قصة قصيرة: محكمة الجن
حسن البقالي
في ذلك اليوم كان ثمة بغال تصعد الجبل، تدوس الأتربة والحجارة والروث الذي خلفته الرحلات السابقة وتغذ السير في صمت كما لو أنها محض أطياف زرقار في حلم. خلفها أصحابها بأعينهم المشدودة إلى الأرض وعصيهم التي بالكاد تُرى، متبوعين بالزوار القادمين من أصقاع بعيدة.
كانت تلك القافلة الصغيرة تغالب المرتفع ووعورة المسالك وبرودة الجو برباطة جأش من كُلف برسالة يبلغها مهما كانت المشاق. أناس بسطاء في مجملهم أتوا من جهات مختلفة بنفسيات مهدودة وأحلام شتى، لكن بوجهة موحدة هي الصخرة البيضاء قرب الجامع.
ثمة رائحة ما في الجو
عبق غريب وتقلصات في الأحشاء لا تفسير لها سوى أن ذلك الحشد الصغير الجاد في الصعود يدخل زمنا آخر، غير أرضي، ملتبسا ومفعما بالحكايات الغريبة والأبخرة والتعاويذ. كانت الأرض تبدل جلدها وأشياء خارج المألوف لا بد أن تقع: قريبا يكونون في حضرة ملك الجان وقاضي القضاة شمهروش
***
في ذلك اليوم كان ثمة ثلاث نساء يصعدن الجبل. الفتاتان السكندنافيتان لم تكونا ضمن المجموعة ولم تكونا لترضيا من الجبل بصخرة واحدة. ببشرتهما الشمعية المضيئة وأقدامهما المتحفزة جعلتا تداعبان منعرجات الطريق صعدا، سعيدتين وخفيفتين. ستنصبان خيمتهما التي تسع شخصين في ظل شجرة عرعار أو جدار من طوب يشرف على المهاوي ويقف شاهدا وحيدا على العابرين. تنعمان بليلة هادئة ريثما تستأنفان السير باتجاه القمة صباح الغد.
لقد باتتا ليلتهما الأخيرة في “إمليل” تلك القرية الواقفة بين أذرع الهباء تقدح فيه المعنى وتحرض القلب المنهك على الرجوع إلى صباه، القرية الشبيهة بمدينة يمنية عريقة زرعتها بلقيس خفية في تلك الأعالي لتضفي بهجة ورونقا على الصخر.
تناولتا إفطارا تقليديا أثثه البيض والمسمن وأملو وزيت الزيتون والعسل، وقامتا بجولة أخيرة في الأنحاء
كان كل شيء يوحي بالنقاء ويعيد الإنسان إلى حقيقته الأولى: أنه ابن الطبيعة ولفح الرياح، لا البنايات الشاهقة وعوادم السيارات. إن هواة تسلق الجبال لا تستهويهم المدن وغرف الفنادق. هم أهل قمم، يسألون عن الجبال فقط، تلك قبلاتهم ومزاراتهم المقدسة. هكذا كتبت الفتاة العشرينية من الدنمارك على صفحتها قبل أسبوعين أو ثلاثة :” ماذا عن جبل توبقال؟” فردت صديقتها النرويجية: “لم لا؟ توبقال إذاً” وبعد فترة ترتيب يسيرة للرحلة حلتا بمراكش.
***
المرأة الثالثة امرأة مغربية
قدمت من فاس، من حي المصلى تحديدا حيث فتحت عينيها أول مرة، وحيث شبت وتزوجت. كان أبوها قد نزح من “قرية أبا محمد” أيام سنوات الجفاف التي شهدت هجرات متتالية من القرى إلى ضواحي المدن. اشتغل بائعا متجولا لمدة سنوات قبل أن يتمكن من فتح دكان صغير لبيع الخضار وينجب نصف دستة من الأولاد.
لم تدخل مدرسة قط، ولا قضّت مضجعها الهواجس. فالله يحيط بكل شيء علما ويقدر مصائر العباد، وحين يشاء سيبعث إليها بزوج ينتشلها من البؤس والعنوسة، وينجب منها نصف دستة أخرى من الأولاد.
