الفنّ الإبداعيّ للحكيّ المُقتضَب تحت مظلّة الواقعيّة السحريّة 

الفنّ الإبداعيّ للحكيّ المُقتضَب تحت مظلّة الواقعيّة السحريّة 

د. السّفير محمّد محمّد الخطّابي

عن دار النشر ( خطوط وظلال للنشر والترجمة والتوزيع) ــــ  الأردن صدر مؤخراً كتاب تحت عنوان :” مختارات من القصة القصيرة في الأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصر ” للكاتب والمترجم د. محمّد محمّد خطّابي نقل فيه الى لغة الضّاد ما ينيف على خمسين قصة قصيرة من اختياره وترجمته عن اللغة الاصلية التي كتبت بها هذه القصص وهي الاسبانية . 

خيرُ الحكيّ ما قلّ ودلّ ! 

 يلقى هذا الكتاب الأضواء الكاشفة على هذا الفنّ الإبداعي الرّفيع للحكيّ المقتضب  الذي عرف تقدماً هائلاً وتطوّراً خارقاً في العقود الأخيرة في مختلف بلدان أميريكا اللاتينية على وجه الخصوص، ويرتكز هذا الفن الإبداعي في الأساس في هذا الشقّ من العالم على  طفرة ما عُرف بالواقعية السحرية التي ظهرت منذ أواسط القرن العشرين الفارط واشتهرت فيه أسماء ما زالت تبهر العالم في الابداع القصصي والرّوائي على وجه التحديد ،وتعرف الحركة أو الثورة الأدبية ب (البُووم) الأدبي الأميركي اللاّتيني المعاصر الشّهير El boom latinoamericano  الذي رفع الإبداعَ الأدبي إلى أعلى مراتبه على إمتداد ما ينيف على الخمسين عاما الماضية، ومعروف عن هذه الحركة أنّ أسماء لامعة قد إشتهرت، وتألّقت فيها في مختلف أغراض الخَلْق، والعَطاء من الإبداع الرّفيع في الشّعر، والرّواية، والقصّة، وسواها من أشكال التعبير الأدبي، والفنيّ، والسّردي على إختلاف مجالاته، وذاعت أعمالهم وانتشرت خلال العقود الخمسة الماضية في مختلف البلدان الناطقة باللغة الإسبانية، وفي سائر أنحاء العالم أمثال: غابرييل غارسّيا ماركيز، والفارُو موتيس، في كولومبيا، وأليخو كاربنتيير في كوبا، وخوان رولفو، وأكتافيو باث، وكارلوس فوينتيس في المكسيك، ونيكانور بارّا، وبابلو نيرودا، وإيزابيل أيّيندي في شيلي، وخورخي لويس بورخيس، وخوليو كورتاثار، وبيُّو كاساريس في الأرجنتين، وماريو بارغاس يُوسَا في البيرو، وميغيل أنخيل أستورياس في غواتيمالا..وسواهم ،شكّلت هذه الحركة الإبداعية الكبرى حدثاً أدبيّاً هامّاً، ونقلةً نوعية فريدة في بابها خاصّة في عالم الخَلْق، والإبداع في الأدب المكتوب في فضاء اللغة الإسبانية، في بلدان أميركا اللاّتينية. 

دقّة ومهارة 

 يشير الناقد البيرواني ” راميرُو كريستوبال” : “إن  الكاتب المكسيكي ” خوليو تُورّي” ( 1889-1970) هو أوّل من بدأ فى نشر القصص القصيرة فى أمريكا اللاّتينية عام  1917 ، ومنذ  ذلك الإبّان جرّب غيرُ قليلٍ من الكتّاب حظّه مع هذا اللون من الإبداع الذي يبدو فى البداية أدباً بسيطاً هيّناً وهو على العكس من ذلك  يتطلّب قدراً كبيراً من  الدقّة والمهارة والتركيز والخيال وقوّة الملاحظة وإعمال النظر، إذ أنّ سطراً واحداً – مثلما هو الشأن فى أقصوصة ” الكاتب الغواتيمالي–الهندوري الكبير” أوغوستُو مونتيرّوسُو” قد يجنح بخيال القارئ ،وينشّط ذكاءه، ويشحذ قريحته وربّما كان أعمق وأصدق وأكثرَ إمتاعاً وإبداعاً من فصل طويل فى رواية مُملّة . 

