العيد والتعييد في عاصمة التعييد الاحتفالي

العيد والتعييد في عاصمة التعييد الاحتفالي
د. عبد الكريم برشيد
 
كلمة افتتاحة لابد منها
     هذا اليوم، هو اليوم الأخير من سنة 2023، ولقد اخترت أن اختمه بفعل الكتابة، إيمانا مني بأنه لا شيء أجمل وأنبل من الكتابة إلا الكتابة. وبأن هذا الزمان سيغير غدا كل شيء، ويغيب كثيرا من الأجساد ومن الأرواح، وسوف تبقى وحدها الكتابة، شاهدة على أننا كنا هنا، وأننا قد عبرنا من هنا، وأننا قد عشنا بهذه الأسئلة وبهذا القلق وبهذه الدهشة في الكتابة، ولقد اخترت في هذا الملتقى الزمني أن أقول لكم قولا، وأن أكتب لكم كلمة، وأن تكون هذه الكلمة صغيرة ومختصرة جدا، وذلك في حق هذا الزمن الكبير والقوي والجبار والغامض والملتبس والماكر والمخادع والزئبقي، وأن نودع سنة، وأن نستقبل سنة، وأن يكون الأمل زادنا في طريق تلك الأيام الآتية غدا، وأن يكون هذا الموعد الاحتفالي السنوي هو الحديث عن الاحتفالية وعن التعييد الاحتفالي، وبالتاكيد فإن ما بعد هذا اليوم الذي سوف يأتي، هو يوم آخر، يوم يكرر ما نعرفه، وقد يفاجئنا بما لا نعرفه وبما لا نريده وبما لا نتوقعه وبما لا نرجوه، وستدور عجلة الأيام والليالي دورتها الفردوسية أو الجهنمية، إما نحو الأجمل أو نحو الأسوأ، وسوف تأتي الأيام بعد الأيام وتأتي الأعوام بعد الأعوام، وتمضي كثير من الأجساد التي عاشت حياتها، ومثلت أدوارها التي أعطيت على مسرح الحياة، ولكن هذا المسرح الوجودي، بكل ظلاله وامتداداته باق إلى ما لا نهاية، وهذه هي سنة الوجود، أي أن يكون المكان وفيا لمكانيته ولموقعه الجغرافي، وأن يكون الزمن في التاريخ متقلبا وحربائيا ولاعبا بمشاعر وأحوال عباد الله في ملك الله.
هي إذن سنة تمضي، إلى حيث أحد يدري، وسنة اخرى تأتي، من رحم الزمان ومن عمق الوجود، وهذه السنة التي انتهت نعرفها وتعرفنا، ولقد أسعدتنا قليلا، في لحظات قليلة طائرة في الفراغ، وأحزنتنا كثيرا في لحظات أخرى غيرها، وتلك السنة التي تبدأ غدا، نجهل عنها اليوم كل شيء، ونرجو أن تكون أحسن من أختها التوءم، وأن تكون رحيمة بنا، وأن تأتينا بالأمن والأمان وبالسلام وبالعيد وبالاحتفال، وأن تكون رحيمة بالمستضعفين في الأرض، فسنة 2023 جرت معها جنون البشر في أوكرانيا وفي غزة وفي السودان وفي كثير من بلدان العالم، ولقد جاءتنا في آخر شهورها بغضب الأرض، و(أتحفتنا) بزلزال مدمر في أحواز مراكش، ولقد كان هذا الزلزال امتحانا صعبا جدا، ولقد اختبر قوة المغرب، واختبر صبره وصموده، واختبر إيمانه، واختبر كرم المغاربة أيضا، ولقد ظهر في هذا الزلزال ما لم يكن خافيا إلا على العيون التي لا تبصر، وانتصرت عبقرية الإنسان المغربي، وانتصرت حكمته، وانتصر كرمه، وانتصرت إنسانيته وحيوته على قوة الطبيعة المدمرة، وانتصرت على غضبها أو على عبثها أو على جنونها، أو على حكمتها الخفية التي لا نعرفها، وبهذا لا نقول إلا نفس ما قال أولئك الذين سبقونا و(قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم).
