ليلة المحاكمة (أوراق من سنوات الرصاص) 2/2
محمد عبد الإله المهمة
أثناء الترافع، يقف الأستاذ أبو الفضل منتصبا، وإن مشى فبخطوات متهادية. يستهل الكلام في دعة الوديع، تم على إيقاع حمولة خطابه، يتصاعد صوت كأنه النهر الجارف، يأتي على كل ما تطفل على ضفافه.
بحكم علاقة الود الكبير التي جمعتني به، كنت أرى في جسارته، أن البذلة السوداء معادلة للمقاومة الباسلة. تجاسر لا يهادن مقاضاة الحق في التعبير وإبداء الرأي في قضايا الوطن. في نهج حكامه، في اختياراته السياسية في طرح البديل السياسي. يجسد كل هذا، ويذكر كل مرة بأن الدفاع كجزء من هيئة القضاء، لا يحفل بغير إثبات العدالة.
أعقبه الفقيد الأستاذ الفقيد محمد خليل الورزازي، الساعد الأيمن للفقيد عبد الله إبراهيم، وصوته الدائم في مبنى الاتحاد المغربي للشغل، قبل أن تنعطف هذه المركزية التاريخية، وبقرار بيروقراطي نحو “خيار الخبز أولا وأخيرا” سنة 1963. استحضر الأستاذ، مثوله هو ومن معه من مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أمام غرفة الجنايات في إطار ما سمي بمؤامرة 1963. حين صرخ بسعة عينين اشتعل بهما الغضب، وبيقين من خبر التعذيب والمحاكم والأحكام، مصرحا: السيد الرئيس، ليس هناك ما يدعو للاعتماد على محاضر فارغة، المحكمة لا تقاضي النوايا حتى وإن كانت صريحة. فأمام القضاء الجالس في هذه المحكمة، لن يؤاخذ المتهم إلا بما يصرح به في حضرتها، لا بما اعتبر فعلا يحوز صفة الشيء المقضي به. وفي لحظة فارقة من مرافعته، ذكر بما صادرته الضابطة القضائية خلال اعتقاله هو ومن معه، من محجوزات ووثائق، من ضمنها عثروا على تصميم للقصر الملكي، وخطة عمل تحدد الأدوار المنوطة بكل فرد، بما في ذلك كيفية التحكم في المداخل والمخارج كما في شبكة الإضاءة الخاصة به، ورغم ذلك قضت في حقهم المحكمة بالبراءة، لأن النية وحدها ليست قرينة كافية لإيقاع الإدانة.
مثل طائر حر، شرع يحلق في علياء المفاهيم والمقاربات والمساطر القانونية. تعالٍ مهني، ترتقي بموجبه الألباب والمشاعر، لدرجة أخجل فيها يقين ممثل النيابة العامة. لما أنهى الأستاذ كلامه، أعلن رئيس المحكمة رفع الجلسة للاستراحة. لم أعد أذكر أنه رفعها للمداولة، أم لاستراحة تمدد الزمن وترك لفعله المباشر احتواء أصداء مرافعة قوية استهدف بها الأستاذ خليل الورزازي ضمير المحكمة. لقد أعلنها ثورة قانونية في وجه تكييف ظالم، رافضا الزج بجيل طموح مؤمن بجدارة الديمقراطية في إرساء حلمه بالعدل وسعيه إلى العدالة. معتبرا أن أنجع بث في أوراق ملف هذه القضية، يكمن في حفظها.
