية إلا ان استبقت الأحداث واعترفت بالإستقلال الكامل للجمعية في 20 آذار/مارس1956 الذي أصبح عيدا رسميا للإستقلال قبل الانتخابات التشريعية بخمسة أيام .وقد أقرت الجمعية التأسيسية في جلستها الأولى انتخاب الحبيب بورقيبة رئيسا لها وبن صالح نائبا اول. هنا بدأ الصراع الخفي و”تركيب الخوازيق” اللعبة التي برع بها الحبيب.
بورقيبة زارع الأفخاخ
عارض بن صالح تولي بورقيبة رئاسة الحكومة حتى يظل بعيدا عن الأمور التنفيذية، لكن ذلك لم يكن ذلك رأي الحبيبوفضل احمد رفض منصب الشؤون الإققتصادية الذي عرض عليه، والتفرغ للعمل النقابي.
فما كان من بورقيبة إلا ان الب عليه الحبيب عاشور وأحمد التليلي في محاولة لضرب الحركة النقابية من الداخل. وفي مؤتمر أيلول/ سبتمبر1956 ذكربورقيبة اسمي بن صالح والحبيب عاشور في منزلة واحدة في محاولة واضحة لزرع الفتنة.
مع ذلك صدرت عن ذلك المؤتمر وثيقة مهمة بعنوان “مذهبنا” تدعو إلى اعتماد النهج الثوري “لتحطيم النظام السياسي الإستعماري”.
ومن المفاهيم التي اقرتها الوثيقة: مفهوم الوحدة الشعبية، وخضوع حرية الفرد لحرية الجماعة، والدعوة إلى تحقيق وحدة المغرب العربي ، و تحقيق ثلاث شعارات: الرخاء الإقتصادي والعدالة الإجتماعية والرقي الحضاري. طبعا لم تكن تلك التوجهات لتروق للرئيس الذي اعتمد دائما مبدأ “خذ وطالب”، فدبر فخا ثانيا لبن صالح بمؤازرة عضوي المكتب السياسي احمد التليلي (مرة أخرى) وعبد الله فرحات وهما كذلك عضوي الأمانة التنفيذية للإتحاد العام التونسي للشغل، يقضي بضم النقابة إلى الحزب كتنظيم قائم بذاته.
لكن رد بن صالح كان واضحا: “نريد أن يصبح الحزب الدستوري الحر شبيها بالأحزاب العمالية في أوروبا”. اما الرئيس فقد اعتبر تلك اللائحة “برنامجا ماركسيا وبوابة لوصول الشيوعيين”.
مطلع العام 1957، كان احمد بن صالح في الرباط للقاء نقابيي الجزائر ومراكش فسمع من الإذاعة نبأ إقالته من منصبه كأمين عام للنقابة التونسية بضغط من بورقيبة على الهيئة التنفيذية وتعيين أحمد التليلي مكانه، والحبيب عاشور أمينا عاما مساعدا.
يتبع حلقة ثانية: فشل التجربة التعاضدية والطريق إلى برج الرومي