وفى دراسة أدبية طريفة  للناقد المكسيكي ” ليوناردو فوينتيس” يشير حول أهمّ العلامات التي تميّز القصّة القصيرة الجيّدة أنّ الكاتب الأرجنتيني المعروف ” خوليو كورتاثر” الذي يُعتبر من كبار كتّاب القصّة القصيرة المفضّلين عنده ، قال فى إحدى المناسبات : “إنّ ” قصّة قصيرة جيّدة”هي تلك التي تتوفّر فيها عناصر ثلاثة لا مناص منها : “المدلول أو المعنى ،الحدّة أو العقدة،التوتّر أو الصّراع”،ثمّ يعهد إلى تفسير كيف يمكن  لهذه العناصر مجتمعة أن تعمل حسب جهد ومَلكة ومقدرة كلّ كاتب ،فبينما نجد “أنطون تشيخوف” أو “فرانز كافكا” يقدّمان المدلول بشكلٍ نابهٍ وذكيّ ،نجد “آلان ادغار بُو” ،”وإيرنيست همنغواي” يُعتبران فى نظر كورتاثر أساتذة الحدّة ، أو التناوش، هناك كاتب واحد كان كورتاثر شديدَ الإعجاب به وهو ” هنري جيمس” ،الذي كان يُعتبر فى نظره المثال الحيّ فى القدرة على خلق عنصر توتّر وصراع مُذهليْن فى الحكيّ. فى حين يرى كورتاثر أنّ العناصر الثلاثة ينبغي أن تقوم على قدم المساواة ليتوفّر لنا فى الأخير ذلك العمل الذي يروقنا ويأخذ بمجامعنا الذي نطلق عليه “القصّة القصيرة”،وهذا العمل لا يحققه الكاتب سوى بقدرٍ باهظٍ من الصّبر، والأناة ، والمراس. 

 كان كورتاثر شديد الإعجاب بقصّة الكاتب الكوبي ” لينو نوفاس كالبُو” التي تحمل عنوان : ” ليلة رامون غينديّا ” الذي يُعتبر من أعظم القصّاصين فى الأدب الكوبي الحديث،وتحكي القصّة معاناة  سائق تاكسي (رامون غينديّا) الذي يُوهَم بأنه ارتكب خديعة  مّا فيُخيّل إليه أنه مُطارَد باستمرار من طرف الوشاة،وتتوفّر هذه القصّة على عنصر أبدي لصيق بالإنسان وهو الخوف،كما نجد فى القصّة حدّة أو صراعاً وتوتّراً بين التقلّب والتحوّل العقلي للمطارَد وخطوب الدّهر التي أصابته، ثم نجد أخيراُ عنصر التوتّر الدرامي الذي يجعل من هذه المغامرة إعصاراً متشابكاً من الأفكار والهواجس والمواقف التي تسير نحو نهاية محتومة مفاجئة،فرامون غينديّا لم يكن يتبعه أحد فى الواقع حتى وإن توهّم القارئ كذلك معه ،ذلك إنّ كلّ المؤشّرات تؤكّد هذه الحقيقة،وهذا العنصر المفاجئ المتقن يُشكّل خلاصة قصّة جيّدة إلاّ أنّ قرّاء هذه القصّة وقارئاتها هم وَحدهم كفيلون بأن يؤكّدوا لنا مدى جودتها وتفرّدها.  

