مع زكي الجابر في “العرفان” يوم ضرب العراق
الـمصطفى اجْماهْري
يوم مختلف عن باقي الأيام…
كان يوم الخميس 17 يناير 1991، كما عشته، يوما مختلفا عن باقي الأيام وكئيبا بشكل يجلّ عن الوصف. لم يعشْ جيلي الخميس الأسود لسنة 1929، ولكنه عاش خميسا أسود من نوع آخر. ومما زاد من هذه الكآبة تلبد سماء الرباط بالغيوم. كان الدرس التطبيقي مقررا بقاعة التحرير بالمعهد العالي للصحافة في الساعة الثامنة صباحا، وكنت أقيم قريبا من المعهد في غرفة بالقسم الداخلي بكلية علوم التربية في مدينة العرفان. توجهت نحو المعهد عبر شارع علال الفاسي الذي كان يومها، وعلى غير العادة، خاليا تقريبا من الطلبة. أما المؤسسات الجامعية على طول الشارع فكانت خالية أيضا من مرتاديها المعتادين. بينما كانت بعض سيارات شرطة التدخل السريع تراقب الوضع تحسبا للطوارئ. ولما كنت قد وصلت قبل وقت الدرس فقد توجهت إلى المركز التجاري الصغير، بملتقى الطرق داخل مدينة العرفان، حيث المقهى الذي كانت مجموعتنا من طلبة الصحافة ترتاده. لاحظت أن المؤسسات الجامعية القريبة: معهد الزراعة والبيطرة، ومعهد الإحصاء، ومدرسة علوم الإعلام، كانت خالية من الطلاب أو تكاد. اقتنيتُ عدد اليوم من جريدة ‘العلم”. وقع بصري في أعلى الصفحة الأولى على المانشيت العريض بالخط الأسود، فنادرا ما كانت “العلم”، ولا الصحف المغربية، تستعمل أسلوب المانشيت في عرض الأخبار. إلا أن ما حصل وما كان يحصل زمنها خلخل الأوضاع وصدم العقول. كان العنوان العريض يقول كل شيء ويختزل مأساة شعب بكامله: “أمريكا وحلفاؤها يسفكون الدم العربي المسلم في الأشهر الحرم”.
كانت صيغة العنوان من القوة أنها لا تترك قارئا على الحياد.
وفي الصفحة الأولى من “العلم” أدان البلاغ المشترك للأحزاب المغربية الثلاثة: الاستقلال، والاتحاد الاشتراكي ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، “الهجمة الشرسة من القوات الإمبريالية التي سعت لإحكام السيطرة على الثروات العربية”.
كانت المقهى خالية تقريبا من روادها المعتادين في هذا الصباح الباكر والبارد، عدا أربعة أو خمسة أفراد. أنصتنا لإذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية وهي تقصف مسامعنا بأخبار سيئة عما تعرض له العراق من تدمير، بدءا من الليلة السابقة الأربعاء. وشاهدنا كثيرا من الصور في الفضائيات، فقد كانت حرب الخليج الثانية أول حرب تجري أحداثها على الأرض وفي التلفزيون.
أنهيت قهوتي والتحقت بالمعهد، وبردهة المدخل التقيت بعض زملائي في شعبة “الصحافة المكتوبة”، كانت الصدمة عامة أمام تساؤلات استعصت على كل جواب. وكان هناك بخاصة إحساس لدى الجميع بالعجز والخذلان.
وصل ذ. محمد أسمر قادما كالعادة من الدار البيضاء حيث يقطن، وتبعناه إلى قاعة التحرير. ولم نكد نستوي في أماكننا حتى ولج القاعة الدكتور محمد العموري، مدير المعهد. من الواضح أنه جاء ليتأكد من حضورنا ذلك الصباح للدراسة. وقبل أن يغادر إلى مكتبه طلب من عون الخدمة إعداد فناجين القهوة للجميع.
وحين غادر المدير، قال ذ. أسمر مبتسما: “نتمنى أن تصلنا القهوة كل يوم”.
لم يكن هناك أي استعداد للاستماع لأي درس. قضينا الوقت في الحديث عما تناقلته الفضائيات الدولية، وعند انتهاء الوقت نزلنا إلى البهو. جاء الدكتور زكي الجابر وتحلّقنا حوله. كانت ملامحه حزينة. كان الجميع يعرف أنه يعيش منذ سنوات طويلة خارج العراق في حكم المنفي. لكنه كان حزينا يومها وبشكل غير معتاد لما يتعرض له وطنه من تخريب، وما تعانيه مدينته البصرة من تدمير يفوق التصور[1]. كان الجابر ، كسياسي سابق وخبير في مجال الإعلام، متحفظا في التعليق على بعض المواقف والأسئلة لأن ما كان يهمّه، في هذه الحالة، هو صورة بلده أولا، وثانيا كونه كان يبني رأيه على دراسات وليس على الأقاويل. فحين سأله طالب من دفعتنا، ذات مرة، عن غياب قضايا التربية في الإعلام التلفزي، رد عليه الجابر بسؤال: “وهل قمت بدراسة بهذا الخصوص؟”. ومعلوم أن للجابر كتابا في “الإعلام والتربية”، صدر بالرباط سنة 1998 ضمن منشورات رمسيس.
وبحكم تخصصه الأكاديمي كان الجابر ينظر لما حدث لبلده العراق من زاوية الإعلام. فقد صرّح في أحد حواراته بأن “أزمة حرب الخليج” أظهرت أمام الجميع ما سماه بالسمفونية الإعلامية، التي تؤكد بأن الإعلام أوركسترا موحدة. والدرس المستفاد من أزمة الخليج، حسب الجابر، هو ضرورة مواجهة وسائل الاتصال بوسائل الاتصال نفسها، حيث لا بد لنا من الديمقراطية الإعلامية المدعومة بالتدريب والنقد لنرقى إلى مستوى التطلعات.
***
كان الدكتور زكي الجابر أحد الأساتذة المرموقين بالمعهد العالي للصحافة. فهو أديب وشاعر، ورجل إعلام متخصص. تخرّج من جامعة إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية[2]. كانت تربطه علاقات ودية ممتازة بالدكتور محمد طلال، مدير الدراسات بالمعهد العالي للصحافة، منذ ما قبل حلوله للتدريس بالمغرب سنة 1988. بل كانت للدكتور محمد طلال علاقات جيدة مع الكثير من الإعلاميين والمسؤولين العراقيين، حتى في الظروف الحالكة التي تلت غزو العراق للكويت. بل تشير أسبوعية “الأيام” المغربية (عدد 975، بتاريخ 20 يناير 2022) للمهمة التي قام بها الدكتور طلال، زمنها، لدى القيادة العراقية بطلب من المغرب.
ومن حسن حظ فوجنا أنه كان هناك تكامل في التدريس وقتها بالمعهد العالي للصحافة، ليس فقط من خلال البرنامج الدراسي، بل أيضا من خلال تخصصات الأساتذة وميولاتهم الفكرية. فكان أساتذة المعهد بالنسبة لمواد التخصص يتألفون، في رأيي، من ثلاث مجموعات: مجموعة تكوّنت في فرنسا كانت تركز في التدريس خاصة على موضوع “التواصل والاتصال” كنظريات وتقنيات، ومجموعة ثانية التأمت، بحكم ظروف تاريخية، في الجزائر. هذه كان تركيزها على الجانب التطبيقي، بينما كان زكي الجابر يمثل، لوحده تقريبا، الطرف الثالث في التركيبة، وربما قد نضيف له زوجته الأستاذة حياة جاسم محمد[3]. فبحكم دراسته الأكاديمية الطويلة في أمريكا، كان له توجه خاص في تدريس الصحافة. إذ فتح أعيننا على الإعلام الثقافي وعلى أسلوب المدرسة الأمريكية في تركيزها على الدقة في التعبير والاقتصاد في العبارة، بعيدا عن التمطيط والمجازات اللغوية والإنشائية. فكان تركيزه على تحسيسنا بالعملية الإعلامية مع الحذر من خلط اللغة الأدبية باللغة الصحفية المحسوبة، وتعريفنا بمختلف النظريات الأنكلوساكسونية المتداولة في حقل الإعلام، وبالمصطلحات الإعلامية وهو ما كان يسميه “الجارغون الصحفي”، وأيضا الاستئناس بتحليل المضمون في فهم الوسائط الصحفية. ذلك أن الجابر كان يرى بأن الباحثين العرب لا يستغلون بشكل إيجابي “تحليل المضمون”، كما يستغله غيرهم، في استنباط التوقعات والتوجهات والمواقف السياسية والمجتمعية. ودليله في ذلك أن الأمريكيين، مثلا، أفادوا منه حين استعملوه في الأربعينيات بخصوص فهم الموقف الألماني.
وقد كان الجابر واعيا كل الوعي بأن سنتين من الدراسة في السلك الثالث غير كافيتين للإلمام بمجال الصحافة والإعلام وما عرفه ويعرفه من تطورات متسارعة. وحتى نُلم قليلا بقضايا مختلفة تتعلق بثقافة الصحفي، واعتبارا لمحدودية الحيز الزمني المخصص لتدريسها، فقد كلّف الطلبة بأن يُعد كل واحد ورقة مختصرة حول نظرية معينة توزع على الفوج. فضلا عن تكليفنا بمشاريع شخصية في مادة “تحليل الأحداث”.
بالإضافة إلى ديونتولوجيا الإعلام، كان الجابر يعتمد على بيداغوجية الانضباط السلوكي. فالصحفي لا يحتاج فقط للتكوين النظري، بل أيضا أن يسعى إلى سلوك يساعده في الحصول على المعلومة. وكان الدرس الأول في هذا الباب قاسيا شيئا ما على البعض مناّ. ففي الشهر الأول من بداية درسه في الساعة الثامنة صباحا، ما أن بدأ الدرس، ذات يوم، حتى أغلق باب الفصل ولم يقبل الطلبة المتأخرين ولو بخمس دقائق. كان الدرس هو أن الأحداث لا تنتظر الصحفي وأن عليه أن يكون في الموعد وإلا فاته قطار الأخبار.
كان الدكتور الجابر، بحكم اطلاعه طويلا على المشهد الثقافي المغربي، يعرف أنني أكتب بجريدة “العلم”، وأن لي تجربة متواضعة في الكتابة الأدبية منذ منتصف السبعينيات. ففي سنة 1990 كنت قد أصدرت مجموعتي القصصية الثالثة “الحارة” عن منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق. وكان الدكتور الجابر قد سمع بصدورها (قبلما يطلبها مني لقراءتها هو وزوجته)، كما اطلع على بعض مقالاتي بجريدة “العلم” وتغطياتي الصحفية حول اللقاءات الثقافية المنظمة من قبل بعض الكليات والمؤسسات. بل حين دراستي بالمعهد كان لي ركن أسبوعي تحت عنوان “شاطئ” ينشر بالصفحة الأخيرة من الجريدة. وبحكم هذا الاهتمام الأدبي المشترك نشأت بيني وبينه علاقة خاصة. فكان مثلا يكلفني بتسليم بعض قصائده الشعرية إلى الزميل نجيب خداري، المسؤول وقتها عن القسم الثقافي بجريدة “العلم”، قصد نشرها في الملحق الأسبوعي. وهي قصائد مكتوبة بخط يده كان الشاعر غالبا ما يبثها غربته ولوعته. ما زلت إلى اليوم أحتفظ بواحدة منها بخط يده، عنوانها “من لزوميات من يلتزم” (مدرجة في نهاية هذه المقالة). فقد كان الجابر أديبا مرموقا وشاعرا مرهفا، من الأصدقاء المقربين لبدر شاكر السياب، ابن بلدته. وقد بقي على وفائه للسياب، إذ كان وراء نصب تمثال له من تصميم النحات نداء كاظم (المزداد بالبصرة سنة 1939). كما كان من بين زملائه المقربين الشاعر سعدي يوسف حيث درسا معا المرحلة الثانوية بالبصرة وبعد ذلك في دار المعلمين العالية.
هذه العلاقة الأدبية التي نسجتُها معه هي التي ستُسهل عليّ عرض مشروع بحثي للتخرج على الدكتور الجابر والذي حمل عنوان “الصحافة الثقافية في المغرب، العلم الثقافي نموذجا”. وفي وقت ما أحسست بأنه أصبح يقبل حصة محدودة من الطلبة قصد تأطيرها في البحوث، في حين ينصح آخرين بالاتفاق مع باقي زملائه. والسبب كما قال لي مرة هو إحساسه بالحرج أحيانا من أن يهيمن على تأطير عدد من الطلبة يفوق إمكانياته. وبالنسبة لبحثي (الذي أنجزته تحت إشرافه) فقد توصلت للصيغة النهائية للعنوان بعد نقاش مع زميليّ في الدفعة الروائي محمد الهجابي والصحفي معن البياري. وطبعا جاء هذا الاختيار بعد مخاض طويل فقد كنت اعتذرت عن الاشتغال على الموضوع المقترح من قبل الدكتور أحمد تفاسكا، كما صرفت نظري عن الاشتغال على الكاريكاتور الصحفي من خلال أعمال الفنان العربي الصبان في جريدة “العلم” والذي فاتحته في الموضوع. إذ نصحني الجابر بالعمل في الميدان الذي أُلم به أكثر للاستفادة من تراكم المعلومات لديّ. فقد كان يرى أن الطالب لن ينجح في مقاربة موضوع معين إلا إذا كان مستندا إلى خلفية علمية في حقل ما، قد يكون دراسته الأكاديمية السابقة أو المعرفة التي اكتسبها من خلال عمله الوظيفي، أو من ثقافته العامة ومطالعاته وتجاربه الحياتية.
وقد أفادني اشتغالي قرب زكي الجابر في الحرص على أن تكون كتابتي بعيدة عن المبالغات والتشبيهات الأدبية. حدث ذلك عندما قدمتُ له ورقة مشروعي البحثي في الصحافة الثقافية. حيث أرجعها لي بعد ذلك وقد سطّر فيها بعض الملاحظات حول استعمالي لمثل هذه التعابير. فحينما كتبت مثلا في ورقتي “إن هذا البحث يهدف إلى إماطة اللثام عن..” سطر على عبارة “إماطة اللثام”، لأنه كان يحرص على تفادي العبارات الأدبية في الصياغة الصحفية بما هي صياغة علمية ترمي لغاية واحدة، وهي أن يفهم المتلقي الرسالة بشكل واضح قدر الإمكان. كما سطّر على كلمة “جمّة” في عبارة “تعترض البحث صعوبات جمة”. وغير ذلك، كان مثلا لا يستسيغ بعض الوسائط الإعلامية حينما تقول “لعب الوزير الفلاني دورا في تذليل الصعاب”، حيث إن فعل “لعب” حين يطرق مسامع قروي أمي قد يعتقد بأن الوزير يلعب ولا يشتغل كما يجب. أو حين القول “حضر عدد كبير من الأساتذة” حيث أن نعث “كبير” يصعب تقديره، أو “وقعت الحادثة منذ سنين طويلة” حيث ينبغي تحديد تاريخها بدل الاختفاء وراء “طويلة”.
***
لن أعود إلى يوميات عملي مع زكي الجابر في إنجاز أطروحتي، إذ يمكن الرجوع هنا لمقالاتي السابقة بهذا الخصوص (أنظر الموقع الإلكتروني “السؤال الآن”[4])، ولكن سآتي على بعض التفاصيل الأخرى التي لم أتطرق إليها. فقد تأخرت المناقشة إلى حين رجوعه من العلاج بالولايات المتحدة الأمريكية. التحقت به في منزله بحي أكدال ووجدت عنده بعض الطلبة. كان يعتقد بأنني ناقشت الأطروحة تحت إشراف أستاذ آخر كما حصل للأخ محمد الهجابي، فأخبرته بأنني انتظرت عودته. ومن تم انطلقنا في الإجراءات بمساعدة الدكتور محمد طلال، مدير الدراسات، والتي تُوجت بالمناقشة في مارس 1993، في عز رمضان.
خصص الشاعر نجيب خداري عددا خاصا من “العلم الثقافي” لأطروحتي (ملحق السبت 13 مارس 1993) كتب افتتاحيته تحت عنوان “العام الرابع والعشرون”. تضمن العدد ملخص التقرير الذي قدمته أمام اللجنة وبعض المحتويات الأخرى عن صحافة الملحق. فقد كانت أطروحتي هي الدراسة الوحيدة من مستوى دبلوم الدراسات العليا، حتى ذلك الوقت، في الصحافة الثقافية وصحافة الملحق في المغرب[5]. ولما كنت أعرف العلاقة الوطيدة التي تربط بين الدكتور زكي الجابر والدكتور صالح جواد الطعمة، الأستاذ العراقي بجامعة إنديانا حيث حصل الجابر على الدكتوراه، فقد بعثت بعدد “العلم الثقافي” المذكور إلى الدكتور الطعمة. هذا الأخير سبق له أن زار جريدة “العلم” في إطار بحوثه وحمل معه مجموعة من أعداد الملحق. كنت وقتها بمدينة الجديدة أعمل ملحقا صحفيا، حينما جاءني جواب الدكتور الطعمة (بتاريخ خامس أبريل 1994) الذي قال لي فيه: “سرّني أن أجد مواطنا مغربيا يقوم بهذه الدراسة المهمة عن ملحق ثقافي أسبوعي، خدم المغرب والعربية أكثر من خمسة وعشرين عاما، وإني لآمل أن تجد رسالتك طريقها إلى النور ليفيد منها دارسو الحياة الثقافية الأدبية في المغرب، ولمن يريد الوقوف على دور “العلم الثقافي” الفعال في خدمتها. وكنت وما أزال أتمنى أن يقوم أحد الباحثين أو الأدباء باختيار مجموعة مما نشر في الملحق من أبحاث وترجمات وشعر وقصة.. شكري للملحق وخدمة للدارسين المعنيين بالأدب المغربي، تقبل خالص الشكر وأطيب المتمنيات، راجيا منك إبلاغ الدكتور الجابر تحياتي إن استطعت”.
وفعلا حملت للدكتور الجابر صورة من الرسالة إلى المعهد العالي للصحافة نوّه بها كثيرا. وأذكر أنني حين اجتماعي معه بقاعة الأساتذة، دخل علينا المرحوم الدكتور التهامي الراجي، أستاذ مادة الترجمة. فبادرنا بالتحية، ثم سأل الدكتور الجابر مازحا وهو يقصدني: “هل هذا الطالب له مشكلة معينة؟”. فرد عليه الجابر: “بالعكس هذا الطالب من النوع الذي لا يخلق مشاكل على الإطلاق”. وكان من ميزة الراحل أيضا في اللقاءات الثنائية أو المحدودة أن يروي بعض المستملحات وحكي بعض النكت التي كان يرى بأنها دائما ضرورية ومفيدة في التواصل.
