بين روح الدّين والإيمان الحرّ (حلقة 2)
لحسن أوزين
أوّلا: روح الدّين لطه عبد الرحمن أو التّستّر على صندوق التّوحش
*من العداء للسّياسة/الإنسان إلى الانتصار للعبد الآدميّ الدينيّ
إذا كان العمل الديني ينبني على الفطرة الّتي تتحدّد بها الرّوح والّتي هي بمنزلة الذّاكرة الغيبيّة للإنسان، فإنّ العمل السّياسي ينبني على النّسبة الّتي تتحدّد بها النّفس”. 2
انطلاقا من عنوان الكتاب وعبر صفحاته الّتي تتجاوز الخمسة مائة صفحة ينصب المؤلّف فخاخه ليصطاد المتعبين الّذين أرهقهم عبء المتخيّل الدينيّ التّاريخي الموروث كالشّفرة الوراثيّة من خلال آليّة القصص الدينيّ الأسطوريّ المسيّج بالقداسة الإلهيّة. يوهم قارئه بأنّه المنقذ من الضّلال والتّعبد للطّاغوت المتجسّد في العلمانيّة كنظام سياسي يمثّل سطوة النّفس واستبدادها إلى حدّ الطّغيان المولّد للطّاغوت الممانع والقاهر للرّوح في قمع بروز انطلاقها الرّحب الواسع في عالم الملكوت الغيبيّ منزّلا في العالم الأرضيّ المرئيّ.” باعث الفاعل السّياسي على العمل هو نقيض الباعث الّذي يدعو الفاعل الديني إلى العمل، فهذا باعثه حبّ التّعبد، وذاك باعثه حبّ التّسيّد، وما هذا الفرق التّقابلي بين الباعثين إلّا أاّن الفاعل الديني يستمدّ حبّه للتّعبد من الذّاكرة الفطريّة الّتي أودعت في روحه وهو في عالم الغيب، ملاحظا تنزّل هذا العالم على عالمه المرئي، أمّا الفاعل السّياسي، فإنّه يستمدّ حبّه للتسيّد من نفسه الّتي تكوّنت في عالم الشّهادة، والّتي قد تخالف نوازعها معاني الفطرة، إن نقضا لها أو حرفا عنها، طامعا في تنزّه عالمه المرئيّ.”3 كتاب روح الدّين لا يتستّر في خطابه على عدوانيّة شرسة في حقّ كينونة وصيرورة الإنسان في نشأته وتكوّنه وتطوّره، في تحوّلاته وثوراته، في الإنطلاق بما يسمح به الفعل الخلاّق المبدع للعقل الإنسانيّ. يجرّد روح الدّين الأفراد والجماعات والمجتمعات من أرضيتها الماديّة الحيّة في صراعاتها السّياسيّة الاجتماعيّة ليحوّلها إلى قطيع من العبيد، أي مجرّد جثث بأقنعة دينيّة فاقدة لقيمتها وحصانتها الإنسانيّة غارقة في عوالم هلاوس العروج والتّرفع عن كلّ أشكال الفعل السّياسي، باعتباره من تسلّط النّفس النّاسبة والنّزاعة نحو تحقيق سيادة الإنسان كشرك طاغوتي يتماهى مع السّيادة الإلهيّة، وفي ذلك منع وقمع لربط الاتّصال بالذّاكرة الفطريّة لانبعاث الرّوح الدينيّة وصحوتها من سباتها وغفلتها، ثمّ تحرّرها من أسر العالم الأرضيّ الملوّث بجنون السّياسيّة في حبّ المال والتّملك والملك، وفي حبّ الجاه والسّلطة والاستئثار بالحكم القهريّ الطّغيانيّ، إلى درجة تضييق الخناق على عالم الرّوح. كتاب روح الدّين في كراهيته إلى حدّ العدوانيّة الشّرسة للعلمانيّة يكفّر السّياسيّة ويعتبرها رجسا وشرّا من عمل