حوكمت “مجموعة مراكش 84″، وكانت المحاكمة درسا بليغا في الترافع وفي النبش في كل ما يتصل بالاجتهاد القضائي، وفي القانون المقارن، والتطرق لما أصدره القضاء، سواء في المغرب أم في خارج المغرب، من أحكام في قضايا و نوازل مماثلة أو قريبة. فالمناسبة شرط، مثل فرصة تعرفنا خلالها على أننا نحاكم أمام قضاء جالس، وأن هيئة الدفاع مكونة من أسرة القضاء والعدالة، وأن لب الترافع يكمن في القدرة على النفاذ إلى ضمير القضاء، والتفاعل مع قناعاته الأولية، والعمل سويا من أجل إقرار إجلاء الحقيقة القضائية التي تجلت لي في لحظات تأرجحها بين إدانة جاهزة وبراءة منشودة، كأنها معلقة بشعرة رأس غزتها الشيب بعدما هدتها نوبات الدهر.
كلمة أخيرة
– بعد إعلان رئيس الجلسة عن انتهاء مرحلة الترافع، توقع الجميع النطق بالأحكام. كنا محتاجين، لتصريح ينهي رتابة رحلات الذهاب والإياب بين سجن ومحكمة. سئمنا من دورات طواف أنهك عائلاتنا وزادهم تعبا، وتكبدت في سبيلها هيئة دفاعنا مضايقات لم تكن ضرورية لو كان الهدف إقرار العدالة لا إيقاع جزاء لتعليل الإدانة.
كان الظرف السياسي عصيبا، فقد شرعت الحكومة في إرساء دعامات ما عرف بـ”التقويم الهيكلي”، مشروع عبئت لتصريفه موارد مادية وبشرية ضخمة على حساب الاستقرار الاجتماعي. من ثمة، تأكد أن السير في طريق مؤازرة “مجموعة مراكش1984” لم تكن سالكة، سواء قانونيا أو سياسيا. ورغم ذلك انخرط في معتركها الساخن محامون يكافحون ضد اليأس، مناضلون من أجل سيادة القانون والحريات، في وحدة متراصة الصف في مواجهة ما كان يجري الترتيب له بعيدا عن مكاتب القضاة، وجلسات مشاوراتهم. وعزاؤهم عدم تأرجح ميزان العدالة.
بناء على أمر من القاضي رئيس الجلسة، شرعنا في التقدم أمام المحكمة، الواحد بعد الآخر. صرح كل واحد بكلمته الأخيرة. لا فرق بين من أعد هذه الكلمة وبين من جعلها ارتجالا من وحي اللحظة. إذ لم يتردد أحد في إدانة الاعتقال، والحجز خارج نطاق القانون، سواء بـ”درب مولاي الشريف” بالدار البيضاء أو بـ”فيلا جليز” مراكش،
من الرفاق من اعتبر اعتقاله استمرارا لاعتقال سابق قضت فيه غرفة سابقة بالبراءة.
اعتبرنا اعتقالنا:
– يندرج في إطار مصادرة حقنا في النضال من أجل مغرب الحريات والديمقراطية
– لم نتنكر بوصفنا تلاميذ لما كنا نخوضه من نشاط ثقافي بأفق تقدمي، كحركيين باللجان الثقافية داخل مؤسساتنا التعليمية، ولا بهويتنا ذات الارتباط بكل ما هو تقدمي
– دافع الطلبة عن شرعية منظمتهم العتيدة (أ. و. ط. م)
– أشادوا بنضالاتها وبتاريخها المجيد
– و كذا فعل الأساتذة، معتبرين اعتقالهم يستهدف مستقبل فعاليتهم في ما بعد الجامعة.
– ترافع الضنين الأستاذ المحامي، محمد اليونسي، وذكر بوقوفه قبل مدة قريبة أمام المحكمة، مؤازرا مناضلي (أ و ط م) المعتقلين سنة 1983، مبرزا دور المحامي في النضال من أجل حماية حقوق الإنسان وحرية التعبير والانتماء والتنظيم.
حضرت كل القضايا، وحضرت في القلب، ضمن المواقف المعلن عنها، القضية الفلسطينية.
رفعت الجلسة
نهض رئيس الجلسة، وقف محاذيا أريكة جلدية وثيرة، وشرع يتأمل قاعة جلسات طالما قضى بين ظهرانيها في قضايا كثيرة. رفع كلتا يديه ململما بتحريكها إلى أكمام بذلته السوداء ذات الشريطين الأخضرين اللامعين. لم أتبين إن كان بصره مستقرا على شيء بعينه، لكني أذكر جيدا أن نظراته لم تكن شاردة. بخفة متمرن متعود، استدار شمالا نصف استدارة، تم انسحب. تبعه بقية المستشارين، يليهم كاتب الضبط متأبطا سجلا ضمنه مجريات شهر من الأخذ والرد والقبول والرفض بين الهيئتين وممثل النيابة العامة وأقوال المحاكمين. قصدوا جميعهم نفس الباب الخلفي وفي أعقابهم سار ممثل النيابة العامة. بقيت المنصة فارغة إلا من محجوزات مركونة في حياد، كأنها غيمة شاردة لسحابة يترجى العطشى من عبورها رواء ينبث الزرع ويسقي الضرع. ثم خيم على الأجواء صمت الترقب والانتظار، لكن الهيئة خرجت ولم تعد.
في الطريق نحو السجن، ذهلت من عدم رقابة علامات التشوير على سيارات الشرطة. في السجن، بعد كأس شاي أو قهوة، تحررت الذوات من الأنفاس اللاهثة، وسرت بالموازاة دردشات متنوعة في حلقات هنا وهناك. حيث حضرت، دار حديث سريع عن الشريط السينمائي اليوناني الموسوم بالاعتراف. تحفة مشهدية تعود لبداية سبعينيات القرن العشرين، تقترن بفن الالتزام السياسي. بفضله نالت الممثلة اليونانية ميلينا ميركوري، التي ستصبح بعد عودتها من المنفى وزيرة للثقافة في حكومة الاشتراكي أندرياس بابا أندريو، جائزة أفضل ممثلة. الشريط وثيقة عن محاكمة قيادة الحزب الشيوعي اليوناني. قبل نهاية الشريط.
وفي المساء يعلن القاضي نهاية الجلسة. يعاد المعتقلون إلى سجنهم مستبعدين النطق بالحكم بالإعدام. في يوم الغد، ومع شروق شمس الصباح، تجمعت العائلات أمام بوابة السجن. انتظروا مقابلة أبنائهم، وبدل دخول المزار، خرج من يخبرهم بأن المعتقلين رحلوا إلى مكان غير معلوم.
ساد بيننا شعور من يتابع فصول كوميديا سوداء، أبدع مخرجها في إماطة اللثام على أن الرفاق اليونان حوكموا طبقيا وليس قانونيا.
داهمنا ضحك جنوني .علق (م. ب) ساخرا، تصوروا لو تخضعون في جلسة يوم غد لنفس ما لحق بشخصيات ذاك الشريط السينمائي؟
انسحب (ك.ع) من الجمع دون أن ينبس ببنت شفة، تعبيرا عن عدم رضاه عن أمنية تجهض أمله في العودة إلى الجامعة لاستئناف دراسته. في حين علق (م.م) بنبرة لا تخلو من تهكم: “يجوز أن تكون الوحيد – قاصدا بكلامه (ب.م) – بين هذه المجموعة من يلتف حول عنقه حكم بنعومة خيط الحرير”. تم أضاف بالسخرية ذاتها: “سنفخر بك، ونعلن تضامننا معك، ولن ننسى أن ندعو لروحك الطاهرة بالرحمة والسلام”. ضحك وضحكنا معا حتى غارت خلف الدموع مآقينا. قلت في نفسي، لا بد أن نحظى بأحكام تدعو كل فرد من هذه المجموعة إلى إعادة صياغة مفهومه للحرية.