لم يقيض له أن يعيش طويلا ذلك الزوج حين أتى بعد طول انتظار ولم ينتشلها من البؤس، بل أسكن نهاراتها قلقا وخوفا ولياليها كوابيس. كان عنيفا يعاشر رفاق سوء من حي “بن دباب” المجاور، وانتهى به المطاف قتيلا بسكين جهة القلب.
بعد ذلك بمدة سقطت يامنة سقطتها الأولى
تشنج جسدها وتقلصت أناملها وخرجت الكلمات من فمها ثقيلة وغامضة كما لو أنها تطلع من بئر مهجور في الفلوات البعيدة. كان ذلك إيذانا بحلول ضيف جديد على الأسرة: الجني الذي احتل الجسد
***
أخذت الفتاتان غرفة بفندق غير مصنف قريب من الساحة الشهيرة. راعهما ما وجدتاه من طيبة أهل مراكش وروح النكتة التي تطبع حواراتهم. لقد استمتعتا برقصات الثعابين على أنغام المزامير وتركت إحداهما الحاوي يلف ثعبانا على رقبتها وهي – التي تخاف الثعابين أكثر من أي شيء آخر- لا تصدق ما يحدث. داعبتا القرود وسلمتا أيديهما لنقاشات الحناء وقارئات الكف وأوراق اللعب، وختمتا رحلة المساء بازدراد رأس خروف مطهو على البخار وزلافة من حساء الحلزون بالزعتر البري والتوابل الحارة. كانتا توثقان كل ذلك بصور تظهر في الحين على مواقع التواصل الاجتماعي، وكانتا في غاية السعادة
في الصباح قالت إحداهما للأخرى:
نحج إلى إمليل، نقترب قليلا من الجبل
“ويا قمة توبقال نحن قادمتان”
كانتا سعيدتين
وكان كل من يصادفهما يرى ذلك بوضوح
***
في لحظة خيل إليهما أنهما رأتا ثلاثة شبان ملتحين يرقبونهما بحذر، رأتا بغالا محملة ولوازم تسلق للكراء وأشياء للذكرى وامرأة يأكل الحزن ملامحها
تذكر يامنة أنها أسرت لنفسها حين رأتهما: “يا للزعراوين السعيدتين” وسرحت خلف خيط ذكريات مرهقة. نظرت إلى ذكر الماعز الذي يطل من الجوال على ظهر البغل وغمغمت دون يقين “لعل الفرج قريب”
كانت تسقط أحيانا في إغماءات قصيرة أو حالات تشنج تنطق فيها بأشياء غريبة ثم تقوم لا تعقل على شيء. أحيانا تسألهم: “ماذا قلت؟” أو “ماذا فعلت؟” فيقترحون عليها أن تنظم الليلة )حفلة زار( استجابة لرغبة الأسياد، وتهتم بالأبخرة أو تقصد أحد الرقاة وصارعي الجن لطرد الجني الذي يلبسها والذي أحال حياتها إلى نفق معاناة لا مخرج منه. كانت تشعر أحيانا بحرارة مرتفعة وغريبة في جوغرفتها، وبوجود خفي لأشباح لامرئية تحدق فيها في الظلام، ثم تشعر بتنمل في الأطراف وبأنها امتلأت فجأة بشيء لا مرد له. قصدت مزارات أولياء وقبلت درابيز أضرحة وظلت في أحلامها الأكثر سرية وحميمية تتساءل: هل الرجال يتحاشونها لما يحدث لها أم أن ما يحدث لها يجعلهم يتحاشونها؟
– هناك محكمة للجن في جبال الأطلس يمكن أن تقصديها لمحاكمة الجني الذي يسكنك
قيل لها.
***
تعقد المحكمة كل خميس، فلكل من ملوك الجان السبعة يوم خاص، الثلاثاء مثلا لأبي محرز الأحمروالأربعاء لبرقان أبي العجائب والجمعة للملك الأبيض والسبت لسيدي ميمون أبانوخ.. ولأكبر ملوك الجان قاضي القضاة أبي الوليد شمهروش يوم الخميس، يحضر ليفصل بين الجن والإنس في محاكمة عادلة تراعى فيها قيم الدين الحنيف
هناك في تلك القرية الصغيرة المقتطعة من الصخور تطالع الزائر بعض المساكن المبنية بالطوب وجامع صغير بمئذنة تكاد لا تبارح السقف لصيق بصخرة تعلوها البيارق الخضراء والبيضاء.
