الموضوع أبعد من تصريح وليد الركراكي…

الموضوع أبعد من تصريح وليد الركراكي…

عبد السلام بنعيسي

    استقبلت جماعةُ (كلنا إسرائيليون) في المغرب، بحفاوة بالغة، التصريح الذي أدلى به وليد الركراكي في بطولة كأس إفريقيا للأمم، المقامة في كوت ديفوار، والذي قال فيه، إن المنتخب المغربي لا يمثل العرب في كأس إفريقيا، وأنه فرِحَ لانتصار المنتخب الكونغولي على مصر، واحتفلت الجماعة بهذا التصريح، احتفالا كبيرا، وعدّته عين العقل والحكمة. وتجلّى الاحتفال بتصريح الركراكي وعبَّر عن نفسه في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي القنوات التلفزيونية التي تبث في اليوتيوب، والتي يشرف عليها ويديرها أعضاء الجماعة إياها، وبدا هذا التصريح وكأنه كان منتظرا منها، وأنها تلقت التعليمات لإبرازه، وللعناية به عناية خاصة…

   إذا استحضرنا أن هذه الجماعة تعكس رأي جناحٍ نافذٍ بالمال وبالجاه في السلطة المغربية، يجوز لنا القول، إن تصريح الركراكي، جاء بدوره، تلبيةً لرأي هذا الجناح السلطوي وإجلاءً له. فكرةُ القدم كانت، منذ زمن بعيد ولا تزال إلى اليوم في بلادنا، مجالا للسيادة، إنها تستقطب اهتمام شريحة واسعة من الرأي العام المغربي، وخصوصا الشباب منه، وتجعل منه مهووسا بها وبأخبارها، وبما يحوم حولها، ولذلك، لا يمكن للناخب الوطني أن يقول، في هذا السياق، إلا ما يشعر أنه يتماشى مع رغبات أهل السلطة ويُجسِّدُ رأيها. فلو كان وليد الركراكي يعلم أن تصريحه هذا سيزعج الذين بيدهم الحل والعقد ويُغضبهم، ما كان ليدلي به إطلاقا، وقد لا يكون في الأمر تجاوزٌ على الحقيقة القول، إن الناخب المغربي، أدلى بهذا التصريح، بناء على تعليمات صدرت إليه من جهات نافذة، فما كان منه إلا الاستجابة للأوامر التي أتته منها.

   وصول المغرب في مونديال قطر إلى المربع الذهبي، والتشجيع الذي حظي به من طرف الجماهير في كافة المدن العربية، والتغطية الهائلة التي خصصتها الفضائيات العربية، ومواقع التواصل الاجتماعي،  لهذا الإنجاز، باعتباره إنجازا مغربيا/عربيا، والابتهاج به عربيا، ومع رفع الأعلام الفلسطينية في تلك التظاهرة الرياضية العالمية، وتأكيد الجمهور العربي رفضه التطبيع مع الكيان الصهيوني خلالها، أزعج الدوائر النافذة في السلطة المغربية، فحرّكت، حينئذ جمعياتٍ تابعة لها، لتحتجّ على ربط اسم المغرب، بعالمه العربي، ودفْعها لبعثِ رسائل وعرائض إلى مدراء بعض الفضائيات، تستنكر فيها وصف المغرب بالبلد العربي، وتطالب بالكفِّ عن ذلك، لأن المغرب، في نظر تلك الجمعيات، ليس عربيا… 

  وتأسيسا عليه، يبدو أن تصريح  وليد الركراكي، ومن الجهة التي أوحت له به، موجَّهٌ إلى الدوائر المتحكمة في العالم، وأساسا أمريكا وبريطانيا وإسرائيل، للقول لها، إن المغرب ليس مهتما بالشأن العربي، ولم تعد تعنيه مشاكل وأزمات الشرق الأوسط، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وأنه ينأى بنفسه عنها، وأنه ليس كما يقع الترويج له في المشرق، بلدا عربيا، بل إنه غير ذلك، وفي الطريق، للبحث لذاته عن هوية أخرى جديدة، مغايرة للهوية التي كان عليها طوال تاريخه الممتد لقرون عديدة، حيث ظلَّ يعتبر نفسه جزءا لا يتجزأ من العالم العربي والإسلامي….