– ألم يقل كارل ماركس أن النظرية رمادية، وأن شجرة الحياة خضراء؟
– أجل، كان هذا ما سطره بلغة لا تخطئ معناها
وكمثل الذين جاؤوا من قبلنا، قرأنا المقولة إياها وتدبرنا جدليتها بكل ما نمتلك من معرفة وإدراك. اعتبرنا جوهرها دليلا ومرشدا لا يلغي رقابة العقل و تحفيزه على الاجتهاد. فعلى قدر خضرة الشجرة ، يتعين الاعتناء بها ، حفاظا على نظارة مستدامة.
محكمة..
أعيد المعتقلون إلى سجن بولمهارز المدني. عاد من حضروا الجلسة من العائلات إلى بيوتهم، كما تعود أسراب الطيور إلى أعشاشها.. لم يكن لأحد علم بقرار النطق بالأحكام في جلسة بالليل. توقيت اختير كي تصبح العائلات على وضع قاس. فقد يترتب عن التفاعل معه، إن لم تكن هناك إغماءات فاحتجاج أو تظاهرة تلقائية في رحاب الغرفة رقم (1)،أو بمدخل تلك البناية الفخمة التي منذ تشييدها أواسط ثلاثينيات القرن العشرين في قلب الحي الشتوي ب”جليز”، لا يحيط بها سوى حفيف أشجار الزيتون وزقزقة العصافير. محكمة عرفت أول ما فتحت أبوابها في وجه المتقاضين بالمحكمة العصرية. تبث – تقربا – في قضايا الأجانب، وتجري المرافعات أمام قضاتها باللغة الفرنسية.
استدراك
لا أرى أن هناك ما يدعو للتذكير باستئثار محاكمة مجموعة “مراكش 84 ” بمتابعة الرأي الوطني التقدمي والحقوقي، أو بالإشارة إلى أن المنصبين تطوعا للدفاع، محامون من هيئات مراكش، الدار البيضاء، الرباط .. ناهيك عن ملاحظين من أوروبا.. فغاية هذه السردية هي إبراز تنقيلنا في جنح الظلام وبأمر قضائي للحضور أمام هيئة محكمة باشرت من تاريخ 07 مايو 1985 إلى 25 مايو1985 النظر في قضية ”سعيد كنيش ومن معه”، وعددهم (36)، كلم ينتمون لمنظمات “إلى الأمام” و”23 مارس” و “لنخدم الشعب”.*** المتابعون، وفق القرار الجنائي رقم: 179/179. بتهمة: “المؤامرة لقلب النظام، والمس بكرامة جلالة الملك، المادة 169 وما بعدها و41 من ظهير الصحافة، والتحريض على الإضرابات والاضطرابات، ظهير 35 و 39 . قضية سجلت بالنيابة العامة تحت رقم 151-119 ، وبغرفة التحقيق: 20-21-39. بغرفة الجنايات: 124-84-125 -84
مستيقظون رغم أنوفهم
قمنا من نوم عميق، ونحن نفرك عيوننا، لم تتحمل الضوء الكاشف. نبرح الزنازين، كأننا نغادر عمقا هادئا نحو سطح هادر. في الممر المسيج بالحديد والصلب، يتردد صدى مزعج جراء طرق عنيف على الباب المصفح. بدا منظر جفوننا نحن نزلاء الزنزانة رقم 3 مثيرا للاستغراب. سواد غطى الجفون وتخلل الوجنات دون أن ندري شيئا من ذلك. تساءل الرفاق وتساءل بعض الموظفين:
– من أين لوجوهكم بهذا السواد؟
قبل الخلود إلى النوم، شاركنا رفيق قطرات مضادة لرمد وحساسية العين، اتقاء لمضاعفات ضيق المكان وقلة التهوية. في الظلمة، شعرت بلزوجة إفراز بين القرنية والقزحية. فركت عيني فإذا بسائل يفيض على الجفون والرموش. تحسست سخونة لا تشبه الجسم المائي. سألت: من أحس بدمعه ساخنا؟
أجاب (ب.ج) مازحا، هي دموع من يخشى الحكم قبل النطق به. ضحكنا حتى عم بالزنزانة صدى قهقهاتنا وانتشر خلف صمت الممر المظلم. نطق (ح.ع) وكان هو من جلب الدواء: في الغالب إذا أدمعت العين، فلأن “التقطيرة” صادفت بها تعفنا فطردته. لما غطى السكون والظلام الحالك، وانفصلنا كلية عن اليقظة، سال السائل خارج العيون فتضمخت بلونه الجفون.
رغم حساسية اللحظة، انخرطنا في الضحك ونحن نتملى في وجوه بعضنا، والتي لم أصبحت تقترب من ملامح وجوه الهنود الحمر أو ساكنة الأدغال المجهولة. أضحكنا اندهاش بعض الموظفين واستغرابهم من معنوياتنا المرتفعة، رغم أننا نقاد نحو مصير نجهله.
في قاعة المحكمة غاب المحامون إلا الفقيد الأستاذ خلدون محمد في ما أذكر.
كنا جلوسا بنفس قاعة الجلسات وقد غصت بعناصر “قوات التدخل السريع”، المدججين بالرشاشات. لم أبال لا بتربص هذا ولا بتوتر ذاك. لقد اتضحت الطريق، وبات الجميع مدركا لما يمثله له صباح يوم الغد الموالي. كانوا موزعين وقوفا فوق رؤوسنا، أما نحن فنذرنا أنفسنا لهدوء عاصفة مرتقبة.
من نفس المدخل الخلفي، ظهر السيد القاضي ومن ورائه كل الهيئة. وبعد أن استوى في جلسته أخرج ورقة صقيلة بيضاء، ركز بها بصره لحظة وشرع في تلاوة الأحكام تصاعديا من الأدنى إلى الأقصى. يتلو بسرعة من يريد إنهاء ما تبقى من أطوار محاكمة خالفت القانون وروح القانون. توقفت عند المؤسسات، فساءلت مهامها وعلاقاتها بغيرها، وتعرضت لوظائف السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية. محاكمة وإن تمحورت حول مشاريع إصلاح منظومة التعليم في المغرب، فإنها لم تغفل التعرض لحرية العمل النقابي والسياسي، بما فيه اختيارات الدولة ودور الاحزاب السياسية ، وراهن المعارضة السياسية.
بعد هذا كله، كانت الحصيلة النهائية، مائتان وثلاثة وتسعون سنة سجنا في حق ستة وثلاثين مناضلا، مشكلين من تلاميذ، طلبة، أساتذة، محام، و فلاح/ طالب حقوق سابق.
وبمجرد ما أكمل ذكر أسماء الرفاق،
– محمد اليونسي، محام، ترافع قبل اعتقاله في إحدى المحاكمات
– عبد المجيد مفتاح، طالب حقوق سابق، وفلاح ممارس، بمحض اختياره الارتباط والعمل بالأرض
-محمد عباد، طالب كلية الحقوق
– لحسن أحراث، أستاذ مادة الرياضيات
المحكومون بخمسة عشرة سنة نافذة، حتى اهتزت قاعة المحكمة بصوت واحد:
” لنا يا رفاق لقاء غدا
سنأتي و لن نخلف الموعد
وهذه الجماهير في صفنا
ودرب النضال يمد اليدا
سنشعلها ثورة في الجبال
سنشعلها ثورة في التلال
وفي كل شبر سنجعلها
نشيدا يجدد روح النضال
فلا السجن يرعبنا والخطوب
وليس يهدم عزم الشعوب
طغاة النظام مضى عهدهم
وشمسهم أذنت بالغروب”
بخطوات وئيدة، تحمل جسدا أنهكته أيام الإعداد للمحاكمة، والترافع أمام الهيئة، وحسرته على قضاء قضى بأحكام لم يكن هناك ما يدعوا للنطق بها. ربما أظلمت الدنيا في عينيه لحظتها، أو انتفت تباشير أمل، أرست دعاماته مداخلات هيئة الدفاع ومخرجات مرافعاتها. مشى كئيبا ببذلته السوداء المهابة. قصد محمد اليونسي، زميله في المهنة، وأنّات صاعدة من صدره تسبق دمعه الحرون. نعم، بكى الأستاذ- ربما نيابة عمن تغيب من المحامين – حظ دفاع استمات في إبراز الحقيقة القضائية أمام المحكمة، لكنه عوض أن يسل زميلهم ومن معه منال تهم واهية كما تسل الشعرة من العجين، ما ظفروا بغير الريح في الليلة الليلاء ليوم 25 ماي 1984.
