عن الطيُور والعَصَافِير رفيقتنا في طفُولتنا البَعيدة

عن الطيُور والعَصَافِير رفيقتنا في طفُولتنا البَعيدة

د. محمّد محمّد خطّابي 

     سألني أحد الأصدقاء الأصفياء من عشّاق الطبيعة، وسِحرِها، ومباهجها: إذا ما كنتُ ما زلتُ أتذكّر أسماءَ بعض العصافير، والبلابل، والطيورالصغيرة المُغرّدة التي كانت ترافقنا أيّام طفولتنا المُبكّرة البريئة البعيدة، وإبّان مرحلة الصِّبا في شرخ العُمر، وريعانه فيما مضى من أيام الله الخوالي حيث كنّا نصطادها، ونتابعها، نتابع طيرانها، وننتشي بزقزقتها، ونقتفى آثارَها فى الغابات الكثيفة، والبساتين الباسقة، والحدائق الغنّاء التي كانت تحيط بمدينتنا الجميلة الحسيمة الخزاميّة الفيحاء الواقعة على أحد أجمل خُلجان العالم  شمالي المغرب، حيث استُبدلت هذه الحدائق والغابات اليوم بجدران الأسمنت المُسلّح الخَشِن، وبالأورْمِيغُون الجافّ الصّلد، والمرمرالمسنُون، والجبس الموضُون، والزّجاج السّميك المُغبَر،والحديد الذي يكسوه الصّدأ، الذي أصبح يملأ واجهات دورنا ومبانينا التي لم تعد كما كانت عليه بالأمس القريب فى مدننا، وقرانا، ومداشرنا، وضِيَعنا، وأرباضنا.

غصُونٌ مُخضرّةٌ مائسة وأفنانٌ نَضِرةٌ ناعسة

    تلك العصافير الحلوة الناعمة المُلوّنة  المُرهفة الجميلة  التي كنّا نستمتع بها، وبالنظر إليها وهي تنطّ، وتقفز، وتنتقل  بين الغصُون المُخضرّة المائسة، والأفنان النّضِرة الناعسة، وهي تُبهجنا بصفيرها العذب، وزقزقتها الرّخيمة، وغنائها  الطروب، وتغريدها الحُلو الذي لم يكن ينقطع فى في عهود طفولتنا البعيدة الأولى، وفي جِنان وبساتين ريفنا الوريف، وفى مختلف ربوع، وأصقاع  ونواحي ومناحي مدننا وحواضرنا.

  عندما وصلني هذا السّؤال المُثقل بحمُولاتٍ وقبسَاتٍ مُترفة، ومشاعرمُرهفة من الحنين المفرط نحو ماضَ جميل ضاعَ مع طيّات الزّمن وأنوائه، حينها لم أتردّد فى  الإجابة عنه، فقلتُ للصّديق العزيز: فعلاً  من الأسماء التي ما زلتُ أذكرها من هذه العصافير، والبلابل، والطيور خاصّة تلك التي لقنني إيّاها والدي رحمه الله هي ما يلي:  هناك عصفور جميل جدّاً حَسَن الصّوت، عذب الغناء وحلو الزقزقة يُسمّى بلغة أهل الرّيف (مَنْقَبْ) ويُسمّىَ فى مدينة تطوان الجميلة (مَقْلال)، ويقال له فى مدن مغربية أخرى مقيلل، وهو نفس العصفور الذي يُسمّى فى بعض البلدان العربية الشقيقة “رُوبين”، كما يُسمّى “عصفور الحَسُّون”. وهناك طائر يُسمّى “قوبع” (حتىّ زمنٍ قريب كنّا نراه على جانبيْ الطرقات، وفى المراعي والحقول وهو يقفز من غُصنٍ إلى غصن، أو ينطّ على الأسفلت القارّ، ويشرئبّ بعنقه  النحيف إلى أعلى ليستطلع المَخاطر والأهوال)، وهناك طائر السّنُونُو” أو “الخطّاف” الذي كان يحلّق على علوٍّ مُنخفض بجانبنا بسرعةٍ خاطفة،  وهناك  طائر مُهاجر كان يصل الى منطقتنا مع بداية فصل الرّبيع أو عند مقدم النّيرُوز وهو “تقشّارث” ويطلق عليه أهل تطوان الكرام” عايشة القرعة” ويُسمّى الذكر منه “تقشارث تحُورّيثْ” أيّ الطائر الحرّ لوسامته، ونقاوته، وصفاء ريشه، وجماله المُفرط، وهذا الطائر شبيه بصقر مُصغّر لمنقاره  المعقوف الحادّ.