   إشارات عديدة تصبُّ في هذا الاتجاه الساعي لتغيير هوية المغرب تصدر عن السلطة في المغرب، وليس أقلُّها هذا الاندفاع المحموم في التطبيع مع الكيان الصهيوني، والذهاب بعيدا فيه، وعدم تأثير المجازر البشعة في الشعب الفلسطيني في مساره، بل إعطاء الأوامر لمكتب الاتصال المغربي في تل أبيب لاستئناف أنشطته في خضم الحرب الهمجية المشنة على الفلسطينيين في قطاع غزة، والتطاول على اللغة العربية، والتحرش بالدين الإسلامي، من خلال ما يسمى مشروع إصلاح مدونة الأسرة، ناهيك عن الدور الذي يقوم به الإعلام الرسمي من ترويج للميوعة، والتطبيل، لكل ما هو هابط ، وسطحي، وسافل..

   إذا كانت الدولة المغربية لم تعد راضية عن انتماء المغرب لمحيطه العربي والإسلامي وتريد التخلص من هذا الانتماء، ومراجعة الهوية المغربية، وإلباس الشعب المغربي هوية جديدة، لماذا لا تقولها، بشكل صريحٍ لمواطنيها، وتسلك هذا الخيار، وتتبناه علانية؟ ولتبدأ بتغيير الدستور الذي ينصُّ على أن هوية المغرب: (( عربية- إسلامية، وأمازيغية، وصحراوية حسانية، وغنية بروافدها  الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية))، ولتستبدلها بهوية أخرى تعجبها وتجده نفسها فيها، ولتمحي من دستورها النصَّ الذي يؤكد على ضرورة “تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية، وتوطيد وشائج الأخوة والتضامن مع شعوبها الشقيقة”، ولتتخلى عن الفقرة الدستورية التي تعتبر “العمل على بناء الاتحاد المغاربي كخيار استراتيجي”، ولتعلن الانسحاب من الجامعة العربية، ومن رئاسة لجنة القدس، ولتبحث لها عن لغة، للاستعمال والمخاطبة، غير اللغة العربية، ولماذا لا تتخلى عن الدين الإسلامي كمكون رئيسي في الهوية المغربية؟؟؟

   المثير هو أنه، عندما يتعلق الأمر، بالقصف الأمريكي في العراق، والإسرائيلي في سوريا وفي قطاع غزة، فإن وزارة الخارجية المغربية تصمت صمت القبور، أو تتحدث في أحسن الأحوال عما يجري في غزة بلغة لينة وملساء، وتدعو إلى ما تسميه “خفض التصعيد”، وتجنُّب “إلحاق الأذى بالمدنيين في الجهتين معا، بدعوى أن المغرب غير معني لما يجري في المشرق، أما عندما يكون الأمر مرتبطا بعملية قامت بها المقاومة العراقية ضد القوات الأمريكية في الحدود مع الأردن، فإن الخارجية المغربية تدين، بفصاحة، وبأقوى العبارات هذا العمل، وتنعته بالإرهابي، وتعلن عن تضمنها مع الدولة الأردنية، ويصبح المغرب نتيجة لذلك مشرقي الهوى والمشاعر…

   هذه المواربة من طرف الدولة المغربية تبيِّن أنها في حيرة من أمرها، وتعيش في قلق وغير واثقة في ذاتها. يتعين على الدولة أن تكون منسجمة مع نفسها، وواضحة مع الشعب الذي تحكمه، ولتقنعه برأيها، هل هي دولة منتمية لعالمها العربي وجزء لا يتجزأ منه، أم أنها ليست عربية، وأنها شيء آخر لم تحدده بعد لمواطنيها. لا يجوز للدولة أن تأكل الشوك بفم الناخب الوطني وليد الكراكي، فهذا موضوع أكبر منه، ومن العيب حشره فيه ظلما وعدوان.

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد السلام بنعيسي

صحافي وكاتب مغربي