في هذه السنة التي تمضي، كما في كل السنوات الأخرى التي قبلها، عشت كثيرا، وتأملت كثيرا، وقرأت كثيرا، وكتبت كثيرا، وسافرت كثيرا، وفاض عقلي بالأفكار، وفاضت نفسي بالحالات، وفاض خيالي بالصور الجميلة، ولهذا فإنه يكون من الواجب أن نتذكر السنة الراحلة بعض محاسنها.
 
الاحتفال والاحتفاء في المدينة الاحتفالية
      وهذه المدينة الاحتفالية هي مراكش، والتي كنت فيها الأسبوع الماضي كنت في مدينة مراكش ضيفا على فرقة دوز تمسرح، وعلى صديقي الفنان عبد الجبران خمران ومن معه من المسرحيين الصادقين والجادين والمجدين، وتحديدا كان ذلك يوم 20 من شهر ديسمبر، وفي أمسية شعرية باذخة بدار الثقافة، وبالنسبة لمدينة مراكش الاحتفالية، فانا لا أخرج منها إلا من أجل أن أعود إليها، ومن يكن احتفاليا مثلي، فإنه لا يمكن أن يبتعد عنها، لأنه تسكن روحه، وتسكن فكره، وتسكن ابداعه المسرحي الاحتفالي
ولقد كان اللقاء الاحتفاىب في مدينة التعييد الاحتفالي حول كتابي (فلسفة التعييد الاحتفالي في اليومي وفي ما وراء اليوم) ولقد حاورتني الدكتورة نزهة حيكون، ووجدت نفسي أمام أسئلة أخرى جدية، أسئلة لم يسبق للاحتفالي أن طرحها على نفسه، ويسعدني أن أجد من يحرك المياه الراكدة في نفسي وروحي وخيالي وذاكرتي، ومن يريني وجهي في مراة نفسي، ومن يسأل الأسئلة العنيفة والصاخبة، ولكن بهدوء، وأن اجد من يخرج من أي حوار جديد معاني أخرى جديدة.
ومراكش التي أعود إليها، أو تعود إلي، ماذا يمكن أن أقول عنها اليوم؟
وأي هي اللغات والألجديات والمعجمات التي يمكن أن تكون أقدر من غيرها في وصفها؟
هي في الأصل روح، قبل أن تكون جسدا، ومن يقدر أن يجيب عن سؤال (وما الروح)؟
هي المدينة الدولة، يوم كان اسم المغرب مختزلا في اسم مراكش، وهي الجسد الواحد، وهي ظلاله المتعددة والمتمددة والمتجددة في المكان وفي الزمان، وهي صوره الملونة بألف لون ولون، وهي زواياه المعطرة بألف عطر وعطر.
هي البدء والمنتهى، وهي الجسد الحي الظاهر، وهي الروح السحري الخفي، وهي الملتقى الذي تلتقي وتفترق عنده ومنه كل الطرق، وهي المدينة الاحتفال، وهي المدينة العيد، قدرها أن تكون فرحا وبهجة، وأن تدعو إلى إلبهجة، وأن تحرض الأجساد الخية على العيد والتعييد وعلى الاحتفال.
ونعرف أن لبعض الأمكنة والأزمنة الحية أجساد وظلال حية، وأن لها أرواحها الحية، ولها ذاكرة ولها تاريخ، وكذلك هي المدن العبقرية التي لها عقل وقلب، ولها وجدان وخيال، ومثل هذه المدن، بسحرها المتدفق، لا يمكن أن تبتعد لها، وأنا ما ابتعدت عن كثير من المدن تاجميلة إلا من أجل أن اشتاق إليها اكثر، ومن أجل أن أراها من بعيد أجمل وأكمل.
وبالنسبة للاحتفالي فإن العودة إلى مراكش لها طعم خاص، ولها مكان ومكان خاصة في قلبه وفي مساره الوجودي والفكري والإبداعي، خصوصا عندما تكون هذه المدينة اليوم، وكما كانت بالأمس، عاصمة للتعييد الاحتفالي، وعاصمة للفرح الاحتفالي، وتكون المناسبة هي تقديم كتاب يحمل عنوان (فلسفة التعييد الاحتفالي في اليومي وفي ما وراء اليومي)، وأن يكون ذلك مباشرة بعد انتهاء فعاليات المهرجان الوطني للمسرح بمدينة تطوان، وبعد ثلاثة أيام فقط من حفل الاختتام، ولقد جدت نفسي في ضيافة فرقة دوز تمسرح، وذلك في إطار برنامج التوطين المسرحي، ولم يكن غريبا أبدا أن تحتفي هذه المدينة الاحتفالية بالفلسفة الاحتفالية وبالإبداع الاحتفالي، وللحقيقة والتاريخ نقول بأن هذه المدينة هي التي شهدت لحظة مولد الحركة الاحتفالية في السبعينيات من القرن الماضي، ولقد كان موضوع هذا اللقاء هو فعل التعييد المتجدد عبر الزمن المتجدد؛ أسراره ومعانيه واحواله وظواهره ومظاهره الخفية.
وبين الإنسان والمدينة قصة عشق قديمة جدا، وبينهما صحبة وعشرة ورفقة، هكذا هي في العقل الاحتفالي وفي الوجدان الاحتفالي وفي الإبداع المسرحي الاحتفالي، حيث الشخصية المسرحية وحدها، وهي الموجودة والحاضرة دوما مع مضاعفها الرمزي، والذي تمثله المدينة الحية والعبقرية، فابن الرومي تقاسمه الوجود مدينة بغداد وسقراط تحييه وتقتله أثينا أو شريعة أثينا، وابن الرومي تسحرته وتقتله باريس بسحرها القاتل، ويموت غريبا في دروبها واحيائها، وجحا يمارس جنونه العاقل في مدينة فاس، والتي لها وجه واحد، ولها أقنعة بلا عد ولا حصر، وابن رشد العاقل وصاحب الدعوة إلى العقلانية، يحاصره الفقهاء في تمسكهم بالنقل في مقابل العقل، وأما الصعلوك. فهو موجود نظريا في مدينة لندن، ولكنه في الحقيقة يظل خارجها وعلى هامشها.
 
بحثا عن الأيام الاحتفالية في الزمن الاحتفالي
     إنني، أنا الاحتفالي، أنطلق دائما من المبدأ التالي، وهو أنني لم أقل كل شيء، ولم أكتب كل شيء، وبأنني في حاجة دائمة ومتجددة، لأن أعيد اكتشاف ذاتي في الاحتفالية، واكتشاف هذه الاحتفالية في أسئلة العارفين، وهذا ما يجعلني أمام كل من يحاورني في مقام التلميذ الذي يحسن الإنصات، وليس في مقام المعلم والأستاذ، وبهذا يحق لي أن أقول بأنني بفضل كل الحوارات الجادة والجديدة تجددت، وأنني بقضل كثير من الأسئلة المستفزة قد أعدت النظر في كثير من البدايات ومن المسلمات القديمة، وهكذا كان شعوري في تلك الليلة الشهرزادية، والتي قد تساوي الف ليلة وليلة مما تعدون، لقد أعدت اكتشاف نفسي واكتشاف أفكاري، ووجتني أقترب أكثر من ذلك الفقه الذي يمكن أن نسميه فقه الاحتفالية.
وفي تلك الليلة، وبفضل محاورتي، وبفضل الأصدقاء المسرحيين، من عيار بوسرحان الزيتوني والسي محمد بلمقدم وحسن هموش والصقلي، وجدت نفسي، ومن حيث لا أدري بتحيين وتثوير وتجديد الأفكار (القديمة) وكل ذلك، من أجل ألا يلحق القدم هذه الأفكار، وأن تظل جديدة دائما، وأن تبقى محافظة على حياتها وحيويتها.
يقول الاحتفالي هذه الأيام تمضي خلف بعضها بسرعة جنونية، وهي تمشي إلى الأمام دائما، وتمشي نحو الأعلى ونحو الأبعد ونحو الأصعب، ونحو الغامض والملتبس والمجهول، وقد يظن البعض أنها واقفة في مكان واحد، وهي متحركة حركة خفية، وهي في سرعتها لا يراها إلا المجانين، ولا يسايرها ولا يدركها إلا العمالقة والعباقرة من بني الناس، وهي في سحرها لا يمكن أن يقرأ ألغازها ورموزها وطلاسمها إلا السحرة من جن الإنس، ولا يمكن أن يحسها ويتذوقها، وأن يعرف قريبها وبعيدها وحاضرها وغائبها وكائنها وممكنها إلا العرافون والمنجمون والشعراء والصوفيون والمخاطرون والمتنبئون، وقد تمضي صور هذه الأيام، إلى حيث لا أحد يدري، وتمضي مشاهدها وحالاتها ومقاماتها وظلالها، ولكن روحها الخفي فيها، هل يمضي؟
وكيف يمضي؟
وإلى أين يمكن أن يمضي؟
وبهذا يكون من الضروري أن أقول اليوم، تماما كما قلت بالأمس، بأن علينا ان نستعيد (أميتنا) الجميلة والنبيلة، وأن نعرف بأننا لا نعرف إلا القليل من المعرفة، وأن نحرص على أن نبدأ في كل لحظة من نقطة الصفر في المعرفة، وأن نقبض على تلك اللحظة السحرية المؤسسة للمعرفة، وأن نستعيد اندهاشنا الذي سرقته منا العادة، وأن نستعيد فرحتنا وبهجتنا باكتشاف هذا العالم، أو بإعادة اكتشافه مع إشراقة كل يوم جديد، ومع إطلالة كل عهد جديد، وهذا هو أوحت لي به تلك الجلسة الليلية في مدينة مراكش. ولهذا يكون من الضروري أن لا نتوقف لحظة عن مراجعة ذواتنا، وأن نتحداها بالأسئلة الأخرى، المختلفة والمخالفة والمستفزة.
وهذا السؤال يصبح عند الدكتورة نزهة حيكوك مجموعة كبيرة من الأسئلة المركبة، والتي استخرجتها كلها من الكتاب، ومن روحه وجوهره تحديدا، وليس من سوق الكلام، ولا من النميمة التي يمارسها كثير من الناس، ويسقطون عليها اسم النقد وما هي بنقد، ولقد أدركت د، نزهة حيكون، بحسها العلمي والجمالي، بأن روح الاحتفالية يشكله هذا السؤال، وهو في درجة القلق العلمي، وهو في درجة الشك الذي يؤدي الى اليقين، وبأن الأصل في السؤال أنه مفتاح يفتح الأبواب المغلقة، ولعل هذا هو ما جعلها تتجاوز منطق الاستنطاق البوليسي ومنطق الاستجواب الصحفي، لتصل إلى درجة فقه الاحتفالية، وذلك في معناه العام، والذي هو الكشف او هو المكاشفة وهو البحثةعن الأساسيات وعن المنطلقات وعن الآليات وعن الميكانيزمات وعن الخلفيات وعن الأرضيات التي انبنت عليها فلسفة التعييد الاحتفالي، فكرة بعد فكرة، وصورة بعد صورة، وحالة بعد حالة، ودرجة بعد درجة، ومثل هذا الفقه بالاحتفالية لا يمكن أن يتحقق إلا بعشقها اولا؛ عشقا صوفيا بكل تاكيد، وان كل من لا يؤمن باساسيات هذه الاحتفالية الفكرية والجمالية والأخلاقية، والتي هي أساسيات شعرية وصوفية، فإنه لا يمكن أن يدخل عوالمها الداخلية، الخفية والبعيدة والعالية والغامضة والملتبسة والزئبقية، والتي قد تكون ماكرة مكرا جميلا ايضا، وذلك في كثير من المواقف ومن الحالات والمقامات.
وهي تدرك بأنها أمام كتابة حيوية شفافة كالماء والهواء، كتابة يمكن أن تراها من جميع الجهات، وأن ترى سطحها وعمقها، وترى بعيدها وقريبها، وترى غائبها وحاضرها، وهي تعرف أيضا أنها أمام لغة فردوسية، فيها غموض يتحدى العقول، وفيها طلاسم تتحدى من يفك شفرتها، والكاتب المتفلسف في كتابه يقول مخاطبا قراءه:
(أنا) لا أتحدث لكك إلا بلسانين، بلسان الشاعر وبلسان العالم، وأقول علنا وجهرا، أن وجود لسان واحد لا يكفي، لأن الإنسان وجدان وعقل، ويهمني ان اخاطبهما، وأن انطق بهما ايضا) وهذا ما ادركت محاورتي عندما أمسكت بالوجداني وبالعقلي في متن هذا الكتاب.