الطّاغوت،” حتّى لو قدرنا أن الفاعل السّياسي هو من الخاصّة المتفانيّة التّي نذرت نفسها لخدمة الصّالح العامّ والدّفاع عن القضايا العادلة، فلا يقين في أنّه يقدر على الوفاء بنذره على الوجه الّذي ينبغي، وذلك لما ذكرناه، من قيام العمل السّياسي على النّسبة النّفسيّة.”4 وبالتّالي فالفاعل السّياسي لا مكان له، ولا مكانة له في عالم روح الدّين وهو ينزل العالم الغيبي في العالم المرئي. وفي هذا الرّفض المطلق للسّياسة والفاعل السّياسي هو في حقيقته الايديولوجيّة السّياسيّة رفض للتّصور العلمانيّ لتدبير الحياة الاجتماعيّة السّياسيّة الاقتصاديّة والثّقافيّة، إنّه رفض للعصر والتّطور الحضاريّ الانسانيّ وما نعيشه في تحدّياته وإكراهاته، في مخاطره وفرصه العظيمة الّتي يمكن أن تشكّل إمكانيّة الحضور والفعل والانخراط في القيم الانسانيّة الّتي تطرح نفسها بشكلّ ملحاح.” الممارسة السّياسيّة الحديثة اضطرت، بعد انفصالها عن الممارسة الدينيّة، إلى أن تتّخذ لنفسها عبادات خاصّة تسدّ مسدّ العبادات الدينيّة، قد يأتي في مقدمة هذه العبادات السّياسيّة ما يمكن أن نسميه بعبادة المواطن إذ رفع المواطن إلى رتبة مثال أعلى يجمع إلى اتّساع الحقوق اتّساعا الفضائل، أي رفعت المواطنة، في نهاية المطاف، إلى رتبة المعنى الغيبي الّذي يستحق أن يتعبّد به وله.”5 هكذا باسم الدّين يتمّ الهجوم على القيمة الإنسانيّة الّتي يصعب أن يرى فيها الإنسان في كلّيته، رافضا الاعتراف بالانسان، أو تمثّل القيم الاجتماعيّة والثّقافيّة الانسانيّة الحديثة في السّمو بالفرد إلى مستوى الإنسان متحرّرا من آدميّة العبوديّة الدينيّة. لكن للأسف روح الدّين ليس مشروعا سياسيا اجتماعيا اقتصاديا، ولا يعدّ عبيده الأتباع بأي مشروع مجتمعي في أفق التّمكن العلميّ والاقتدار العقليّ المعرفيّ والإيمانيّ في حدود العقل الانسانيّ، بل يحرم ويجرم السّياسة، والتّفكير العقليّ الحرّ لغرض في نفس صاحب كتاب روح الدّين وليس في ذاكرته الفطريّة الروحيّة، هو السّطو على العالم الدنيويّ باسم العالم الغيبيّ. ولا يمكنه تحقيق ذلك إلّا من خلال الهجوم العنيف على شكل الحياة الّذي نعيشه وبالتّالي الهجوم على حقّ الانسان في أن يكون حرّا فاعلا صاحب إرادة مستقلّة في اختياراته وتقرير مساراته ومصيره، وفي جرأته في استعمال عقله وجسده وعيش حياته وموته بعيدا عن أيّة وصاية أبويّة وسياسيّة ودينيّة…، وهو بالتّالي يرمي من وراء هذا الهجوم إلى التّنكر للحياة الحديثة كشكلّ علمانيّ بشكلّ أو بآخر لانتظام الاجتماع الانسانيّ الحداثيّ، فبإلغاء السّياسة لن يكون هناك أي مبرّر للحديث عن فصل الدّين عن السّياسة. مقرف جدّا هذا التّحايل الإيديولوجي السّطحي في إلغاء وتكفير السّياسة باسم الإيديولوجيّة الدينيّة” أضحى أهل الدّين أنفسهم، على