القصّة الجيّدة  

يشير الناقد “ليوناردو فوينتيس” أيضاً أنه عندما كان بصدد إعداد أنطولوجيا عن القصّة القصيرة الكوبية فى القرن العشرين ،كان يقرأ معدّل عشر قصص فى اليوم،وقد قرأ ما ينيف عن ستمئة قصّة ،وبدأ يختلط عليه الأمر بين قصّة عادية، وقصّة جيّدة ، فقرّر العودة إلى “لينو نوفاس كالبُو”ولكنه قبل أن يعيد على نفسه نفسَ السؤال وهو : “ما هي القصّة الجيّدة ؟”،انتقل من نوفاس كالبو إلى “سالينجر” ،وقرأ قصة ” قطّ فى يومٍ مُمطر” ،وبعدها إنتقل الى “خوان رولفو” فقرأ قصّته التي بعنوان ” ألا تسمع نباح الكلاب ؟” (التي نقلناها الى اللغة العربية منذ سنوات خلت وهي مدرجة في كتابي هذا الذي نحن بصدده ) وبعد ذلك قرأ قصة الكاتب الفرنسي ” موباسّان” ( كرة من شحم)،ومن موباسّان انتقل الى قصة “ترمان كابوتي” ( إفطار فى تيفانيس) ، وفى آخر المطاف قرأ قصّة  (المطار) لنفس كورتاثر ،وهذه القصص جميعها وردت فى أنطولوجيته ،وهو لم يضف ” وليم  ويلسون” لإدغار آلن بُو ،ولا قصة ” الكولونيل ليس لديه من يكاتبه” لغابرييل غارسيا مركيز”، وعلى هامش النصائح الكورتيثية اكتشف أنه قبل نوعية أو جودة الأسلوب أو المواضيع أو الجغرافيا أو الشخصيات أو الاذواق الأدبية المتفاوته  فإنّ جميع تلك القصص كانت تشترك فى كونها تجمع برمّتها ” خاصّية” هامّة حيث يقول الناقد فى ذلك : ” عندما كنت أبدأ فى قراءة أيٍّ من هذه القصص يحدث عندي إلغاء تام للعالم الخارجي، وأعيش وكأنّني واقع تحت تأثير سحري فى حياة تلك الشخصيات الأدبية، ويُخيّل لي أنهم قريبون منّي وأحياء بواسطة  تلك الصفحات القليلة التي تدور فيها أو عبرها قصصهم التي أمكنها أن تخلق لي وجوداً مستقلاًّ التهمتها فيه بشكل لم يسبق له مثيل من قبل ، وكانت عملية القراءة فى حدّ ذاتها نوعاً من الهيمنة أو الامتلاك أو كبح النفس”. 

قصص لا تُنسى 

 ومن القصص القصيرة جدّاً التي لا يطولها النسيان  اقصوصة للكاتب ” أوغوستُو مونتيرّوسُو وهي : “..وعندما استيقظ،كان الديناصور ما يزال بجانبه” !. ربما كانت هذه هي أقصر،وأشهر، قصّة قصيرة فى الأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصر،ويُعتبر  كاتبها من أبرع كتّاب القصّة القصيرة فى هذا الشقّ النائي من العالم  الناطق باللغة الإسبانية اليوم . وّيتبوّأ هذا النوع من  الإبداع الأدبي منزلة مرموقة،  ويشمل حيّزاً واسعاً  فى عالم الخلْق الأدبي  فى مختلف البلدان الأمريكية اللاّتينية. وقد هام كثير من الكتّاب فى العالم الناطق بلغة سيرفانتيس بهذا اللون  من الإبداع الذي يعتمد على الوصف الدقيق ،والتعبير المُوفي،والخيال المُجنّح، والإيجاز المقلّ ، ممّا هو معروف ومشهور عندنا بالقولة المأثورة ” خيرُ الكلام ما قلّ ودلّ “، وقد عمل المهتمّون بهذا الصّنف من الإبداع على العناية به، وإحيائه، وتهذيبه، وتطويره، والتفنّن فى كتابته . 