تلك هي الصخرة البيضاء محج الزائرين
لقد قدمت يامنة ذكر الماعز الذي ذبح يوم أمس قربانا واشترت بضع شمعات وأعواد ند وعلبة حليب. وهي الآن داخل التجويف الصخري الشبيه ببطن حوت ضخم والذي كان معبدا لشمهروش، تتملى في الحيطان الموشومة بتدوينات قيل لها إنها آيات قرآنية وأدعية. ثمة زوار آخرون يحملقون في الحيطان أو في حيطان داخلية تعيق سيرهم في الحياة، ويأملون خيرا من المقام، وفرقة موسيقية بآلات إيقاع ولباس أبيض موحد تنتظر دخول الوقت. سترعد السماء وتبرق ويشعر زوار الصخرة بتغير مفاجئ في جينات الهواء ينعكس على وعيهم وسلوكاتهم. كأن بهم خدرا آنئذ وكأن بهم عطشا لشيء غير محسوس غامض وقاهر، حاجة عاجلة إلى التمرغ على الأرض، إلى الصراخ عميقا من الأغوار القصية للذات والتجرؤ على الكلام الوحشي الغريب، على الحضرة والتحير حتى قذف الجني من الذات مثلما تقذف كرة النار من منجنيق مغتاظ، حتى الإغماء. يعرف الجميع آنذاك –بيقين راسخ- بأن ملك الجان قاضي القضاة قد حضر. الغربان أيضا تعرف ذلك، هي التي تحوم بالخارج تملأ الفضاء العاري بالنعيق كأنها مسكونة بآلاف الأرواح الشريرة.
***
نصبت الفتاتان خيمتهما. قبل أن تأويا إليها لأجل نومة مريحة استعدادا لرحلة الغد باتجاه الأعالي، تمتعتا بالمنظر الصخري والصمت الشاهق والغطاء الرحيم لسماء من قطن رمادي. حلقت غربان ثم اندست في تجاويف الصخور، وبالقرب، على مرمى حجر لاح لهما الشبان الثلاثة ينصبون خيمتهم للمبيت.
في بحر الليل العميق، كانتا نائمتين حين أيقظهما طرق بباب الخيمة. كأن حجرتين ارتطمتا ببعض أو قطعتين من حديد وفولاذ. لم يكن حلما، كانتا مستيقظتين، بكامل حواسهما وقواهما العقلية والطرق متواصل والمنطق يقضي بأن تخرجا من الخيمة لاستطلاع الأمر وهما بعيدتان.. بعيدتان عن الدانمارك عن النرويج عن الأهل والأصدقاء وزملاء الدراسة بعيدتان عن ساحة مراكش وروح النكتة ودروب إمليل وعن المشاعر الطيبة التي أورقت في قلبيهما منذ وطئتا أرض البلد المضياف.
ثمة خوف فقط
وتوقع شر لن يخطئ طريقه.
ما إن أطلت أولاهما بأرنبة أنفها من الخيمة حتى هوت عليها السماء من فوق
لم يكن حلما بالتأكيد
كان كابوسا، أشد الكوابيس جثوما على الصدر، آخر الكوابيس وأقساها
لقد رمقهما الشبان الملتحون الثلاثة من قبل وتتبعوا خطواتهما حين لاحظوا انعزالهما عن الجمع ورأوا فيهما التجسيد الأمثل لاعتقادهم الراسخ. على غرار القرابين التي تقدم للصخرة بالأسفل، سيجعلون منهما قربانين لدخولهما سلك الجهاد ” الكافرتان عليهما لعنة من الله وخزي عظيم”. ذبحوا الفتاتين، بوحشية منقطعة النظير ذبحوهما من الوريد إلى الوريد، دهسوا الجسدين، أمطروهما ضربا وطعنا، أمطروهما موتا.
كانت يامنة تتمرغ داخل االتجويف الصخري تدفع الجني من تجويف الجسد، والفتاتان الشمعيتان تنتفضان من حر الذبح تدفعان بشكل يائس ثلاثة عفاريت من أشرار الإنس.