غيرتهم وخوفهم على معتقدهم، يسلّمون بصحّة هذا الفصل، فيرون رأي العلمانيين فيه: فلا دولة دينيّة ولا أحزاب دينيّة ولا نقاشات عامّة دينيّة ولا جمعيات دينيّة، ناهيك عن برلمان ديني، فالدّين لا حقّ له في أن يرى، لأنّ السّياسة تستأثر وحدها بهذا الحقّ.”6 فانطلاقا من هذه الأرضيّة يخوض حربه بخلفيات نكوصيّة لسرديّة منهكة بفعل ضربات حركة التّطور التّاريخي في صيرورتها الّتي لا تهدأ في تكذيب الكثير من الحقائق المطلقة النّاجزة والجاهزة كمتخيّل سردي لحدود ومحدوديّة واقع الملّة البائد. أقول يخوض حربه ضدّ العلمانيّة من خلال تكفير السّياسة وجعلها وثنا وشركا وضلالا وطاغوتا…، لأنّها تؤدّي في نظره إلى نسيان الدّين، دون أن ينتبه إلى أنّ الأمر متعلّق بانفتاح الأفق الإنسانيّ على الانتهاك والاختراق لسقف الحدود. منذ البداية تتّضح عند طه عبد الرّحمن معركة الدّفاع عن روح الدّين كغطاء إيديولوجي للسّيطرة والهيمنة السّياسيّة باسم العالم الغيبيّ والحاكميّة والسّلطة الإلهيّة، حيث تنتفي السّلطة السّياسيّة البشريّة بالاجهاز عل كلّ الادوات السّياسيّة: الدولة، المؤسسات الاجتماعيّة والسّياسيّة، الحريات الفرديّة في اختيار الشكل الذّاتيّ والوجدانيّ والإيمانيّ، والتّفكير في الأنا والآخر كمشاريع وجوديّة مستقبليّة رهينة بإرادة وحريّة النّاس في اختيار أنفسهم ونمط حياتهم وفقا لتطلّعاتهم وطموحاتهم ورغباتهم وميولهم…
فخطاب روح الدّين ينتظم نفسه كنظام خطاب سياسي مقنّع بدعوى دينيّة. وككلّ خطاب ديني لحرّاس المتخيّل السّردي يؤسّس مصداقيته وشرعيّة ممارسته في وقوفه النّكوصي على أطلال الملّة والدّين، من خلال الدّفاع عن المعتقد، وهو ينسبه إلى نفسه إلى درجة التّملك ليكتسب جدارة الأسطرة والقداسة الكماليّة والمثاليّة الّتي تخوّله رسم مسارات الأفراد والجماعات كحيّزات مجتمعيّة أقرب إلى عوالم الكيطو، ووصم الاختلاف الديني والمذهبي والفكري بالدونيّة والتّبخيس والكفر والإلحاد لكونهم يتعبّدون للطّاغوت، حتّى ولو كانوا مسلمين في طقوسهم وشعائرهم. ذنبهم الوحيد أنّهم يؤمنون بالنّظام السّياسيّ العلمانيّ الحداثيّ، ويسعون للفعل والإسهام الحضاري في نادي الإنسانيّة، وهم بذلك في انحراف عن الصّراط المستقيم الّذي يحدّده فكر روح الدّين وفق مقولات وقواعد هي أشبه عنده بالمسلّمات الفطريّة الّتي تلقّاها من العالم الغيبيّ، في نوع من التّماهي بكونه وحيا منزّلا، أي مسلّمات تشتغل كقوانين وآليات تكفّر كلّ ما له صلة بالسّياسة، الدّولة، العقل، الفكر، الحريّة، والتّدبير البشريّ في حدود العقل للحياة المجتمعيّة. ينكلّ بكلّ هذا الواقع الحيّ ليخلو المجال للفاعل الدينيّ بشكل أحادي استبدادي طغياني في خنق مستويات الواقع السّياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة في دوائر تزداد ضيقا وتضييقا في عالم العروج كآليّة لهدر الإنسان في وجوده وطاقاته، في حريّته وجسده وفكره…،” فوضع الحكم الديني وضع الواجب المثالي الّذي يعيد بناء الواقع القائم على وجه أفضل، وإذا تقرّر هذا ظهر أنّ الحكم الديني يتّسع لما لا يتّسع له هذا الواقع، إذ ينطوي على مكنونات إنشائيّة لا ينطوي عليها، ويفتح فيه آفاقا إصلاحيّة لولاه لكان يضيق عنها، ثمّ إنّه يحمل من قابليّة التّعميم ما يجعله لا يختصّ بمجتمع محدّد، وإنّما يشمل مجتمعات مختلفة، كما أنّه يحمل من قابليّة التّكييف ما يجعله لا يتعلّق بزمن واحد بعينه، وإنّما يستوعب أزمنة متتالية”7. لذلك يروّج لثقافة العبيد والاسترقاق الدينيّ السّياسيّ من خلال هجومه العنيف على الحياة الدنيويّة البشريّة وما وصل إليه الشّرط الإنساني في تطوره الحضاريّ، مطالبا بضرب عرض الحائط بكلّ المفاهيم الانسانيّة الحديثة في التّنظيم والتّفكير السّياسي الاجتماعي البشري، لكونها تتناقض مع العالم الغيبيّ كما هو منزّل عند طه عبد الرحمن على العالم المرئي. إلى جانب رفضه كلّ أشكال الحياة الّتي تعبّر عن فعل وحريّة وطموحات الإنسان في عيش الحياة السّياديّة الحرّة والمتحرّرة من الأحكام الدينيّة والسّياسيّة، أجل عيش الحياة بكلّ تناقضاتها، بما فيها من أفراح وأحزان، ومتعة وصحة ورفاه مشبع بأمل العيش الصّحيّ النّفسيّ والجسديّ والماديّ والرمزيّ الكريم والحياة السّعيدة، الآن هنا، بعيدا عن ثقافة العنف والإرهاب والخوف والابتزاز السّياسيّ والدينيّ والاقتصاديّ…، وفي كلامه وضوح لا يحتاج إلى الكثير من الشّرح والتّأويل:
“السّيادة وقد بلغوا من قوّة التّعلق بها أن نسبوها إلى المؤسّسات والشّعوب والأفراد، وجعلوا طلبها علامة على تحمّل الإنسان أمر تدبير شؤونه بنفسه، مع إيهامه بأنّه قادر على أن يبسط سلطانه على العالم المرئيّ بسط الإله لسلطانه على العالم الغيبيّ، قسمة بينهما، ولما جاوز هذا التّعلق حدّه، واضعا السّيادة في غير موضعها، كان لا بدّ أن تنقلب هذه السّيادة إلى عبادة في غير موضعها، جاعلة الإنسان يتسلّط ويتألّه، متعبّدا لنفسه، فضلا عن تعبيده لغيره”.8
فالكتاب من أوّله إلى آخره يلجأ عمدا إلى هذا التّلازم البنيويّ في الأفكار حين يربط حديثه عن الدنيويّ بالدينيّ، السّيادة البشريّة بالسّيادة الإلهيّة، العالم المرئي بالعالم الغيبيّ، وفي ذلك يبلور نوعا من الاستخلاص المنطقيّ المسيّج إلهيا بطريقة تخفي سطوة الفكر البشريّ في تكريس البضاعة الميتافزيقيّة:” السّيادة عبادة، الإنسان يتألّه، متعبّدا لنفسه وتعبيدا لغيره”9. إلى أن يجزم بأنّ ما يسود هو عبادة للطّاغوت، ومنبع الشّر عنده “نفس الإنسان الّتي تجعله ينسب كلّ شيء إلى ذاته” وتورّطه في الاستبداد والاستعباد والظّلم وانتحال السّيادة الّتي هي ” في الأصل، حقّا غيبيا لا يملكه إلّا الإله الحقّ، جلّ جلاله”. 