والقصّة القصيرة – فى نظر “ليوناردو فوينتيس”- يمكن أن تكون جيّدة حتى وإن لم تكن  قصّة عظيمة،وهو يتّفق فى ذلك مع قاصّ مقتدر ومشهود له بطول الباع فى هذا المجال وهو المكسيكي “خوان رولفو” الذي يرى أنّ أيّ كاتب قصّة يصعب عليه تحقيق تلك ” الجودة” الممّيزة له دون سواه فى هذه ” الصّناعة الدقيقة” كما كان يسمّيها رولفو نفسُه بخلاف الرواية،فكتابة القصّة القصيرة عنده هي: ” ضربات فأس هنا وهناك ،وعمليات مراجعة ،وحذف، وإضافة،وطرح، وجمع،والقصّة لها فرصة واحدة فى الزّمن والحيّز ،وحظّها يتقرّر فى الحين مباشرةً بعد مرحلتيْن : كتابتها  ثمّ قراءتها .فأيّ طلبٍ أو تعديلٍ،  أوإضافةٍ،أو وصيّةٍ ،أو تنميقٍ أسلوبي لا جدوى منه ” . 

ما هو السرّ الذي يحقق كتابة قصّة جيّدة إذن ؟ لا كورتاثر، ولا رولفو ،ولا كيروغا،بوصاياه العشر فى كتابة القصّة أمكنهم إزاحة أو تبديد ذلك الظلّ الذي يخترقه الكاتب المبدع ساعة الخلق الأدبي فقصّة جيّدة تُكتب ولا أحد يعرف كيف ولا لماذا ؟ إلاّ أنها تُكتب وتخرج الى حيّز الوجود كمخلوقٍ حيّ قائمٍ يدبّ على قدميْن،وأمّا عملية اكتشاف قصّة جيّدة من مجموعة قصص عادية ،فإنّ أوّل وسيلة ينبغي القيام بها  لتحقيق هذه الغاية هي إغلاق العينيْن والتنقيب فى دهاليز الذاكرة وزواياها المنسّية عن عناصر تعيننا على استحضار أو استذكار بعض القصص التي لا تُنسىَ ،وللتأكيد على ذلك فما على القارئ سوى أن يعود لقراءتها من جديد وإذا شعر أنّ العالم قد طفق يدور حوله داخل ثماني أو عشر صفحات ،عندئذٍ سيتأكّد له أنه عثرعلى ضالته ،عثر على قصّة جيّدة. 

السّخرية ملح الحكيّ 

  ويرى الناقد المكسيكي ” إغناثيو بيتا نيكورث”أنّ القصّة الأمريكية اللاّتينية على الرّغم من تنوّعها وتألقها فإنه ينقصها عنصر التهكّم، والسخرية ،ويتساءل الناقد : إذا كان سكّان أمريكا اللاّتينية يميلون بطبعهم  للمرح، والفرح، والإحتفال ،ومعروف عنهم كذلك روح النكتة والطرفة والدعابة والبهرجة فلماذا تخلو قصصهم ورواياتهم فى الغالب من هذا الجانب الذي لا يقلّ أهمية عن التراجيديا؟. 

ويضيف نفس الناقد المكسيكي: “إنّ السّخرية تتطلّب قدراً كبيراً من الذكاء والفطنة لكونها تعالج مسائل قد تبدو سطحية فى ظاهرها إلاّ أنها فى العمق تركّز على معاناة المجتمع وصراعه لضمان قوته اليومي للحياة ،وتجري فى الوقت الراهن دراسات أدبية ونقدية حول هذا الموضوع الذي يحتلّ فى عالم الأدب والإبداع مكانة الملح فى الطعام” .ويستثني بعض النقاد فى هذا السياق الكاتب الغواتيمالي- الهندوري أوغوستو مونتيرّوسُو الآنف الذكر المعروف بكتاباته المرحة المُبطّنة بفيضٍ هائلٍ من السّخرية، والتهكّم، والمزاح حتى أطلق عليه البعض ب “سلطان السخرية” فى أدب أمريكا اللاّتينية. 

