حكيمة

حكيمة

صة قصيرة

محمد امباركي

كان يتردد باستمرار على الحانة التي تديرها “حكيمة”… يراقب كل تفاصيل حركاتها مع الزبناء…يبدو من وجوه الزبناء والزبونات أنهم قادمون من دروب متشعبة فيها الكثير من خيبات الأمل وانكسارات لم تندمل آثار جراحاتها بعد…لا شك أن “الفشل” يحيط بحياة هؤلاء في شتى معارك الحياة…الجمود يطال المشاعر والمشاغل والأحلام…تجارب حب تدور في مكانها ويظل الخصاص العاطفي قائما ومهولا يضرب جذوره في أزمنة بعيدة من النشأة والتنشئة، ثم تطلعات مهنية لم تذهب بعيدا…هؤلاء يسكنهم شعور عميق ب”الهزيمة” و أنهم وحدهم المسؤولين عن مصيرهم ولا يتحررون من ذلك الشعور إلا من داخل كؤوس نبيذ تزرع فيهم ” وهم الشجاعة وقوة الصمود”… .هو نفسه الذي يراقب “حكيمة” وهي تمطر الحانة بابتسامة لا تفارق شفتيها ورشاقة تخفي تعبا عميقا وصبرا “أيوبيا”، يسأل ذاته ” أنا القادم من أدغال هجرة متأخرة وقاسية ضاعت في طريقها الكثير من الأحلام الفردية والجماعية، ما الذي يميزني عن هؤلاء الناس بالحانة؟ عن حكيمة؟”، يحاول إقناع نفسه قائلا ” لا يميزني أي شيء غير أني أحاول الهروب من آلام الذاكرة وقبضة التذكر؟ ما الذي وقع في حياتي وما الذي تغير؟ لماذا أنا عاجز عن التحرر من قيود زمن ظللت أسكنه روحا وجسدا رغم أني بدلت المكان، بل أمكنة؟”…يتأمل جليا يافطة معلقة في إحدى زوايا المكان مكتوب عليها ” حانة الأطلال “..”الأطلال تعيش فينا ونحن نعيش عليها “..هكذا فسر اليافطة…ثم يعود بحثا عن حكيمة التي تبدو منهمكة في إدارة الحانة بكثير من الحرص والتواصل وتوجيه النادلتين الاثنتين والمسؤول عن “الكونتوار”، ثم يلوح لها بيده اليسرى طلبا للنبيذ…لما تقترب منه بعطرها الزكي وقوامها الرشيق رغم آثار السنون البادية على ملامح وجها وهي المرأة الأربعينية التي يقال عنها أنها هي التي زرعت الحيوية في الحانة وأعادتها الى الحياة بعد أن كاد يحل بها الكساد والإفلاس.. يود لو يستضيفها بطاولته كي يحكي لها قصته، بل بالأحرى كي تحكي له هي قصتها وتساعده على الإعداد لمشروع رواية…نعم هو روائي عاشق للكتابة عن الأمكنة المغلقة من قبيل السجون، المخافر، الحانات، والدروب الضيقة… حيث تتزاحم قصص ورحلات زاخرة بالمعاني…حيث الحيوات قائمة ومصرة على العيش من قلب عراك مفتوح مع دوائر التوبيخ والعقاب والعشق…فكر مليا في عنوان الرواية ثم استقر رأيه على ” حكيمة”…طار من الفرح وقرر أن يمضي الأيام العشر المتبقية من عطلته قبل العودة إلى ديار “الغربة” التي قال عنها ذات زمان أنها “زنزانة واسعة”، في زيارات منتظمة للحانة كي يكتب، كي بنسج تفاصيل الحكاية من خلال تأمل وجوه دالة زاخرة بمعاني التعب وقلق الانتظار.

طلب قلما من حكيمة… بدأ في صياغة تصميم للمشروع…خاطب نفسه قائلا ” اول خطوة هي أن أصف فضاء الحانة بكائناته الحية والجامدة وخاصة الحضور البهي للمرأة في إدارة مكان ذكوري بامتياز رغم تواجد بعض الزبونات وعددهن لا يتجاوز رؤوس الأصابع…سأكتب عن حكيمة أكثر مما كتبت عن “ماريانا ” الغجرية الألميرية رمز الحرية والحب والثورة…بل إذا كانت ماريانا هي فقط فصل من فصول مشروع روائي قادم ومشهد من مشاهده، فإن حكيمة هي كل الرواية من العنوان إلى آخر مرويات الحكاية”…وما العيب أن أكتب عن عالم بل عوالم امرأة نادلة ربما ينتظرها مستقبل واعد من خلال صدفة من صدف الحظ السعيد بالحانة؟ ..ألم تكن “أنجيلا ميركل ” المرأة الأقوى في العالم، نادلة ثم أصبحت رئيسة لبلدها الجرماني”…

لم يستفق من لذة الأسئلة ومتعة الحصول على فكرة المشروع السردي المنتظر غير سماعه لصوت فجائي يخاطبه ” الحساب من فضلك يا أستاذ؟”…كان صوت حكيمة، نظر من حوله ولم ير أي أحد بالحانة غيره وتأمل زجاجة النبيذ الفارغة واكتشف مرة أخرى أنه هو المخلوق الجامد والعاجز عن القطع مع ذلك الزمن الذي يسكن أعماق جوارحه…لعن الفراغ والأمكنة المغلقة والنهود الفارهة ثم غادر الحانة حاملا معه قلم حكيمة ومصرا على كتابة نص لا علاقة له بحكيمة

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة