في الذّكرى المائوية لرحيل فرانز كافكا.. شكّلت كتاباتُه الكابوسيّة ملاذاً أو إنقاذاً للكائن البشريّ (1-2)
د. محمّد محمّد خطّابي
-1-
بعد بضعة أشهر قليلةٍ ستحلّ الذكرى المائة لرحيل الكاتب الغرائبي التشيكي المُعنّى فرانز كافكا من مواليد براغ في الثالث من يوليو عام 1883، والمتوفىّ في الثالث من يونيو 1924 في كيرلينغ، النمسا، أيّ عن عمرٍ يناهز الواحد والأربعين عاماً. وعلى الرّغم من الجوّ السّوداوي الحالك الذي أحاط به، وبحياته، وأعماله، فإنه حاول في منتصف عمره الأوّل أن يكون شخصية كافكاوية، إلاّ أنه في الأخير فشل في مسعاه. إذ منذ بداية تعاطيه الكتابة تفتّق وانبثق وظهر ككاتب لغز، مُعذّب، ومُحيّر، وقلق، ومُعنّىَ خاض مختلف أصناف الإبداع المتأرجح بين الواقع البوهيميّ المعاش الملموس، والخيال الغرائبيّ والعجائبيّ غير المحسوس في ابداعاته، إلاّ إنه ليس من السّهولة واليُسر التعرّف على حقيقة كنه حياته المعتمة. الكاتب الألماني “غواشيم أونسيلد” الذي وضع كتاباً موفياً ومثيراً حول حياة هذا الكاتب السّوداوي الغريب يشير: “على الرّغم من العزلة، والمرارة اللتين تتميّز بهما حياة وأعمال كافكا، فإننا واجدون فيهما شيئاً مهمّاً وهو جانب الحبّ، والقدرة على الإستحواذ على الناس، وتحقيق النجاح والذيوع والإنتشار منذ ظهور كتابه الأول” تأمّلات” عام 1912.
المجد الأدبي
ويروي لنا غواشيم أونسيلد قصّة طريفة عن بداية حياة كافكا الإبداعية، فيشير أنه كان قد تقدّم لنيل جائزة فونتان للقصّة القصيرة عام 1915، واتفق الناشر مع حكام هذه المسابقة الأدبية على أن يعلن بأنّ إسم الفائز هو كارل سترنهيم، على أن يُسلّم مبلغ الجائزة لفرانز كافكا إعترافاً بقيمته الأدبية، وكان القصد من هذه العملية هو كسب اِسميْن بدل اِسم واحد لصالح دار النشر التي أشرفت على تنظيم هذه المسابقة. وكان فرانز كافكا قد شارك في هذه المسابقة الأدبية بقصّة قصيرة تحت عنوان: “وقّاد الآلات البخارية”.
حدّد بول فاليري أسباب نجاح أيّ كاتب فقال: لكي يضمنَ الانسانُ حياته ككاتب، ينبغي أن يتوفّر لديه عاملان إثنان، ولا يمكن تحقيق المجد الأدبي إلاّ بتلاحم هذين العاملين اللذين يبدوان وكأنّهما منفصلان الواحد عن الآخر. العامل الأوّل هو تحقيق الابداع ذاته، والثاني هو ضرورة إقناع الناس بفحوى هذا الإبداع وجدواه بواسطة الكاتب نفسه، أو عن طريق هؤلاء الذين قرأوا أعماله، وأعْجِبوا بها، بذلك تتحقق الشّهرة، ويتأكد النجاح والانتشار. وكان ناشر كافكا، “كورت وولف”، يقول: ان الكاتب الجيّد ينبغي له ان يظهر في الوقت المناسب، وعن طريق دار النشر المناسبة، وينبغي له أن يكون مُحاطاً بالحماس الذي هو قمين به، وعلى عكس ذلك فإنّ الأمر قد يغدو مجرّد نشر مطبوع ضائع لا جدوى من ورائه.