 
الأسئلة التي طرحت والسؤال الذي لم يطرح
     ونحن ناقشنا في ذلك اللقاء كتاب (فلسفة التعييد الاحتفالي في اليومي وفي ما وراء اليومي) وحاولنا الإحاطة بكثير من المواضيع والأسئلة فيه، وأعتقد أن السؤال الذي كان غائبا ولم يطرح، والذي كان ينبغي أن يكون هو فاتحة كل الاسئلة، فقد كان هو السؤال المركب التالي:
— هل هذه الاحتفالية حقيقة فلسفة؟
وبأي معنى هي فلسفة؟
بالمعنى الأكاديمي الخاص، أم بالمعنى الشعبي العام؟
وبالتأكيد فإن هذه الاحتفالية هي تفلسف مشروع أكثر منها فلسفة، وهي نظر فلسفي أكثر منها نظرية فلسفية، وهي مسار فكري مفتوح على الحياة اليومية، أكثر منها مذهب وتذهب مغلق على نفسه، وفي هذا التامل الفكري الحر، يتساءل الاحتفالي عن المعاني المتعددة والمتنوعة التي قد تعنيها كلمة فلسفة:
(ما الذي يهم أكثر ، بالنسبة لهذه الاحتفالية المبدعة بالفكر والمفكرة بالابعد؟
–هل هو المعنى الفلسفي المختبئ فيها، والذي قد يرد عرضا هنا أو هناك؟
— أم هو معنى الفلسفة، كما تؤسسه هذه الاحتفالية، وكما تفهمه، وذلك في خصوصيته التي قد تختلف، قليلا أو كثيرا، عن المعنى المدرسي العام والشائع؟
— هل هوفلسفة المعنى، والذي قد يكون بعيدا وغريبا عن قصد الاحتفالية وعن مشروعها الإبداعي؟
— هل هو فعل الفلسفة في ذاته، والذي لا يشترط أن يكون جزء من فلسفة عامة، والذي قد يكون فقط،ثمرة المعايشة الصادقة، ونتيجة التجربة الوجودية القلقة، وأن يكون تأملات حرة، وأن يكون معاناة انكتبت في كتابات، ووجدت في أجساد حية، وتشخصنت في أشخاص وفي أسماء، وذلك قبل أن يصبح لها مضاعف في الإبداع الأدبي أو في الإبداع الفكري والفني؟)
نعرف ان من حق أي واحد منا أن يغني، من غير أن نكون نحن ملزمين بأن نسميه مغنيا، ومن حق أي واحد أن يتفلسف ايضا، وان يكون متاملا، من غير أن يكون فيلسوفا بالضرورة، وفي هذه الاحتفالية غنى الاحتفالي، من غير أن يكون مغنيا محترفا، وفيها ايضا رسم وجوها من الواقع ومن والحكاية ومن من الأسطورة ومن التاريخ، ولم يقل للناس بأنني رسام وبانني تشكيلي او بانني نحات او بانني مؤرخ، وفي مسرحه شعرية لفظية ومشهدية عالية، وهي غير كافية لأن تصنفه مع زمرة الشعراء، ومن حق الاحتفالي ان يتامل، وأن ينظر بعقله ايضا، وأن يكون منظرا، وأن يكون عرافا ومهندسا، وأن يتفلسف مع كل المتفلسفين من غير أن يكون فيلسوفا بالضرورة.
 
حاضر ومستقبل التعييد الاحتفالي
      في مقدمة هذا الكتاب (فلسفة التعييد الاحتفالي) توقفت قليلا عند السؤال التالي(ما الذي يمكن أن يحقق مستقبل الحركة الاحتفالية غدا؟)
ويهم الاحتفالي والاحتفالية أن يعرفا طريقهما، وأن يعرفا إلى أين يمكن أن يؤدي هذا الطريق، والمهم، أو الأهم، ليس هو الوصول إلى اية محطة، ولكنه السير الصحيح في الطريق الصحيح، بحثا عن الوجود الصحيح وعن الزمن الصحيح وعن المعنى الصحيح.