10 ولا مخلّص له من شرور النّفس/السّياسة إلّا من خلال الرّوح الّتي تمكّنه من استعادة ذاكرته الأصليّة الّتي فطر عليها في عالم الغيب قبل أن يولد، باعتماده آليّة العروج في مراتبه المتعدّدة، وهذا ما لا يستطيعه إلّا الفاعل الديني في القضاء على شرّ النّفس/ السّياسة. لهذا لا يستقيم الحديث عن وصل أو فصل الدّين عن السّياسة لأنّها شرّ ينافس السّيادة الإلهيّة، ويفسح المجال لسيادة الطّاغوت، ويفسد غاية الخلق في التّعبد لله. هكذا يورط قارئه في نوع من الشّطح الخيالي الصّوفي ممارسا التّنسيب الّذي يراه شرّا في النّفس المسكونة بهاجس التّملّك والملك وحبّ التّسيّد والقهر، والقامعة لبروز الرّوح، حيث أنّ كتابه في فكره الضّمني والصّريح يحمل دلالات التّنسيب لنفسه كقدرة التّفسير والشّرح وإدراك ورؤية ما يقبع في العالم الغيبيّ، وطرح وتوضيح آليّة التّنزيل، كما لو أنّه عاش تجربة العروج وأحاط بكلّ جوانبها الغيبيّة في البحث عن الكمال الأخلاقيّ. وكلّ هذه الهلوسة الدينيّة لغرض السّطو على معتقد النّاس وحشرهم في الزّاوية الضّيقة للأتّباع والعبيد، حيث يستحيل الحديث عن المؤمن، لأنّ الإيمان لا يمكن أن يكون جماعيا، فهو إمّا أن يكون فرديا أو لا يكون. لذلك هناك فرق بين الأتباع والمؤمن الّذي لا يكون في حاجة إلى جدليّة الشّيخ والمريد. ولا تفلح إستراتيجيّة الكتابة في كتاب روح الدّين في إخفاء تحايلها الإيديولوجي، أي بناء الأرضيّة الشّرعيّة الدينيّة للهجوم من جهة على الفاعل السّياسيّ بشكل عامّ، والوصم السّيء للسّياسة باعتبارها شرّا من عمل النّفس الأمّارة بالسّوء والكفر والتّعادي والطّغيان،”إنّ التّنازع السّياسي ليس له مجال خاصّ يستقلّ به، حتّى إذا خرج عنه لا يعدّ سياسيا، بل كلّ مجال، إقتصاديا كان أو ثقافيا أو دينيا أو أخلاقيا، يمكن أن يتحوّل التّنازع فيه إلى تنازع سياسي مهما أصبح ينزل رتبة التّعادي، فحيثما وجد التّعادي، فثمّة سياسة، وفائدة هذه النّتيجة أنّها تشكّك في بداهة التّصور السّائد الّذي يخصّ السّياسة بمجال تدبير الشّأن العامّ”.11
ومن جهة أخرى إفساح المجال للفاعل الدينيّ وحده للسّيطرة والهيمنة على شؤون الأفراد والجماعات والمجتمع، من خلال ما يسمّيه آليّة التّشهيد لتنزيل السّلطة الإلهيّة في العالم الدنيويّ بفضل النّشاط الدينيّ التّعبديّ، بعيدا عن النّشاط السّياديّ العلمانيّ. هكذا يريد أن تنتصر المفاعيل السّرديّة للمتخيّل الدينيّ في هدر القيمة الإنسانيّة في الكينونة والصّيرورة، والزّج بالإنسان في قوقعة ميثاق العهد الآدميّ بين العبد والله، بين العبد والسّيد، بين المريد والشّيخ، بين القطيع والرّاعي…، هكذا يرسم سعة الإئتمانيّة المخلصة من ضيق العلمانيّة.
وكما قلنا سابقا صاحب روح الدّين يصفّي حسابه مع السّياسة حتّى لا يستقيم أي فكر ولا أي حديث يتعلّق بانتظام خطاب سياسي حول ضرورة فصل الدّين عن السّياسة في الدّولة وأدواتها السّياسيّة والإيديولوجيّة، وهو في ذلك يستهدف حريّة وقيمة وحصانة الإنسان في عيش إنسانيته بعيدا عن أسره في آدميته الدينيّة الّتي لم تعد قادرة على أن تكون مطيّة في واقعه الحيّ الرّاهن، فكيف لها أن تكون وسيلة للعروج بحثا عن كمالات العالم الغيبيّ، كما يزعم روح الدّين، وهي تغيّبه كفرد لتكرّس استرقاقه كعبد؟ وبعبارة واحدة لم يعد بإمكان آدميته الدينيّة لميثاق العهد المتوهّم في بحر العدم الغيبيّ أن تفيده في أي شيء يخصّ معطيات حياته الرّاهنة، وما تطرحه من مشكلات وتحدّيات ومخاطر وفرص في إمكانيّة نشأة مستأنفة للانطلاق الحرّ والعقلانيّ لحريّته وانفتاح طاقاته بما يجعله مؤهّلا للانخراط والإسهام في العطاء الفكريّ والفلسفيّ والثّقافيّ الانسانيّ، بما يتجاوز عتباتنا المقدّسة في الدّين والهويّة والملّة وذاكرة متخل الماضي الأسطوري. وهذا العطاء يتطلّب فردا حرّا لا عبدا تابعا.” الفاعل الّذي يشهد أنّ الإله واحد لا شريك له ملزما بأن يتعبّد له بما أناطه به من التّكاليف، وما افترض عليه من الأعمال، أمّا إذا اشتغل بعبادته على مقتضى تكاليف وأعمال يضعها من عنده، فإنّه يجعل من نفسه إلها مثله، بل أدهى من ذلك، يجعل نفسه أحقّ بالألوهيّة منه، مادام قد استقلّ بالتّشريع من دونه، ومن يشرع لنفسه، مستغنيا عن ربّه، لا يعبد إلّا نفسه.”12 هكذا يضيّق صاحب روح الدّين الخناق على القارئ فيحوّله إلى مجرّد آلة عمياء لا تقوى على انتزاع حريّتها وتقرير مصيرها كأي كان في هذا الوجود البشريّ المحكوم بالصّيرورة باستمرار، حيث كلّ شيء ورشة تأويليّة، لا تعترف بالحقائق النّاجزة والجاهزة والنّهائيّة، والمعنيّة بالسّير قدما في ظلمة الفكر الظّلاميّ بمختلف خلفياته الدينيّة والعلمانيّة. والأكثر من ذلك أنّ صاحبنا لا يقبل بغير طريق العروج، ومن ينحرف عنها فهو عنده متعبّد للطّاغوت، ومن ثمّة تسقط كلّ أفكاره الزّائفة حول حريّة التّدين والمعتقد والاحترام الدينيّ والتّساوي في المعاملة، ليتأكّد استعلاؤه الديني في تفاضل الأديان نوعا وطورا…ثمّ يحكم طوقه على القارئ حين يقول” أحكام الدّين تتعلّق بأفعال الإنسان كلّها وبكلّ الوقائع الّتي لها صلة بهذه الأفعال”71. سالبا من الإنسان شرطه التّاريخي في أن يولد حرّا ويعيش حرّا وفق قدراته وإمكاناته واختياراته المعرفيّة والعقليّة والعلميّة…، إلاّ أنّ روح الدّين في عروجه الغيبيّ عند طه عبد الرّحمن لا يرى في الإنسان سوى مشروع عبد آدمي مهدّد، في أيّة لحظة في جرأة ممارسة عدم قصوره العقليّ، بالتّعدي على حدود حرّاس العقيدة والملّة، وبالتّالي فهو متّهم إلى أن تثبت براءته في عدم وقوعه في سياسة التّعبد للطّاغوت.” إنّ الاجتزاء ببعض الأحكام الدينيّة يوقع صاحبه في التّعبد للطّاغوت، ذلك أنّ هذا الاجتزاء يكون مبنيا على التّحكم والتّشهي مهما ادّعى صاحبه من معقوليّة أو موضوعيّة أو واقعيّة فيما أورده من الاعتبارات المصلحيّة والمسوغات الظرفيّة، فيلزم أن يكون، في هذا الاجتزاء المتشهي، متّبعا لهواه، جاعلا منه إلها يتعبّد له طواعيّة من دون الإله الحقّ، وهو وحده الّذي أحاط بكلّ شيء علما ووضع لكلّ شيء حكما”14.
********
الهوامش:
يتعلّق الأمر هنا:
بكتاب فتحي المسكيني: الإيمان الحرّ أو ما بعد الملّة، ط1، 2018، مؤمنون بلا حدود.
وكتاب طه عبد الرّحمن: روح الدّين، ط4 ،2017، المركزالثّقافي العربي.
- روح الدين، ص80.
- ص92.
- ص94.
- ص102و103.
- ص 103.
- ص23.
- ص 82.
- ص 25.
- ص26.
- ص 25.
- ص 141.
- ص55.
- ص 71.
- ص 74.