الاندحار العاطفي
كان كافكا نباتياً، عكس والده الذي إشتغلت عائلته طوال حياتها بالجزارة في بيع اللحم وتقطيعها وأكلها، وكان كافكا يؤمّ مراكز الطبيعيين، ويحبّ السباحة، والرياضة، والتجوّل في الهواء الطلق. إنّ اتصالاته وانقطاعاته عن “فليس باور”، التي تزوّجها عام 1919 كان لها تأثير بليغ على حياته، وعلى الرّغم من أنه كان يعرف أنه قد أصيب بداء ذات الرّئة، فإنّ مرض السلّ هذا لم يمنعه، ولم يثنه عن القيام ببعض المغامرات العاطفية الأخرى. كان كافكا خجولاً، منعزلاً، منطوياً على نفسه، إلاّ أنه لم يكن روحانياً محضاً، كان ساخطاً ناقماً متمرّداً، غير أنه كان يقاوم الاستسلام. كان واثقاً من نفسه، ومن إبداعاته، إلاّ أنه مع ذلك، كان يشعر بنوع من القلق ،والاِرتياب من مدى قبول هذه الابداعات ، وإستحسانها من طرف القراء.
اعترف فرانز كافكا ذات يوم لصديقه كورت وولف أنه أسعد ما يكون عندما ينصرف للكتابة، بل إن نسبة إنتاجه الأدبي رهينة بمدىَ قدرته على التأقلم مع المحيطين به، والتجمّع، والمشاركة.كان كافكا يعمل في بعض الأحيان لمدّة خمسة أشهر متتالية، ثم يدخل بعد ذلك في مرحلة من الخمول الأدبي. واتّضح أنّ غِنىَ، وعمق، وثراء إنتاجه الأدبي، شديد الصلة بمدىَ اِندحاره العاطفي أو تألقه، وأنه كلما خمدت عنده جذوة الطاقة الابداعية، وخبا أوارُها، فإنّ علاقاته الشخصية الخاصّة مع فليس باور تزداد قوّةً، ومتانةً، وزخماً وعنفواناً.
كان كافكا في صراعٍ دائمٍ مع نفسه، وذاته، وحياته، ومجتمعه، ومعاناته الكتابية بشكل خاص. تساءل ذات يوم احد النقّاد: هل كان كافكا يكتب ليكون محبوباً، أم بهدف تحقيق الشّهرة، والمجد، والذيوع، والانتشار أم كانت الكتابة عنده نوعاً من إثبات الذات، وتأكيد هويّة؟ هذا النوع من التطلعات هي التي طبعت حياة كافكا في العمق.
رائد الكتابة الكابوسيّة
لا شكّ أنّ أشهر أعمال كافكا الرّوائية قصّته التي تحمل عنوان: (Die Verwandlung) – التحوّل أو المسخ 1915 التي أصبح بها حسب إجماع النقاد رائداً في الكتابة الكابوسية، تتناول هذه القصّة حياة بائع يسافر ليجد نفسَه فجأةً قد تحوّل إلى كائن غير مرغوب به، وتحديداً على شكل حشرة قبيحة مُرعبة. ولقد أجمع معظم نقاد الأدب على أنّ هذه القصة تُعتبر من أكثر الأعمال الخيالية إثارةً وتأثيراً في القرن العشرين. واجه فرانز كافكا فيها الموت ليس كموقف درامي، بل إنّه حاول استيعاب أو فهم هذا الشعور المأسوي، أو الحدث الدرامي، ولم يجد في الأدب وسيلة فقط لتحقيق ذاته، أو غايته،أو مراده، أو مأربه، بل إنّه ألفىَ في الكتابة نوعاً من الفرار أو الخلاص، أو منفذاً، أو ملاذاً، أو إنقاذاً له من فداحة الموقف الذي يتردّى فيه هو ومعه كلّ البشر .
