“أربعين” غـــزة.. الشهيدة الحية!

“أربعين” غـــزة.. الشهيدة الحية!

كتب محمود القيسي

الشهيدُ يُحاصِرُني:

لا تَسِرْ في الجنازة

إلاّ إذا كُنْتَ تعرفني.

لا أُريد مجاملةً من أَحَدْ.

*محمود درويش

 منذ النكبة الأولى عام 1948 حتى أيامنا  النكبة هذه في جحيم معركة غزة العزة.. مازال كيان العدو الاسرائيلي الصهيوني الغادر، يتعامل مع القرارات الدولية وكأنها مجرد خبر على ورق.. ويتعامل مع الشعب الفلسطيني كأنه مجرد هدف عسكري، أو  ضحية يومية على سرير تسويات الأسطورة اليونانية “بروكاست”.. سرير الأسطورة اليونانية التي تتمحور حول رجل يعمل حدّاد في النهار وجزار في الليل، الحدّاد الجزار الذي يدعو الناس للمبيت عنده على الأرض التي اغتصبها من أصحابها الأصليين؛ ثم يضعهم على سرير في بيته المحتل، فمن زاد طوله عن السرير، بتر الزائد منه، و من كان أقصر، مدّ أطرافه حتى  تتمزق؛ الشخص الوحيد الذي ينجو منه، هو الذي يناسب مقاس جسمه مقاس السرير !!!

 السرير الذي أقامه الغرب الامبريالي على مقاس ومقياس الإحتلال الصهيوني المسخ على أرض الشعب الفلسطيني المحتلة. في حين غاب عن بال هذا الغرب الليبرالي التقليدي، والنيوليبرالي المدعي صفة، ومسخه الإسرائيلي المدعي كذبة تاريخية.. أن الحقيقة الفلسطينية ليست من نسج الخيال، والأساطير، ومطابخ التسويات، والأسرّة والمخادع المشبوهة، بل صاحب الأرض المحتلة التي يلعب الغرب الامبريالي الصهيوني حول سريرها، وتاريخها، وحاضرها، ومستقبلها لعبة المفاوضات والتسويات والقتل المُباح بإسم المواصفات العنصرية الغير مطابقة للمقاييس السامية كذبة إسرائيل غير السامية..!

 غرب راسمالي مُتوحش.. يمارس لعبة الغميضة، والقفز العالي والبعيد عن حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ومياهه وسمائه.. غرب مُتغول يمارس في حقيقة الأمر دور الحدّاد والجزار في تقطيع أوصال الشعب الفلسطيني على مقاس ومقياس خارطة طريق مُقطعة الأوصال والأنساب بين الابن وأبيه والاخ وأخيه.. ضاربًا بقوة الفيتو الأميركي كل القرارات الأممية وغير الأممية قاطبة، ولا يقبل بآي فلسطيني في حقيقة امر المحتل الصهيوني الغاشم على أي شبر من فلسطين المحتلة والا مصيره الموت على سرير التسويات الخادع والمخادع بالقوة الأميركية وحلفها الناتو الذي لا تتحرك حاملات طائراته وبوارجه إلا لحماية وديعته الصهيونية..!

 نعم، غرب لا تتحرك حاملات طائراته، وبوارجه، وصواريخه الذكية، وأطنان قذائفه الفسفورية الموجهة.. إلا من أجل حماية وديعتهم الإسرائيلية الصهيونية “السامية” في الشرق الأوسط على أرض (كنعان الفلسطينية) المُغتصبة.. والتفنن في حشر الشعب الفلسطيني على سرير التسويات، والخيانات، والمد، والقتل والتقطيع على أعلى المقاييس والمواصفات الأوروبية والاميركية الغير إنسانية والغير أخلاقية.. هيا بنا نقذف بهذا السرير خارج أذهاننا بكل حواسنا الخمسة.. هيا نتعلم أن للشعوب مقاسات وموازين تعجز عنها الجبال الشاهقات و أوتادها.. تعجز عنها “ثقافة” من يتعاطى مع الشعوب على أنها مجرد أرقام حسابية في الآلة الضاربة والآلة الحاسبة!!!