أسطوانات وأقراص مُدمجة 

ويرى الناقد المكسيكي” إغناثيو بيتا نيكورث” أنه فى السّبعينيّات من القرن الفارط كان الروائيّون يُوجّهون عنايتهم نحو السياسة وقد أصبحوا اليوم يُعنوْن بمواضيع لها صلة بالخيال، والتاريخ، والمجتمع، كما يلاحظ أنّ هناك مشاركة  فعّالة للمرأة فى عالم الإبداع الأدبي الأمريكي اللاّتيني فى المدّة الأخيرة ، وهذا ما حفظ لها مكانة متميّزة فى أنطولوجيات القصّة القصيرة على وجه الخصوص فى العالم الجديد . 

ولقد اعتاد العديد من كتّاب القصّة القصيرة المعروفين فى أمريكا اللاتينية إصدار أعمالهم فى اسطوانات كومباكت وفى أقراص مُدمجة ،كما أنهم يستغلون الأنترنيت لابلاغ إبداعاتهم للقراء فى مختلف أرجاء المعمور،ولقد حققت هذه التجربة نجاحاً منقطع النظير داخل القارة الأمريكية وخارجها. 

وتجدر الاشارة فى هذا الصّدد أنّ هذه التجربة الأدبية ليست جديدة ،فمنذ اختراع آلات التسجيل تمّ إصدار أعمال أدبية مُسجلة للعديد من الكتّاب بأصواتهم ،وهناك تسجيلات ضمن اسطوانات تجمع أصوات الكاتبيْن الكبيريْن المكسيكي خوان رولفو، والأرجنتيني خوليو كورتاثر،بالاضافة إلى كتّاب أمريكيّين لاتينييّن آخرين، وفى مقدّمتهم الكاتب المعروف أوغوستو مونتيرّوسُو نفسه ، ونذكّر فى هذا الخصوص بأشهَر ما كان يقوله مونتيرّسُو عن القصة القصيرة من نصائح لإجادة هذا الفنّ الإبداعي الجميل والعويص وهو قوله  : ” على القاصّ الجيّد أن يتعلّم لا كيف يكتب، بل كيف يُعبّر ويُصوّر” ..!. 

مفتاح الشّهرة والإنتشار 

 علّق الكاتب التشيلي الكبير “نيكانور بارّا بعد فوزه  بجائزة خوان رولفو العالمية المرموقة فى القصّة القصيرة التي تعتبر من أهم الجوائز الأدبية فى العالم  الناطق بلغة سيرفانتيس ، فقال ساخراً : “إنه بفضل هذه الجائزة أصبح أكثر شهرةً من ذي قبل “،وهو يحكي لنا طرفة وقعت له في هذا الصدد  فيقول :” أنّ ناشراً كان قد  رفض تسليمه مبلغ ألف دولار كمبلغ مقدّم قبل حصوله على هذه الجائزة، ولقد عرض عليه فى اليوم التالي لفوزه  بها  مبلغ 15000 دولار دفعةً واحدة ،وانهالت عليه الاستجوابات الأدبية من مختلف أنحاء العالم حتى كان عليه أن يختفي من الخريطة ،ويختم نيكانور بارّا قائلاً  بسخريته المعهودة : ” إنها مفارقات الحياة ..!”. 