حيال هذا الغموض كان على كافكا أن يجد الإجابة بواسطة هذا الغموض بعينه، فالحديد لا يُفلّ إلاّ بالحديد. وهكذا فقد كان الأدب عنده هوضربٌ من الغموض نفسه مثلما هو الشأن لدى الشاعر الألماني ريلكه، أو الفرنسي مالارميه، اللذين كانا يريان أنّ الأدب الغامض، أو الأدب الجيّد لا يمكن فهمُه أو إدراكُه أو الوصول إليه إلاّ بقدرٍ باهظٍ من الفطنة، والتفكير، والمعاناة، والمكابدة. فكثير من الأعمال الأدبية العظيمة هي أعمال غير مريحة، أوغير سهلة أو مستساغة الفهم عند الكثيرين، والتفكّك، الذي قد تحدثه بعضها لدى قرّاء هذا النوع من الأعمال قد يكون في النهاية عنصراً نابضاً من عناصر الأمل أو فسحة منه للتغلّب على عذاباته، وعلى ذاته، وهو يرى والحالة هذه أنّ ذلك لم يكن نوعاً من المداهنة أو المصانعة، أو المحاباة وإنّما كان مجرّد شكل من أشكال الإدراك أو الإقتناع مفاده بأنْ لا أحد، بين الأحياء ، يستطيع أن يتخلّص منه.
لا ريب أنّ أعمال كافكا تحمل في طيّاتها بذرة الموت، والموت عنده هو الجانب السّلبي والسّحري والقّسري للحياة. وهو لا يَسلب المرء حياته وحسب، بل يسلبه حرّيته كذلك، وهكذا تصبح الحياة غارقة في هوّات الفراغ ومتاهات السوداوية، والتفاهة، والعبث، كما أنها تغدو في آخرالمطاف غير ذات مدلول.
الناقد الفرنسي “موريس بلانشو” كان قد قام بمراجعة متأنيّة لبعض كتابات كافكا مثل اليوميّات ومراسلاته، وكتاباته الذاتية، في محاولة منه لاستكناه عمقها، اأسرارها، واستغوار غوامضها، وتجسيم هوَسه في مناغاة العزلة، ومعانقة الآلام، وانتهىَ إلى نتيجة مفادها أنّ الكتابة عنده كانت بمثابة مكافأة عذبة ورائعة، ولكنّ كافكا سرعان ما يتساءل: مكافأة على ماذا؟ ويجيب في الآن نفسه: في الليل كان واضحاً لي أنها مكافأة على خدمة الشّيطان. ويضيف قائلاً : ربما توجد كتابة أخرى أيضاً، لكنّني لا أعرفها .
تأمّلات.. آلامٌ مُبرحة
في خريف 1912 وبعد مرور عدّة أيام من غير أن تصله أيّة تعليقات من خطيبته فليس باور حول كتابه تأملات، كتب إليها كافكا يقول: “الحقّ أنّ هذا الكتاب يبطّنه تشوّش لا يمكن التحكّم فيه، بل بالأحرى قد تجدين فهذا الكتاب نظرات ينبغي الاقتراب منها كلّيًا حتى يمكنكِ رؤية شيء. على كلّ حال إننى أقدّر عدم معرفتك بماذا ستفعلين بهذا الكتاب، إلاّ أنني مع ذلك لن أفقد الأمل، إذ أنه في لحظة حِلم،أو تسامح، أو أريحية، أو ضعف، أو تواضع من طرفك عندئذٍ سوف تشعرين أنّك تميلين لمحاولة فهمه، ولن يكون هناك أبداً أحد يعرف ماذا يفعل بكلّ هذا، إنه شيء لي، ومني، وسيظلّ واضحاً أمامي، ونصب عيني إلى الأبد. إننى لآسف كثيراً عن تضحية ناشر مبذر، وإنّ مجرّد التفكير بأنّ كلّ محاولاتي قد باءت بالفشل يسبّب لي آلاماً مُبرحة، ولكنّني أعزّي نفسي بأنّني وأنتِ في آخر المطاف لنا قاسم مُشترك، على الرّغم من أنه لو أعجبتكِ درّاعة ولم ترقني أنا إلاّ أنه فقط لأنك ترتدينها حينئذٍ يفرحني أن أراها عليك، وهكذا فإنّ كتابي في حدّ ذاته حتى وإن لم يعجبك، فإنه يكفي أن يكون من تأليفي، عندئذٍ لا أشكّ في أنه يروقك، وهذا ما يُقال عن مثل هذه الأشياء في مثل هذه الحالات”.
ويعبّر غير قليلٍ من النقاد عن انبهارهم إذ من غرائب الصّدف أن يكون هذا الكتاب من أكثر كتب كافكا انتشاراً، ولم يكن يقصد من تأليفه حث اهتمام الأوساط الأدبية به وحسب، بل كان يسعى كذلك إلى رفع الحجر عن وضعه كموظّف إداري بسيط. طبع في البداية من هذا الكتاب 800 نسخة فقط عام 1912، وظلت حتى عام 1926 دون أن تنفذ، إلاّ أنه بعد مرور عامين على وفاته 1924 لم يحقق أيُّ كتابٍ من كتب كافكا المنشورة الأخرى النجاح الذي حققه هذا الكتاب بالذات بشكلٍ منقطع النظير ! لقد طلب ذات مرّة كافكا من صديقه الحميم المقرّب “ماكس برود ” تدمير وإتلاف أو إحراق مخطوطات كتبه لعدم تحقيقها في حياته النجاح الذي حققته بعد مماته، إلاّ أنّ ذلك لم يحدث، بل لقد عمل برود وفاءً لصديقه كافكا على نشر أعماله الإبداعية بعد رحيله على إثر المرض العضال الذي كان قد نهش جسمَه النحيل وسلّمه لبراثن العذاب والمعاناة ثمّ الحِمَام في آخر المطاف.
معاناة وإبداع
عانى كافكا الكثير من سلطة والده الاستبدادي، وهو ما يبرزه كافكا بصورة خاصة في كتابه الحُكم Das Urteil أو المحاكمة، حيث يقبل الشاب حكم الموت الذي أصدره عليه والده. كلّ هذه المعاناة تلظّاها كافكا من أجل إبلاغ صوته، وكتبه، وإبداعاته للقرّاء ليس في بلده وحسب، بل إنّ هذه الكتابات قد تخطّت كلّ الحدود واكتسبت شهرة عالمية واسعة. هذا فضلاً عن معاناته الشديدة كإنسان، وككاتب يتفاعل، وينفعل مع نفسه، ومع ذاته، ومجتمعه، وكينونته، ومع العالَم المحيط به، ولقد اعترف الكاتب الأرجنتيني الرّاحل خورخي لويس بورخيس، في أحد مقالاته عن فرانز كافكا، بأنّ هذا الكاتب المُعنّى كان أستاذه، ومُعلّمه ومُلهمه في هذا المجال.
صارع كافكا الحياة، وصارع الدّاء والأعداء الذي كان ينهش أحشاءه. وكافح بكلّ ما أوتي من قوّة حتى لا يُساق أو يُقتاد إلى المُحاكمة من دون اقترافِ أيِّ ذنب أو جُنحٍ، أو جُرمٍ، أو جِنايةٍ، يُساق إلى حبل المشنقة قهراً، وقسراً، وعنوة بعد أن أُرْغِم على ارتداء ثوب العيْش دون إستشارته كما قال قبله بقرون الشاعر “عمر الخيّام”! في رباعيّاته: لبِسْتُ ثوْبَ العُمر لم اُسْتشرْ/ وَحِرْتُ فيهِ بين شَتىّ الفِكَرْ. ! لقد كافح كافكا من أجل تثبيت قيم إنتاجه الأدبي، كما أنه لم يهدأ من خوض هذه المعركة مع نفسه، ومع المجتمع، ومع أعدائه، وخصومه، لم يهدأ سوى عندما أُخبر عام 1917 أنه يعاني من مرضٍ عُضال لا شفاء ُينتظر منه وأنّ الموت قادم إليه بعيونه الجاحظة المُرعبة لا محالة . (يتبع)