كان زكي الجابر غزير النشاط على المستوى العلمي والصحفي. وهو نفسه كان يقول لنا إن الحضور في الإعلام لا يشترط على المرء أن يكون فقط ملما بموضوع ما بل أن يكون أيضا متاحا للتواصل. فكان يستجيب للحوارات والاستجوابات في قضايا الأدب والإعلام[6]، كما كان يستجيب للقاءات الفكرية المفتوحة مثل اللقاء المنظم يوم 11 فبراير 1994 من طرف جمعية الطلبة الباحثين في الأدب واللغة بكلية آداب الرباط في موضوع “سوسيولوجيا الإعلام والثقافة والهوية”، والتي أدارها الباحث سمير السالمي[7].
وفي كل هذه التحركات كان كل همه جعل الطالب يحس بمسؤوليته تجاه تطوير ثقافته الإعلامية اعتبارا، كما يقول، لكون الإعلام العربي متخلف على مستوى الجامعة، ومتخلف على مستوى كل قطر، ومتخلف في المنظمات العربية، والسبب واضح، في رأيه، وهو “أننا لسنا متخلفين فقط في الميدان الإعلامي وإنما في المجال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فلا يمكن أن ينفصل الإعلام عن السياسة والاقتصاد”. ومن هذه الزاوية كان الجابر ينظر إلى الإعلام الغربي نظرة نقدية. فبالرغم من أن هذا الإعلام يعتبر نفسه مستقلا وموضوعيا وكونيا كان، في نفس الوقت، يتحول إلى أداة لتبرير الحصار والتدمير الذي تتعرض له البلدان العربية والإسلامية. بمعنى أن سلطة الإعلام حتى في الغرب مرتبطة بسُلط أخرى أقوى منها. أما الحديث، حسب الجابر، عن الحرية والموضوعية والإنصاف فتلك أساطير. وقد يحصل طبعا أن نجد من يغرد خارج السرب باستغلال هامش النقد، لكنها حرية محدودة وتخدم غالبا صانع القرار السياسي.
أما السؤال الذي أرّق الجابر في حياته فهو: كيف يمكن للإعلام العربي أن يرتقي؟ كان الراحل يرى أن هناك كلاما كثيرا يدور حول الصحافة ولكنه لا يتحول إلى صحافة، حتى إنه لاحظ مثلا كيف أن “عشرات البحوث التي كتبت في المعهد العالي للصحافة لا نرى أثرها بالملموس على العمل الصحفي الممارس”[8]. وكأنما نصُب الماء على الرمل.
***
بعد مغادرتي للمعهد والتحاقي بوظيفة “ملحق صحفي”، بالمكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي بالجديدة، لم تنقطع علاقتي بالراحل، لكن بحكم البعد عن الرباط، ثم في وقت لاحق بعدما لم يعد هو يشتغل بالمعهد نظرا لعامل السن فقد تباعدت لقاءاتنا. وفي 19 فبراير 1996 توصلت برسالة من الدكتور محمد طلال، بصفته رئيس الجمعية المغربية لأبحاث الاتصال، يدعوني فيها إلى المشاركة في الحفل التكريمي المقرر تنظيمه للدكتور زكي الجابر بمقر المعهد بصفتي “أحد أصدقاء المحتفى به”. وجاء في هذه الرسالة : “أن تكريم زكي الجابر يعتبر أيضا تكريما للقطر العراقي الشقيق بما يحمله من رموز حضارية وتحدي تنموي، يصب في اتجاه تطوير قدرات الإنسان العربي”. كان ذلك الحفل مناسبة أيضا لإبراز المجهودات المتميزة لرجل تربية متميز، ومؤطر إعلامي وأديب متألق، ساهم في تعميق الإعلام العربي، وفي تأكيد اختيارات بيداغوجية متقدمة في ميدان التكوين. وقد شاركت في الاحتفاء بشهادة قدمتها في حقه إلى جانب الأساتذة محمد طلال، وعبد الفتاح الحجمري، وسامي النصراوي، وعبد الله شقرون وأحمد العاقد. وحضر الحفل عدد مهم من الضيوف والطلبة والأساتذة من بينهم عبد الوهاب الرامي، عبد الرحيم السامي، أحمد تفاسكا، عبد الغني المعروفي وتوفيق الجديدي. واختتم اللقاء بقراءات شعرية للفقيد الراحل.
وبحكم تقدمه في السن ومغادرة مدرجات التدريس، كان عليه أن يتدبر توازناته المادية. فلجأ للقيام ببعض المحاضرات أو التكوينات بغاية الحصول على مدخول إضافي. وقد شاركت مثلا في التكوين الذي أطّره (صحبة ذ. جمال الدين الناجي، وذة. لطيفة أخرباش، وذ. علي كريمي)، نظمته جامعة غرف التجارة والصناعة بالرباط، لفائدة المكلفين بالتواصل في الغرف. وكان وراء تنظيمه الزميل الصحفي عبد السلام المفتاحي، رئيس قسم الإعلام بهذه الجامعة، والذي كان من الطلبة السابقين للجابر..
وفي نهاية المطاف اضطر الجابر للالتحاق بابنيه في المهجر، حيث عاش في ضواحي مدينة دالاس بولاية تكساس الأمريكية. هكذا يجوب المثقفون من أهل المبادئ الأقطار بحثا عن ملجأ. ورغم استقراره بعيدا في منفاه الاختياري بأميركا فقد ظل حاضرا بالمغرب، من خلال اتصاله عبر وسائل التواصل الاجتماعي والصحف المكتوبة. فكانت الجرائد المغربية تستكتبه في مواضيع تخصصه، كما كانت القناة الثانية المغربية تتصل به في بعض نشرات الأخبار لينورها برأيه حول قضايا أو وقائع معينة.
وفي 29 يناير 2012 توفي الراحل في الغربة، وهو ما أصاب بالحزن الشديد طلبته وأصدقاءه ومحبيه على طول الوطن العربي. وفي بلده العراق أقامت كلية الإعلام حفلاً تأبينياً لمناسبة أربعينية المرحوم الذي كان أول المؤسسين لقسم الصحافة. وفي نهاية الاحتفالية توجه الحاضرون إلى إحدى القاعات الدراسية ليرفعوا اسمه على إحداها.
قصيدة زكي الجابر “من لزوميات من يلتزم”
(أتوفر على أصل هذه القصيدة بخط يده وتوقيعه، وهي في صفحتين):
- المسألة
ولعلمي أن ما ظنوه إثم
ولعلمي أن كل النار من بعض الشررْ
ولعلمي أن صمتي من ذهبْ
وكلامي من ترابْ
لم اقل للجلناّر
خدك الوردي نارْ
لم أثر في زحمة الدرب الغبارْ
غير أن المسالةْ
أنهم خلف العيون المقفلةْ
يقرأون الآن أسراري الكثار
ويلوكون الذي سطرته
تحت اسمي المستعار
- ما يراه البصير
لا …لم يعد حسنك
مسيرك بالحلي …وبالثياب المترفةْ
فلتحملي أغلى الأساور في اليدين
بالحجل سيري خطوتينْ
ودعي لحسنك ما يثير المقلتينْ
هذا المحب الشاعر الأعمى
يشاهد في الحلوكة مرتينْ.
[1] له ديوان شعري بعنوان “أعرف البصرة في ثوب المطر”. ويقول عن بلدته البصرة في قصيدة له:
وداعا.. أيها البصرة
يا أطياف براءتنا الأولي
وأحلامنا الطائشة..
طائراتنا الورقية،
كراتنا المحشوة بالخرق البالية
قراءتنا الخلدونية
جدول الضرب
ومسطرة المعلم
وداعا
[2] زكي محمد الجابر (1931-2012) شاعر وأستاذ جامعي عراقي، متخصص في الإعلام. ولد في مدينة البصرة في العراق سنة 1931. مجاز في اللغة العربيّة وآدابها من دار المعلمين العالية في بغداد عام 1954. حصل على الماجسيتر في البرامج الإذاعيّة والتلفزيونيّة الثقافية عام 1960، ثم الدكتوراه في الاتصال الجماهيري عام 1978 من جامعة إنديانا. درّس الإعلام في الكليّات المختصّة في بغداد، والرياض والرباط. شغل عدّة مناصب في إدارة البرامج الإذاعيّة، ثمّ تولّى إدارة الإعلام في المنظمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم في تونس. ألف مجموعة كتب في مجالات الأدب والإعلام. كما عمل رئيساً لتحرير «مجلة الإعلام العربي» بتونس. ويعد من أبرز مؤسسي مجلتي «ألف باء» و«مجلتي» ومدرسة الموسيقى والباليه وإعادة تكوين الفرقة السمفونية ببغداد. ترأس جمعية المترجمين العراقيين، وهو عضو بنقابة الصحفيين واتحاد الأدباء في العراق. تزوج من الكاتبة العراقية حياة جاسم محمد التي أمضى معها معظم حياته خارج العراق منفيا بسبب خلافاته السياسية والثقافية مع نظام الرئيس العراقي صدام حسين. توفي الجابر في ضواحي دالاس بولاية تكساس الأمريكية يوم الأحد 29 يناير 2012.
[3] حياة جاسم محمد (1936) شاعرة وأستاذة جامعية عراقية. ولدت في بعقوبة وحصلت على الإجازة في اللغة العربية وآدابها عام 1959، والماجيستر في الأدب العربي عام 1972 من جامعة بغداد. ثم الدكتوراه في النقد الأدبي عام 1978 من جامعة إنديانا. درّست اللغة العربية في الجامعة المستنصرية في العراق، ثم في جامعة إنديانا الأميركية، وفي كليّة الفنون الجميلة في بغداد، وفي المعهد العالي للفن المسرحي في تونس، وفي مركز الدراسات الجامعية للبنات في جامعة الملك سعود في الرياض، ثم في المعهد العالي للصحافة في الرباط.
[4] مقال “أول استقصاء حول قراءة الملاحق الثقافية في المغرب العربي” بتاريخ 10 يوليوز 2022، ومقال “إشكالات إدارية كادت تعصف بحلم” بتاريخ 17 دجنبر 2023، ومقال “محمد الهجابي، أحمد تفاسكا وأنا” بتاريخ 23 دحنبر 2023 .
[5] عدة جرائد مغربية تحدثت عن الأطروحة: “الميثاق الوطني” ليوم 18 مارس 1993، المغرب (بالفرنسية) في 31 مارس 1993، البيان في 29 مارس 1993، أنوال ليوم السبت 4 أبريل 1993، “بيان اليوم الثقافي” يوم 5 أبريل 1993، لوبنيون يوم 15 ماي 1993، “لوماتان” يوم 29 ماي 1993، ملحق الإنجليزية الأسبوعي في جريدة “لوبنيون” يوم 31 أكتوبر 1993.
[6] أجرى مجموعة من المقابلات الإذاعية ومع بعض اليوميات. ينظر مثلا حوار العدد مع “الاتحاد الاشتراكي” يوم 3 يناير 1994 تحت عنوان “أصبحت الصناعة الإعلامية تساعد على الطاعة والتكيف مع الأنظمة السائدة”. وحوار مع “الأحداث المغربية” تحت عنوان “سلطة الإعلام مرتبطة بسلط أخرى أقوى نفوذا وتأثيرا منه” أجراه معه عبد السلام بنعيسى. وحوار أجرته معه مليكة الفكاك لـ”الأحداث المغربية” بتاريخ 29 أكتوبر 2000 تحت عنوان “العضق الإلكتروني حب عذري في زمن التكنولوجيا”.
[7] انظر التغطية في الملحق الثقافي لجريدة “الميثاق الوطني” ليوم الأحد 20 فبراير 1994.
[8] من حوار أجراه معه عمر أوشن لصفحة “إعلام” بجريدة “أنوال” يوم السبت 14 ماي 1994 تحت عنوان “الصحافة المكتوبة بالمغرب صحافة جريئة، ناقدة، لكن..”