هؤلاء الّذينَ يَمُوتونَ خَلْفَ أعمارِهِمْ
بول شاوول
قصيدة (مُهداة إلى أطفالِ غزّة)
هؤلاء الذين يكبرون خلف موتهم
ولا سنوات تُحصى
ولا أسماء
ولا لحظات تُروى
لإرثٍ أو لمقام /
عدوى الورد ولا أجسامهم
عدوى العطر عليهم
ولا نسمة حولهم
ولا لون لعيونهم الأخيرة
هؤلاء الذين يموتون خلف أمواتهم
(أطفال غزة).
…
ولا تلفّت رحيماً ولا عُصَص لتشرقَ
ينضمّون في سباتهم الخفيف
(خفة أبدانهم)
بلا رحمةٍ ولا عللٍ ولا أصابع
إلى أوقات ولا يرسمونها
إلى أمكنة مُبهمةٍ بين السّماء والأرض
بلا ظلالٍ لتعلق على أجفانهم
ولا قسمات
للموتِ مَلمحُ طفلٍ واحد
في ميتاتٍ كثرى واحدة
للموتِ طرقٌ لا تعبرُ اللّيل
إلا بأخفافٍ غامضة
ولا أطراف أو أنفاس
تمسكُ ولو هُبوباً خفيّاً أو صرخة
غير مُعلنة كأنْ تسقطَ نوافذ على
حلم سحيق
خلف أيامهم المسبوقة
ولا سابق إلاّ ما يسرده
الصمتُ على جلودهم
وحوشٌ تطلعُ من التوراة
جَفّتْ سَدومُ في محاجرهم
نَزّت أوبئة من مسامهم
وحوشٌ تطلعُ من التوراة
كأنْ تخرج بلا صُبح أفاعٍ الفية
بأجراس مجلجلة وبألسنة
وبفجورِ من غادر الأبدية بلا رجعة
وحوش تطلع من التوراة
ولا وجوه سوى ما يصنعه المعدنُ
سوى ما يسبيه النّصلُ
سوى ما تُخليه المزاميرُ على قلوبهم الداكنة.
…
هؤلاء الأطفال الّذين يموتونَ خلفَ أعمارِهم
ولا أثرَ سوى مِن أطلال أجساد
أو انقاض غيوب أو حرائق من أول اللّيل
إلى آخر الأعناق
وحوشٌ تطلع من التوراة
تنهشُ سنواتهم المقبلة
أطفال غزة.
…
تقطعُ مسافاتهم العجلى بلا دليل
ولاعلامة
تكسر شرفاتهم ولا بصيص على أجفانهم المُسبلة
بأسبابها الكثرى
بهنيهاتها الثقيلة
هؤلاء الأطفال الذين لم يكبروا
كما يكتمل بدرٌ أو تعتدلُ ظهيرة
أو يرمش مغيب
وعندما لن يكبروا تخلّت أيامهم
عن أيديهم أمامهم
هؤلاء الأطفال الذين لن يكبروا
ضاق الفضاء بكواكبهم المكسورة
بجذوعهم الطريّة
بأصواتهم البطيئة
وحوشٌ تطلعُ من التّوراة
قطعت الفضاءَ الذي يتَّسِع
لأجسامهم
قصّتِ الضوءَ الذي يفتح عيونهم
فَضّتْ سنواتِهم القادمةَ ولا قدوم
كأن تُرمى أسمال فارغة
أطبقت قبضات سائبة على أفواههم
قبل أن تصير الصّرخة شيئاً يشبه الصّدى
أو تمتمة من صلاة أو من تحية
هؤلاء الأطفال الذين لم يعرفوا أنهم
لم يكبروا أو كبروا أو سيكبرون
وكأنهم لم يولدوا أو لم يطرقوا بطونَ
أمهاتهم، أو يَحْبوا، أو يتعثروا،
أو يمسكوا دمية أو ورقة أو صدراً
كأنهم لم يولدوا
(وماتوا)
أو كأنّهم ولدوا لحظة كثيرة
لتكون لحظاتُهم أكثر
لتكون لحظاتهم القليلة أعماراً
خاطفة ولا نهارات: أعماراً
تقفز فجأة من العدم إلى البياض الأخير.
…
الوحوش الطالعة من التوراة
تُفلت موتاها عهودها القديمة
كهوفَها الألفيّة
وغرائزَها الجامحة
على رماد الحدائق المحترقة
هؤلاء الأطفال الذين ماتوا قبل أعمارهم
كأن لم يتوسَّدوا حضناً أو يُفطموا
على ماء أو فاكهة أو رغيف
كأن من بُقياهم أن تصير الشّجرة إلى الشّجرة
والزيتونة إلى نهر والنهر إلى أرض
لم تعد أرضاً بغير ما تختزنه
من عتمة وأبدان وتذكارات.