 لقد كذب فيما كذب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو  عن “نبوءة إشعياء” خلال خطاب متلفز يوم الأربعاء 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كذب قائلًا: “نحن أبناء النور بينما هم أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام” وكأن إسرائيل هي أهل النور الذين يجب أن ينتصروا على أهل الظلام أي الفلسطينيين، في السياق الجيوسياسي الحالي. وأشارت تقارير صحفية إلى أنه قال ذلك لتبرير سعيه إلى “تدمير” حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، أو بالأحرى كما (أعتقد واؤمن) تدمير وتفريغ قطاع غزة عبر أكثر من (ترانسفير) إلى عدة مناطق من أجل تلزيم (حقول الغاز) و (قناة بن غوريون) و (غزة مارينا) ودفن (إتفاقيات الدولتين) عميقًا تحت أنقاض غزة. وأضاف نتنياهو “سنحقق نبوءة إشعياء، لن تسمعوا بعد الآن عن الخراب في أرضكم، سنكون سببا في تكريم شعبكم، سنقاتل معا وسنحقق النصر”.

 أشعيا، أو “الرب يخلص” أو “النبي العظيم”  الذي تنبأ بيهوذا في أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا – ملوك يهوذا كما يحاول البعض تصويره وتصويرهم وتقديمه وتقديمهم وتسويقه وتسويقهم في المعاجم السياسية تاريخيًا.. لقد أجتهد من سرق تلمود البابليين والتوراة الكنعاني وجعل من أشعياء “الافتراضي” أعظم أنبياء العهد القديم قاطبة.. أشعيا صاحب ” الأسفار ” الغير مثبتة علميًا وتاريخيًا من أسفار “صعود أشعيا” كما يدّعون.. وصولًا إلى أسفار “رؤيا أشعيا”.. والتي لم يجدوا لها مستندًا تاريخيًا واحدًا سوى في مخيلة “المرضى النفسيين” في التفسيرات والاستخدامات السياسية والإبادة الجماعيه للشعب الفلسطيني من النكبة إلى النكبة.. وغزة اليوم، شاهدة حية على هذه المحرقة اليومية.. وشهيدة حية لا تموت.

 وفي حين يهدد ويتوعد ويكذب نتنياهو مستخدمًا نبوئة أشعيا كشف محلل الشؤون العسكريّة في القناة الـ 12 بالتلفزيون العبريّ، النقاب عن أنّ الحرب على غزّة ستستمِّر على الأقّل سنة، الأمر الذي يخلط الأوراق من جديد، فيما حذّرت أوساط إسرائيليّة مطلعة جدًا من أنّ دخول إسرائيل في وحل العدوان على غزّة سيؤثّر سلبًا على فرص الرئيس الأمريكيّ جو بايدن بالفوز في الانتخابات الرئاسيّة القادمة، علمًا أنّ منافسه الجمهوريّ، الرئيس السابق، دونالد ترامب، يتقدّم عليه كثيرًا، بحسب الاستطلاعات التي تُنشر بالولايات المتحدّة الأمريكيّة يوميًا. وتابعت المصادر عينها قائلةً إنّ هذا هو أحد الأسباب المهمة التي دفعت الإدارة الأمريكيّة إلى مطالبة الحكومة الإسرائيليّة بإنهاء العملية العسكريّة ضدّ غزّة خلال أسابيع كأقصى حدٍّ، كما صرحّ بذلك وزير الخارجيّة، أنتوني بلينكين التي ( انقسمت وزارته ) مؤخرًا بين مؤيد لإدارة الرئيس بايدن وبين معارض.

 

وقد كشف موقع أكسيوس عن مذكرة داخلية في وزارة الخارجية الأميركية معارضة للرئيس بايدن تتهمه بـ”نشر معلومات مضللة” عن الحرب على غزة، وتعتبر أن إسرائيل ترتكب “جرائم حرب” في القطاع، وفقًا لنسخة من المذكرة حصل عليها الموقع الأميركي. وأشارت المذكرة -التي وقعها 100 موظف في وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية- إلى أن دعم بايدن لإسرائيل جعله “متواطئًا في الإبادة الجماعية” في غزة، ما يكشف عن عمق الانقسامات داخل الإدارة الأميركية. واعتبرت أن الإجراءات الإسرائيلية -التي شملت قطع الكهرباء والحد من الإمدادات الإنسانية وتنفيذ هجمات أدت لنزوح مئات الآلاف من الفلسطينيين – تشكل “جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي”.