فالأمر إذن، في هذا الكتاب، يتعلق بجسد الاحتفالية الحي، والذي هو جسد يتحرك في هذا الزمن المتحرك، ومادام أن هذا الجسد قد كان له ماض أتى منه، وان له اليوم حاضر يحيا فيه، فإنه لابد أن يكون له مستقبل يمضي إليه، وبالتأكيد فان هذا المستقبل الممكن الوجود لايمكن ان يكون إلا مشابها، قليلا أو كثيرا، لذلك الماضي الذي كان، ويبقى أن وجود الاختلاف بينهما، هو بالضرورة اختلاف في الكم وليس في النوع، أي في ثقل ووزن وفي مساحة وقوة وسرعة هذه الاحتفالية، بين الأمس واليوم وغدا، والتي لابد أن تكون مستقبلا أقوى واعنف، وذلك مادام أن هذا الاحتفالية الحية تمشي، إلى الأمام، وتمشي إلى الأعلى، وتمشي باتجاه الأفق البعيد، وجوابا على نفس هذا السؤال، يقول الاحتفالي في مقدمة الكتاب (إن مستقبل هذه الاحتفالية – سواء في مسرح الحياة او في، حياة المسرح – لا يمكن أن يحققها إلا احتفالية المستقبل، والتي هي بالأساس إمكانية واقعية ومنطقية وحقيقية، وذلك مادام أنها مرتبطة – عضويا ووجدانيا – بهذه الاحتفالية الكائنة اليوم، والتي يمكن أن تتمدد بفعل حرارة الحياة، والتي لها اسم مرسوم، ولها في الأيام مسار معلوم، ولها سرعة سير أيضا، تختلف بين مرحلة وأخرى، وبين ساعة وأخرى، ولها في الناس من يسير معها في نفس الخط والاتجاه، ومن يسير ضدها، ومن يتفرج عليها)، بل وهناك من حاول، عبثا وعلى امتداد عقود طويلة جدا، أن يعرقل هذا السير، ذلك باتجاه الجمال والكمال وباتجاه الحق والحقيقة، وباتجاه المستقبل الحقيقي لهذه الاحتفالية، والتي هي اساسا حركة، والتي هي قل ذلك طاقة محركة، وهي روح وجوهر هذه الطاقة المحركة يمثله الاشتعال والاحتراق، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي (يقول فريد الدين في (منطق الطير) ” اشتعلت ارواحنا، واشتعلت النار، والفراشة لا تنفر من النار” وكذلك هي الاحتفالية أيضا، إنها لا تنفر من النار، ولا يزداد حبها للنور إلا اشتعالا، ولا تكف عن الرحيل إلى المدينة الفاضلة، والتي لا يمكن أن تكون إلا مدينة احتفالية بامتياز).
هذه الاحتفالبة تؤمن بأن الآتي ينبغي أن يكون أجمل وأكمل وأصدق وأرحب، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فمعنى ذلك أن عجلة التاريخ متوقفة، وأن الحياة قد ضيعت حياتها وحيوتها، وأن الزمن لم يعد يمشي إلى الأمام وإلى الأعلى وإلى الأبعد والأسمى، وفي اكتاب (فلسفة التعييد الاحتفالي) يقول المتفلسف الاحتفالي (ولأن هذه الاحتفالية تؤمن بالزمن، فلم يخذلها الزمن، ورغم كل ما تعرضت له من معارك ومن حروب، فانها لم تزدد مع الأيام إلا قوة وصلابة، وكل ذلك لأنها راهنت على الأساسي والجوهري في الحياة، وانها راهنت على ثقافة العصر، وانها قرأت كتابات هذا العصر، وتفاعلت مع إبداعه، وحاورت نظرياته، وكل ذلك انطلاقا من الإحساس بالندية وبالأهلية، اقتناعا منها بأنه لا وجود للممنوعات والمحرمات في الحقل العلمي والفكري والجمالي).
وآخر ما يمكن أن نختم به هذا البوح الفكري، هو أن نشير إلى الحقيقة التالية، وهي أن هذه الاحتفالية قد انكتبت. فكرا وعاما وإبداعا باللغة العربية، وهذا ما ينبغي أن نتذكره، وأن نستحضره، وأن لا ننسى بأن جماليات هذه الاحتفالية من جماليات لغتها الغنية لحد البذخ، وفي هذا المعنى يكتب الدكتور نور الدين الخديري معلقا على لغة هذه الاحتفالية بقوله:
(تحية عطرة ملؤها الحب والتقدير، أخي وأستاذي المبدع السامق سيدي عبد الكريم برشيد، الذي يعشق اللغة العربية، وبها أمكن له أن يشيد عوالمه الاحتفالية بكل هذا السخاء المعرفي المتفرد، وبهذا النفس المتدفق من المشاعر والأحاسيس الإنسانية العميقة، دمت ودام إبداعك، مودتي الصادقة).
Visited 24 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي