سلطة الخيال الخلاق في نتاج هنري كوربان
كاركاسون – المعطي قبال
مرت 120 عاما على ولادة الفيلسوف، المترجم والمستشرق هنري كوربان. كان الوسيط والممهد بتعريف لكبار الفلاسفة الألمان لدارسي وقراء الفلسفة في المشهد الفلسفي الأوروبي مثل هايدجر، نيتشه قبل أن يتجه للبحث والانخراط في الفكر الصوفي وبالأخص منه الإيراني وعلى رأسه جلال الدين الرومي، الملا صدرا، روزبهان البقلي وغيرهم… زرع في اللغة الفرنسية شحنة مفاهمية غيرت بالكامل طروحاتها ومنظوماتها وقربتها من المتن الفلسفي الألماني. ولا زالت هذه المفاهيم إلى اليوم مادة نقاش يعود إليه كل من اشتغل أو يشتغل على التصوف أو الفكر الفلسفي. بعد عدة إقامات بألمانيا، اشتغل خلالها على أعلام فلسفية جديدة، ترجم كتاب هايدجر «ما الميتافيزيقا؟»، بعدها قام بتحقيق وتفسير وتأويل أهم النصوص الصوفية لكبار المتصوفة الإيرانيين مثل روزبهان البقلي، ملا صدرا الشيرازي، السهروردي، ابن عربي الخ… ويرجع الفضل للمستشرق لويس ماسينيون في تكوين كوربان وتوجيهه نحو الفكر الإيراني وبالأخص نحو السهروردي.
بعد إقامته بتركيا عاد إلى فرنسا ليشغل نفس المنصب الذي كان ماسينون مكلفا به بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا. تطابقت هذه الحقبة مع تنظيمه لحلقات دراسية وترجماته لنصوص صوفية غير منشورة. وكان بذلك أحد الذين أدخلوا الفكر الصوفي الإيراني من بابه الواسع وكونوا جيلا من الباحثين. ويذكر أن أحد الباحثين الفلاسفة والمفكرين الذين كانوا نبراسا لأبحاثه هما سيد حسين نصر وكارل غوستاف يونغ.علاوة على دراسته تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجم كوربان عن الفهلوية «كتاب النصائح لزرادشت». كما ألف«كتاب الرؤية الاستشراقية للفلسفة الاسلامية» وغيرها من الأبحاث الأساسية. الهم الذي شغل أبحاث كوربان يتلخص في جدلية الظاهر والباطن، ونجد هذا الحرص لدى أغلب المتصوفة، لكن تعاملهم مع هذه الجدلية تختلف من منظومة فلسفية إلى أخرى، من كيفية التعامل مع الذات ومع الواقع. بحث كوربان في البواطن بدل الظواهر. إنها أيضا مهمة «الولي» في المذهب الشيعي.
بالموازاة مع تنقيباته، نحت كوربان مفاهيم وأنسقة فلسفية تلخص روح التصوف الإيراني. ويبقى كتابه: «في الإسلام الإيراني» (من أربعة أجزاء، صدر عن دار جاليمار، عام 1971) يبقى بلا منازع أكبر وأهم عمل أنجزه كوربان. هذا الإرث تبناه ورعاه بأمانة بعضا من تلامذة كوربان أمثال حيدر امولي، بيار لوري، إيريك جوفروا، وغيرهم.
لكن يبقى من بين أتباع هنري كوربان الأوفياء يبقى الفيلسوف كريستيان جامبي، زوج الفيلسوفة المغربية سعاد عيادة، أحد الفلاسفة الذين يرعون بإخلاص ميراثه الفلسفي. وفي هذا المجال خصص أغلب أبحاثه لتعميق القضايا التي أثارها البروفيسور كوربان. هكذا خصص 5 أجزاء لدراسة نتاج الملا صدرا الشيرازي، فلسفته، نسقه ومنهجيته وعالمه الرؤوي.
آخر بحث أصدره كريستيان جامبي عن منشورات غاليمار يحمل عنوان «الفيلسوف ودليله. الملا صدرا والديانة الفلسفية». ويتناول البحث الحضور الرباني الدائم، الحرية الإنسانية، العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الروحية بعد خاتمة النبوة. ثمة قضايا أخرى عالجها الكتاب تتعلق بالقضايا الفلسفية أو الغنوصية أو القضايا التي تخص الشر والجهل في عالم يفيض بالنور الإلهي. من علامات الجهل، أنه مرت 120 سنة على ولادة هنري كوربان من دون أن يحظى الحدث لا بعناية الوسط الأكاديمي ولا الإعلامي.