ويؤكّد لنا الايطالي العبقري  ليوناردو دافنشي فى كتاباته الفلسفية  أنّ أيّ نشاط  أو عملية من عمليات الطبيعة تتمّ بواسطة أقرب السّبل وأقصرها . وهكذا فالقصّة القصيرة فى عالم الأدب تتطلّب تركيزاً كبيراً ودقة متناهية لتحقيق الغاية المتوخّاة منها،بسرعةٍ وبحسم مثل الدم الذي يفور ويتدفق ويجري فى أجسامنا،إلاّ أن الطريق الأكثر اختصاراً لا يكون دائماً هو الأنسب فنحن نعرف اليوم أن المسافة الأقرب بين نقطتين ليست هي الخط المستقيم كما قال إقليدس،ذلك أن استدارة الأرض والعالم نفسه لا يخوّلان لنا معرفة ما هو المستقيم وتغدو ملاحظتنا فى هذا القبيل بالتالي نسبية . لا ينبغي للقصّة القصيرة أن تستقي أهميتها أو جودتها من قِصَرِها على الورق ، بل من حضورها الطويل فى ذهن القارئ النابه الذي لا يكلّ ولا يني عن التنقيب عن الجانب الخفيّ من النصّ،فالقِصَر فى حدّ ذاته ليس ذا أهميةٍ، والاختصار يتطلب الاقتصاد ( أيّ الإقلال) من الخوف والتوجّسات وليس من فقر الأفكار وخصاصتها وخسّتها !. 

الذبابة وسرَّ طيرانها ! 

 ويؤكّد النقاد أنّ القصّة القصيرة قد تطلّ علينا من مختلف الأغراض الأدبية الأخرى،فقد نجدها مخبّأة داخل روايةٍ مّا،أو متوارية فى قطعةٍ شعرية ،أو مجسّمة على مشهدٍ مسرحي،وهي تضحك وتسخر هاربة من معاول النقّاد الهادمة وسهامهم الجارحة،فهل هي لمحة، أو ومضة، أم إشارة، أم إثارة، أو صورة، أم خيال ..؟. ثمّ هل هي تميمة لتهدئة النفوس والضمائر وطمأنتها أم هي وصفة أدبية مركّزة لتشريح الحياة ،وتفتيت الزّمن،وتحنيط الواقع،إلاّ أنه ينبغي ألاّ يعزب عن بالنا أنّ تجزيئ أوتقطيع ذبابة لا يعلّمنا  بالضرورة سرَّ طيرانها! . 

ويؤكّد الكاتب الإسباني خوسّيه ماريا إيفانكُوسْ، أنّ الواقعية السحرية أسهمت بقسطٍ وافر في عولمة اللغة الإسبانية، وثقافتها، وعرّفت بالأدب المكتوب في هذه اللغة على أوسع نطاق، كما أنّها نقلتْ هذا الأدب وترجمتْه إلى مختلف اللغات العالميّة الحيّة، وكانت أولى قراءاته لهذا البّوم الأدبي رواية مدينة الكلاب ليُوسَا، ومائة سنة من العزلة لماركيز، ورَاجْوِيلاَ لكُورتاثار. فبواسطة رُولفُو أدخِل إلى الأدب العالمي السّرد الهيكلي، مروراً بفولكنر، وقدّم يُوسا السّرد الذي يَرْصُدُ الواقعَ بواسطة الخيال، وتقريب الرّواية من التاريخ الجماعي، واستعاد كاربينتييرأجملَ التقاليد الباروكيّة السّردية في اللغة. 

والخلاصة فإنّ القصة القصيرة فى  بلدان أمريكا اللاّتينية تمثّل مختلف الإتجاهات، والمشارب، والمذاهب، والألوان فى كتابتها ،وقد أصبحت اليوم تحتلّ مكانة مرموقة فى عالم الإبداع الأدبي فى القارة الأمريكية على وجه الخصوص، وفى سائر بلدان العالم على وجه العموم  ،و يجد القارئ فى هذا الكتاب الذي بين أيدينا نماذج  مختارة حيّة لما سبق ذكرُه في هذا المجال ..** 

أجدير الحَصين –  الحسيمة .  

  

Visited 12 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا