ماذا لو تكرَّست الهمجية الصهيونية؟
سعيد بوخليط
لنفترض تخمينا على سبيل الوهم والتَّوهم،مخطَّطا مرعبا،ونحاول تخيُّل كابوس مفجع للغاية يقضُّ حقا المضاجع حرقة واحتراقا،مفاده احتمال انتصار أمريكا/إسرائيل وخلفها تحالف أوليغارشيا الاستبداد العربي،على فعل ومفعول وأفق المقاومة الفلسطينية،عسكريا ورمزيا،نحو مبتغى تجسيد حلم قديم /جديد يعيد ثانية رسم خريطة الشرق الأوسط والمنطقة برمتها،من المحيط إلى الخليج ضمن تنفيذ بنود ماطرح منذ زمان تحت تسمية”نظام جديد”،”فوضى خلاَّقة”،حسب فقط توجُّهات المصالح الاستراتجية الأمريكية.
لنفترض تخمينا على سبيل الوهم والتَّوهم،اكتمال بلورة معالم هذا المشهد القاتم، ثم عادت الحناجر إلى معاقلها، كي تستعيد شاشات الحواسيب والهواتف مرة أخرى، يوميات رصد تنبؤات العرَّافين والعرَّافات،بخصوص استشراف جداول المواعد المستقبلية لمتواليات اختبار وحشية عولمة ليبرالية الرِّقِّ وأسواق النخاسة، من خلال تلذُّذها السوداوي بحروب الفيروسات، الكوارث،التدمير النسقي،حرب الحروب، فيعيش الجميع ديمقراطيا تحت رحمة نظام قوامه بثِّ الرعب،هكذا يتحسَّس كل فرد بقاءه؛ خوفا من أن يغدو بلده أو منطقته هدفا محتملا للشَّرِّ القادم.
لنفترض تخمينا على سبيل الوهم والتَّوهم،أن معنى المقاومة جراء تنميط الخيانة ومأسسة الانهيار،قد استنزف أمده في نهاية المطاف،واستكان الجميع إلى وضع بشري ذي بعد واحد،تحكمه حلقة أطياف نخبوية هلامية متوارية عن متواليات المشهد الكوني في صيغته المرئية. هل يعني المآل،بأيِّ شكل من الأشكال،تحكُّم هؤلاء في سيرورة ممكنات التاريخ،أو حيوية البيولوجية. طبعا، يستحيل استحالة تامة صناعة عالم بدون جدوى أنسنته.
مبدئيا، يعتبر الحسِّ المقاوم جوهرا آدميا، ترياقا للحياة،باعثا للخلق، بعثا للمعنى. من لايقاوم يتحلَّل بالضرورة نتانة. يصير قبل ذلك،بلا مناعة، تنخره جملة وتفصيلا أمراض شتى. يموت كل لحظة، موتا بطيئا، بين فكَّي الحنق والعجز.
الأجسام حيوية،ناضرة فتوَّة وشبابا،مادامت تركِّز على آلية دوام مقاومتها،وتنعش تصدِّي جهازها الإحيائي لكل ما من شأنه تعكير صفو آليات النظام الطبيعي.عندما ينتهي هذا الأمر، لسبب ما،تتسرطن الخلايا،تتعفَّن حتما،يصبح حيزها المكاني مثيرا للاشمئزاز، تبعث التقزُّز في نفوس الآخرين، الذين يبحثون قدر مايمكن عن التخلص من الحالة النشاز.
الكيانات المتشبِّعة بروح الرفض الايجابي والمقاومة الجدلية،تستدعي مختلف أسباب جوهر البقاء ضمن مناحي بقاء جوهري فتشكِّل نموذجا ملهما بكل المقاييس،يرسي فيصلا مفصليا بين التوطُّد والعدم.
توخت باستمرار المنظومات الاستعمارية،حسب مختلف تجلياتها،تقويض مرتكزات ثقافة المقاومة وأنساق الفكر المقاوِم التي يمكنها دحض مخطَّطات الجشع،بالاستناد على نفس الحجج والمبررات مثلما التقييم الحالي بخصوص المقاومة الفلسطينية : انتماء المقاومين إلى صنف ماقبل البشر تحديدا فصيلة البهائم المتوحشة،القاصرة ذهنيا عن إدراك وضعها المفترض،ومصلحتها الحقيقية،مما يقتضي وجوب تهذيب هذا الزيغ،وتأديب التائهين. تقييم جاهز،دون تأويل مجتهد،راسخ تصوره لم يغير قط مبرراته.
لقد كابدت جميع الحركات التحرُّرية طويلا من اعتباطية هذا التوصيف الظالم،شرقا وغربا،غاية نجاحها في تحقيق النصر والجلوس على كراسي ذات طاولة ”الأسياد”قصد التفاوض واستثمار نتائج المعركة سياسيا.
بهذا الخصوص،أنصف التاريخ حتما على امتداد تاريخه،تلك القوى المؤمنة بقضية مطلقة من حجم الوطن؛مهما طال الزمن واشتدت ويلات الكروب،مقابل اندحار أهل الهيمنة والتسلط.
لايمكن لحياة إنسانية حقيقية،تكريس انتصارها على منظومات الموت بغير وازع حميمي للمقاومة واستلهام روح ثقافتها،بحيث تنمو في غضونها بكيفية أساسية وعضوية،روافد حياة تحترم سمات الكينونة وتحتفل بالهويات المختلفة.
لنفترض تخمينا على سبيل الوهم والتَّوهم،أن اللوبيات الأمريكية/الصهيونية، استطاعت وسط أعاصير دماء الفلسطينيين،بتأمين مداخل شرق أوسطي يستجيب تماما لنزوعات أهوائها،حيث الأبراج و البوارج وحاملات الطائرات والمارينز ومطاعم الوجبات السريعة،في إطار وعود مؤجَّلة حول دمقرطة الأنظمة السياسية وتمكين الشعوب من قنوات الرفاه المالي والرخاء الاقتصادي، ثم لاحيِّز يذكر قط أمام خطاب إقليمي يناهض الأسلوب الأمريكي.
بهذا الخصوص،عاين الجميع بأمِّ عينيه إخفاق السعي سابقا في أفعانستان أو العراق،وقبل ذلك،في فيتنام وأمريكا اللاتينية،بحيث لم تفلح الأمركة بنسقها السوسيو-القيمي في اقتلاع جذور المحلِّي وطمس هوية قناعات المقهورين الدفينة،أو تبيان ملموس لقدرة هذا النموذج على الاستيعاب والإقناع،يوضح فعليا أمام المتردِّدين بأنَّ البرامج الانقلابية الأمريكية حقا صائبة وصادقة.حاليا،تجسِّد أفغانستان كليا صورة حية عن وضعية العصر البدائي، أما العراق وبعد عقدين من الاجتياح فلازال مرتعا خصبا لمختلف معالم الدولة المنهارة.
إذن،ما الايجابي الذي قدمه الدرس الأمريكي حتى يتبناه الفلسطينيون برحابة صدر؟وتنتعش بورصة الشركات العابرة للقارات، فوق سطح أرض طوت وتطوي بين حضنها أكواما هائلة من البشر المظلومين،حدث ردمهم أحياء،فقط تعسفا و احتقارا،تعبيرا عن إفلاس الإنسانية.
لنفترض تخمينا على سبيل الوهم والتَّوهم،أنَّ تلك الأرض الأبيَّة التي انتُزِع أهلها على بكرة أبيهم،أضحت حسب الحلم الأمريكي/الاسرائلي،بعد اكتساح خطاب القنابل العنقودية،سلسلة عناقيد أبراج إسمنتية تقارع السماء بنيانا،زاخرة يومياتها بصيحات المال ولغط مراهنات الصفقات،مقابل محو تاريخ بشري بأكمله،كتبت حولياته بالآم والآمال،حكايات تراجيدية محض إنسانية بأدقِّ دقائق تفاصيلها العقلية والذهنية والحسية والتجريدية والعاطفية والفكرية والاستدلالية والخيالية،لايستوعب كنهها سوى الراسخين في استيعاب الحالة الإنسانية : حكاية شعب يعشق تربة أرضه حتى تستحق الأرض أرضها، ولاشيء يحُوُل بين العاشق والمعشوق إلا شريطة تحقُّق الانصهار الكلي فأضحيا كائنا واحدا.
ربما نتخيَّل على سبيل الوهم والتَّوهم،استناد الدولة العبرية قاعديا على ركائز منظومة مدنية،تضبط عقلانيا و قيميا مشروعها القومي،حسب بوصلة ثوابت حضارية. ليس واقع الحال كذلك،إنها مجموعة شوفينية، عنصرية، عسكرتارية،لاتؤمن بالحلول الوسطى أو مجرد ترميم شتات لبناتها ضمن سياق سياسي بنَّاء يعكس تعدُّد الأعراق وتنوع العرقيات، لذلك فالقضاء على فكرة المقاومة مثلما يقاتل الفلسطينيون حاليا في الجبهة الأمامية قصد انتصارها وترسخها،بدل الهمجية الصهيونية، تعتبر فقط مجرد حلقة أولى عبر سلسلة طويلة تتجاوز كثيرا المضمار الفلسطيني نحو جلِّ مكونات الجغرافية العربية.