 ومنذ بداية الحرب أكدت واشنطن مرارا دعمها لإسرائيل وأرسلت حاملات طائرات إلى المنطقة وعتادا عسكريا لتل أبيب، إضافة إلى تخصيص مساعدات مالية بمليارات الدولارات. ولليوم الـ39، يشن الجيش الإسرائيلي حربا مدمرة على غزة، خلّفت 11 ألفا و240 شهيدا، بينهم 4 آلاف و630 طفلا، و3 آلاف و130 امرأة، فضلا عن 29 ألف مصاب، جلهم من الأطفال والنساء، وفقا لمصادر رسمية فلسطينية مساء الاثنين هذا دون ذكر حجم الدمار الشامل الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الحروب في مدة زمنية لم تتجاوز الأربعين يومًا في أكثر مدينة مزدحمة بالسكان الذينا مازال الآلاف منهم تحت الأنقاض بإسم مصالح رأس المال وكذبة الديمقراطية والأنظمة الغربية المنتحلة صفة.

 

“يقيسُ الجنودُ المسافةَ بين الوجود وبين العَدَمْ بمنظار دبّابةٍ… نقيسُ المسافَةَ ما بين أَجسادنا والقذائفِ بالحاسّة السادسةْ”… بعد مرور أربعين يومًا على تدمير غزة وقتل نسائها وأطفالها وشيوخها تخرج غزة من تحت الأنقاض شهيدة ترزق وتقاوم.. بعد مرور أربعين يومًا على تدمير أبنيتها وبيوتها وحدائقها ومراكبها وقبورها تخرج غزة من تحت الأنقاض شهيدة حية ترفع أنقاضها.. بعد مرور أربعين يومًا على تدمير مستشفياتها ومساجدها وكنائسها ومدارسها وملاجئها تقوم عنقاء الرماد الفلسطينية من الرماد وتبصق في وجه جلادها.. تقوم من تحت الأنقاض وتدفن أطفالها ونسائها وشيوخها وتبصق ثانية في و جه جلادها.. غزة لا تموت، غزة تُحني شعرها ويداها يوميًا.. تزرع القمح والحنطة والعزة والكرامة على قبور أطفالها والأنقاض والركام!

 غزة تولد من غزة واقفة.. تسير في غزة واقفة.. تقاتل وهي واقفة.. تحدق في الشمس واقفة.. غزة كل يوم قيامة وقيامة بعد القيامة.. غزة الليل الطويل الطويل تصنع فجرها الجديد.. غزة  العزة والكرامة تُدفن في غزة واقفة.. تقوم من موتها وهي واقفة.. تقوم وتقوم وتقوم واقفة كي تختبر القيامة في أيام القيامة هذه.. غزة تخاطب العالم على لسان أبنائها وصمود أبنائها – أبناء فلسطين كل فلسطين من البحر إلى النهر.. تخاطب العالم وهي واقفة تقاتل بلحمها الحي ولحمها الميت: “لم يبق بي موطئ للخسارةِ: حُرٌّة أنا قرب حريتي.. وغدي في يدي… سوف أدخل عمَّا قليلٍ حياتي.. وأولد حُرّة بلا أبوين، وأختار لاسمي حروفًا من اللازوردْ… هنا، عند مرتفعات الدُخان، على درج البيت.. لا وقت للوقت.. نفعلُ ما يفعلُ الصاعدون إلي الله: ننسي الأَلمْ”.