…
الدّمُ المَسبوق
الدَّم السّابق
طفلٌ قبل أن يصير طفلاً
عابرٌ بلا عبور
طفل قبل أن يصير شجرة
يقطع الشّريان قبل امتلائه
ذلك أنّ الوحوش الطّالعة من التّوراة
كسور النبوءات العاتية
كسور الآلهة المُفلتة بلا أرواح
ترسمُ حول الأطفال حدودَ الجحيم
تلكَ الوحوشُ الطّالعة منَ التوراة
عصائبهم تعاويذُ للذّبح
نجمتهم تُشرّح الهواءَ بنصال مسمومة
هؤلاء الأطفال الذين يموتون ولا يعرفون أجسامهم
ولا ذكرى، ولا بلل، ولا غضاضة، ولا
فصول ولا أغساق ولا إشفاق
يغمضون عيونهم قبل الصّاعقة السّوداء
هؤلاء الأطفال الّذين يموتون خلف جراحهم ولا جروح تُروى
خلف ما ترمّد من حدائقهم، وغُرَفِهم،
ومخابئهم وهشاشة صدورهم
كأنْ يَقتل الأطفالَ سِفرٌ أو كلام
أو ضربة تصيبهم في ظهيرتهم المنفية
أو في فجرهم المستحيل
أو في أقمارهم المقسومة
بقوّة التّخريف وطقوسِ الإبادة وجنون الآلهة المعدنيّة
القتلة يهرمون بقتلهم
كما هرموا بكلامهم
هرموا قبل موتاهم
قبل أبطالهم المضرجين بدم العالم
القتلة يهرمون باكراً قبل براثنهم قبل شبابهم قبل طفولاتهم
يُلغون المسافة بين الليلة وضحاها
بين الجلد وألوانه
بين الورود وأعباقها.
…
وردهم يُفحّم (سُدوماً) على جباههم
أشجارهم تيبس قبل قاماتهم.
…
هؤلاء الأطفال الذين لم يكن لهم أن ينسوا (والطفولة نيسان) ولم يكن لهم أن يتذكروا (والطفولة تذكّر) ولم يكن لهم أن يروا نافذة مفتوحة (والطفولة نوافذ مفتوحة) ولم يكن لهم أن يعبروا باباً (والطفولة أبواب مفتوحة) ولم يكن لهم أن يجتازوا عتبة (بيوتهم بلا عتبات)، هؤلاء الأطفال الذين يموتون بلا أبدانهم ولا أجفانهم، ولا أفواههم، يُسجّون في عزلاتهم العالية فرادى ولا أنيس وزمراً وشتاتاً ولا دليل ونثاراً بلا أشكال، ولا ألوان، هؤلاء الأطفال (أطفال غزة) عبروا طفولاتهم كأن تعبر الضفةُ الضفةَ والنهرُ النهرَ، والحياةُ الموتَ، بلا قارب ولا جسر ولا جناح (الطفولة بأجنحة كثيرة. بسماوات جاحدة. بمجهول يمشي في مجهول.
…
هؤلاء الأطفال ومن شدّة ما اختزنوا الأمكنة المختارة (وميض لحظات) فاضوا عليها بموتهم (كيف تفيض الآخرة على الأمكنة الأخيرة). فاضت الأمكنة بعدهم على الأمكنة كحدود سائبة، كحدود اتّصلت بالسماء البعيدة، والأرض الصّعبة، والسّماء والنبات والغابات والزيتون واللّيمون اللوز والتّين… وفلسطينَ كلّها.
…
كأن عندما تجاوز الأطفال كلّ حدود (مقطوعة) باتوا بلا حدود ولا أسلاك ولا جدران ولا أسوار ولا تقطيع أوصال، وباتت الأرض بوعورتها ومشقاتها، وأحمالها وجغرافياتها بلا حدود تذكر صارت الأرض تشبههم فجأة صارت الأرض بلا حدود سوى ما تركه الطفل بينه وبين طفل آخر، بينه وبين شهيد آخر، بين براءات محجبة وبراءات مقبلة، بين أموات رحلوا وأموات قادمين.