يحضن الأستاذ خلدون من يمر بالقرب من حيث وقف منتصبا، وقد أسلم اليأس بروح شفيفة لدموع تصرح بأن السجن عدو لدود للحرية. مصيبة متربصة بحرية الفكر والرأي والعقيدة. عانقته بدوري، عانقه خالد نارداح الذي شاركني نفس القيد.
لملم القاضي أوراقه. أشار بالانسحاب لمساعديه. شرع رجال الأمن في تصفيد أيادٍ ارتفعت قبضاتها عاليا. قيد لكل المحكومين. كرررر … كررر، هكذا كان صريره صوتا أدنى من حدة الأصوات المنشدة. انتشرنا في مقدمة القاعة بعفوية تستعص على الوصف. ذاعت أناشيدنا في أرجاء قاعة تعلوا بها لأول مرة أصوات من توبعوا بـ”حب الشعب”.
مفاجأة
كانت العربات البيضاء للأمن الوطني، تنطلق مخترقة سواد الليل بسرعة جنونية . هل الغرض حرمان أي متابع مفترض، أو عابر قد يدفعه الفضول فيشيع بين الناس في النهار ما رأته عيناه بالليل؟ العربات مصفحة، ورغم ذلك لا بد وأن يتناهى ترديدنا للشعارات إلى خارجها.
في نشوة شعار:
زغردي يا أمي
يا أم الثوار
بلادي حبلى بالأحرار
زغردي…
كان يقف بجانبي، خالد وأنا، رجل من قوات التدخل السريع. وجه حسن، وجنتاه بهما شامات سوداء. يتصبب عرقا من على جبينه، حتى تبلل وجهه بأكمله. بدل توجيه رشاشه نحونا، جعلها موجهة نحو الأسفل. كان يردد نفس الشعار. لما التقت نظرات عيوننا، خاطبنا قائلا: إن أستاذي هو عبد القادر الشاوي.
نطق اسم أستاذ يعلم أين انتهى المطاف به، نطقها احتراما وافتخارا بأيام درس عربي الحرف والقضية تلقاه في حضرته.
قلت: إنه يقضي حكما بعشرين سنة في السجن المركزي بالقنيطرة.
كان رده علي: بلغه سلامي.
توقف الحوار، ولم يتوقف رفع الشعار تلو الآخر، إلى أن آوتنا زنازيننا ثانية، نام الجميع وأصبح على قيد وسجن.
______________________________________________________________
*ورد هذا في سيرة الخرصة أو ذاتية أحمد ابادرين – مطبعة الوراقة الوطنية – طبعة أكتوبر 2020
** توبع أيضا ضمن نفس المجموعة مناضلا الجناح الراديكالي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية- اللجنة الإدارية الوطنية، بعد انفجار الصراع يوم 08 ماي 1983، أما جماهيريا، وبالحصر سواء في إطار الحركة الطلابية، فقد تميزوا كلائحة أمام مؤتمر (أ. و. ط. م) السابع عشر، وكفاعلين بالقطاع التلاميذي وبين الشبيبة المدرسية باسم “رفاق الشهداء”.