 في إحدى المقابلات سُئل محمود درويش عن كيفية قراءته للتوراة فأجاب بأنه “لا ينظر الى التوراة نظرة دينية وانما يقرأها كعمل أدبي وليس دينيًا أو تاريخيًا”. وهنا يكون شاعر فلسطين قد وضع قدمه على المسار الصحيح في التعامل مع الكتاب المقدس خصوصًا والأديان والميثولوجيا عمومًا، حيث بامكاننا القول أنه ينتمي الى مدرسة المُقلّين التي ينتمي اليها أصحاب “كوبنهاغن” وعلى رأسهم أستاذ الكتابيات “توماس تومسون”. وهذا المسار يجعل من شاعر فلسطين مثقفًا وأديبًا بإمتياز كون الأدب يبدأ من (ملحمة جلجامش) حيث بدأت الحضارة في (سومر)، وما الأدب سوى إعادة إنتاج (الميثولوجيا) باستمرار، إنه إعادة التأليف أو التوليف.

 حيث إن التوراة بالنسبة لمحمود عمل أدبي كنعاني يُعيد توليف الحكايات الكنعانية إياها مع التركيز على نفس الثيمات أو التطبيقات والموتيفات أو الصور النمطية الأدبية التي كانت وما زالت تشغل الحيز الأكبر من فكر الإنسان وإنتاجه الديني الجمعي، إلا أن الشاعر يرفض خطف هذا الأدب البابلي والكنعاني من قبل جماعة دينية معينة، لذلك استخدم كلمة “أنقاض الهياكل” وما يعنيه ذلك من إنهيار عملية الخطف هذه وانفضاح أمرها، مع الإشارة الى ما تحمله الكلمة من عمل أركيولوجي.

 هذا يأخذنا إلى ان استضافة محمود درويش لإرميا وأشعيا في بعض قصائده آلتي تعني في ما تعني رفضه للعسكرة والحروب المقدسة التي تشن بإسم الدين والآلهة تماماً كما رفض إرميا وأشعيا الحروب. وكما في تناص سابق مع إرميا في إحدى قصائده يعقد الشاعر هنا تناصًا بين سقوط أورشليم وبين حصار بيروت، ففي كلا الحالتين دفع الفلسطيني الثمن، لهذا ( يدعو ) شاعر “حجر كنعاني في البحر الميت” النبي إشعيا أن لا يرثي أورشليم كما فعل في سفره الافتراضي بل يدعوه الى أن يهجو أورشليم الآثمة (حسب أشعيا) التي تسببت بإثمها بتعليق اللحم الفلسطيني مرتين (حسب محمود)، مرة في زمن أشعيا، ومرة في حصار جيش الاحتلال “الأورشاليمي” لبيروت في إجتياح 1982 وارتكاب الإبادة الجماعية في أكثر من مدينة ومخيم… “كي أحبك مرتين”!

 يقول شاعر فلسطين لأصحاب المشروع الاستيطاني الامبريالي الصهيوني الإسرائيلي الغاشم: هذا هو آخر الكلام عندي:

 هذا البحرُ لي هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي هذا الرصيفُ وما عَلَيْهِ من خُطَايَ وسائلي المنويِّ لي.. ومحطَّةُ الباصِ القديمةُ لي.. ولي شَبَحي وصاحبُهُ.. وآنيةُ النحاس وآيةُ الكرسيّ، والمفتاحُ لي والبابُ والحُرَّاسُ والأجراسُ لي.. لِيَ حَذْوَةُ الفَرَسِ التي طارت عن الأسوار… لي ما كان لي. وقصاصَةُ الوَرَقِ التي انتُزِعَتْ من الإنجيل لي… والملْحُ من أَثر الدموع على جدار البيت لي… ولي جَسَدي المُؤَقَّتُ، حاضراً أم غائباً… ولي ما كان لي: أَمسي، وما سيكون لي غَدِيَ البعيدُ، وعودة الروح الشريد كأنَّ شيئا ً لم يَكُنْ… وكأنَّ شيئاً لم يكن… جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العَبَثيِّ… والتاريخُ يسخر من ضحاياهُ… ومن أَبطالِهِ… يُلْقي عليهمْ نظرةً ويمرُّ… هذا البحرُ لي… هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي… واسمي – وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت – لي !

Visited 7 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمود القيسي

كاتب لبناني