ذلك أن الوحوش الطالعة من التوراة
ترسم مقاصد الأرض بنصوص ألفية
كيف تكون الوحوش آلهة مختارة من إله مختار
تنشر برياحها القديمة الغاضبة (غضب الآلهة) ما يملأ الفضاء أوبئة وجَرَباً وبرصاً وطاعوناً وكوليرا.
…
الأطفال الذين يموتون خلف بلادهم وأصحابهم وخلف صدور أمهاتهم، كأنهم، ومن موتهم الآتي من “غضب الرب” يمسحون الأرض بدماء طازجة، والهواء بأنفاس حَرَّى، والعالم بصراخ أطول من أحزانهم كأنهم، ومن موتهم، يحوّلون مَنْ خلّفوهم وراءهم، أو من سبقوهم من ناسهم وآثارهم، ومَنْ لم يروهم، ومن لم يسمعوهم، يحوّلوهم أطفالاً منتصبين على القبب والقلاع والمدن: إذ كيف يموت طفل ويبقى طفلاً في موته، ولا يصير الكهل والشباب والشجر والسماء أطفالاً مثلهم. يحولون كل الشهداء اطفالاً، ليشهقوا معهم وروداً ذبلوا قبل ذبولها، ويرفعوا ثماراً سقطت قبل سقوطهم.
ذلك أن الوحوش الطالعة من التوراة إلى كلّ هاوية
كأن قفزت من ولادة الى معدن بلا طفولة ولا تغضّن ولا شباب، قفزت من الأرحام الى القتل (فيا لضيق الزمن والمساحة
ذلك أن الوحوش الساقطة من الكتب الألفية،
كائنات الكلام الحجري، والنفوس الحجرية، والأحجام الحجرية،
يطأون أرضاً ليست أرضَهم
يتنفسون هواء ليس هواءَهم
يشربون مياهاً ليست مياههم
يسكنون منازل ليست منازلهم.
…
وحوش الأمس،
وحوش اليوم،
وحوش الغد:
كيف يبقى الوحش وحشاً من كلّ أمس إلى كلّ يوم إلى كلّ غد، ولا مرآة أو نافذة، أو دمعة: صلصال الوحوش أقسى: معادنهم أقسى،
يحرقون هشيمهم فوق الينابيع
يشعلون يباسهم فوق الوجوه
يقتاتون الموتى الأحياءَ والأحياءَ الموتى، يشربون الدم قراحاً ولا غصص ولا ارتواء
الوحوش الطالعة من الهاوية الألفية جَفّوا قبل ولاداتهم جَفّتْ أقدامهم قبل دبيبها جفت أصواتهم على نحاس حناجرهم.
…
الأطفال الذين يموتون وراء تذكاراتهم الصغيرة،
خلف صرخاتهم المعدودة
خلف صمتهم الواسع
(أطفال غزة)
…
هؤلاء الذين يكبرون خلف غياباتهم
ولا أيام تُحصى
ولا أسماء تتردّد
ولا لحظات تروى
لإرث أو لمقام
هؤلاء الذين يموتون خلف أحيائهم
أمام أمواتهم
(أطفال غزة)
ينضمّون بسباتهم الخفيف
(خفة أبدانهم)
بلا رحمة ولا أصابع
الى أوقات ولا يرسمونها
ثم يرسمونها
إلى أمكنة مبهمة بين الأرض والسماء
ثم يحتلونها…
هؤلاء الذين يموتون خلف أحزانهم
ولا عزاء ولا ألفة يتمددون في عزلاتهم العالية، في غرباتهم، في وحشة مآلاتهم، يُحدّقون في السماء المنصوبة فوقهم بلا سبيل ولا إشارات ولا وميض
يرجمون رمادها الغادر
يحصون ما في أيامهم من لحظات
ثم
وبقفزة واحدة يتلاشون كالنيازك
في ذلك الفضاء المعدني الغامض
على
تلك الأرض التي تخلت عنها الآلهة
هؤلاء الذين يموتون خلف دمائهم
يفتحون جروحهم وبلا حساب ولا قربى
جراحهم الأخيرة على الأرض الأخيرة
على الوجوه الأخيرة
على عزلاتهم العالية ولا مُعين
بين سماء تطبق عليهم بنيرانها
وأرض تلفظ أبدانهم بلا ألفة ولا قربى
ولا إشارات ولا وميض.
*من مجموعة شعرية صدرت عن “دار راية للنشر والترجمة” عام 2022 بعنوان “هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم “، أهداها الشاعر “إلى أطفال غزة، الذين يواصلون معجزة الحياة رغم الحصار الخانق والحروب المتواترة كل عدة سنوات على القطاع الباسل”.
Visited 38 times, 1 visit(s) today