 زرياب: طائرُ أسودُ حَسَن الصّوت

   وهناك طائركبير الحجم نسبياً  يسمّى “سقساق”، وهو أسود اللون عذب الصّوت، وربّما يُسمّى فى المشرق العربي “زرياب” ( نحدر هذا الإسم من أثلٍ فارسيّ مُعرّب) ويُقال له كذلك “الشّحرور”، ولهذا أطْلِق اسمُ زرياب على شخصية شهيرة في التاريخ العربي في المشرق والمغرب على حدٍّ سواء ، وهو شخصية فذّة مُتعددة المواهب، تتلمذ على يد إسحاق الموصلي وهو الذي أدخله إلى قصر الخليفة هارون الرّشيد الذي أعْجِب به وبصوته كثيراً، ولكن عندما تفوّق التلميذ على المُعلّم  وبذّه كانت بداية المشكلة،  إذ شعر الموصلي بالغيرة والحقد نحو تلميذه فهدّده وطلب منه مغادرة  بغداد  التي خرج منها إلى المغرب، ومن المغرب توجّه إلى الأندلس حيث أحدث بها ثورة عارمة فى الغناء، والموسيقىَ، والطرَب، وتصفيف الشعر، وأصول اللبس، والمُوضة وفى مختلف فنون العيش الرّغيد، أيّ في كلّ ما أصبح يُعرف اليوم بـ “الإتيكيت”.  وهو الذي قام بإضافة الوتر الخامس إلى العُود ليكمِّل بها مجموعة رائعة من النّغمات التي تخرج من هذه الآلة الموسيقية الفريدة  لزيادة توسيع مجال الحرية في أداء القطع الصّوتيّة  فيها، وهو أوّل من قام بتأسيس مدرسة للموسيقى  والغناء في الأندلس.

 

المُلكُ لكْ.. المُلكُ لكْ وذُكرُ الله

    وهناك  طائر يُسمّى فى المشرق العربي “الكرَوَان” ويشير الناس إنه عندما يشدو يقول فى غنائه: (المُلْكُ لكْ.. المُلكً لكْ)، وهناك قصّة طريفة لعميد الأدب العربي  الدكتور طه حسين رحمه الله بعنوان “دعاء الكروان” نقلت إلى الشاشة الكبيرة عام 1959، وهناك صنفٌ من اليمام أو الحَمام البرّي يقال له ( تُورّا) يسمّى في اللغة الإسبانية (Tórtola) ويربّيه أهل تطوان  وينعتونه: بـ (ذُكْر الله) وكأنّه يذكرُ اللهَ عند نَوَاحِه مثل طائر الكروان.

    وكانت هناك عصافير صغيرة الحجم تُسمّى (تزِيقارْثْ)، و(تُونّير)، و (تَايْ تَايْ).. ويقال عن هذا العصفور الأخير أنه  نطّ  ذاتَ يومٍ  وحطّ على طاولة كان بها كؤوسٌ بداخلها  بقايا شاي فشرب منها حتى الثمالة ودلق الشّاي على صدره فترك علامة لونه الأصفر مرسومةً عليه فظلّ  بهذا الشكل الجميل الذي نراه فيه اليوم، ولذلك يُسمّى فى الريف (تَايْ تَايْ)  أيّ أتاي أتاي أو الشّاي الشّاي، ويُسمّى هذا الطائر في المشرق العربي (أبو الحنّاء)، وهناك طائر مشهور كنت أراه بكثرة في مختلف مدن أمريكا اللاّتينية  يقال له في ريف المغرب “زُوكي” ويُسمّى فى مدن شمال المغرب وجنوبه “الزّاوْج”، ويقال له في اللغة الإسبانية Gorrión والغريب يقال له في مدينة تطوان  “البُرطال”، وربما لحق به هذا الاسم لأنه غالباً ما يؤمّ ويحطّ على أرضية مداخل المنازل التي تُسمّى بالإسبانية (portal El) ليلتقط حبّات الذُرَة والبُرّ، وفتات لُباب الخبز المتساطقة ،وربما لهذا السبب يُسمّى البُرطال أيّ مَدخل المنزل أو بابُه !، ويُسمّى هذا العصفور الأليف باللغة العربية  “طائر الدّوري”. وهناك عصفور صغير كذلك يُسمّى بالرّيفية “أبردّان”، ويليه في الصّغر عصفور أصغرُمنه حجماً جدّاً يُسمىّ “كوبيّس” الذي يُطلق عليه أهل تطوان “سَابُّو”، ويُضرب به المثل فى احتقار شخص مّا فى حالة تعجرفه، وغروره، وتكبّره وهو ليس ذا شأنٍ أو قيمةٍ تُذكر، فيقال بالعاميّة التطوانية في هذا المعنى: (شْكونْ ساقلك الخْبَرْ أسابُّو وَشْمَانْ شجرة نعستي!!) بمعنىَ: مَن ذا الذي سأل عنك  واهتمّ بك يا “سابُّو” وفى أيّةِ شجرةٍ قضيتَ ليلتك؟!، وهناك عصفور أصغرُ حجماً من العصفوريْن السابقيْن يُضرب به المثل كذلك في شدّة النحافة والهُزال والصِّغر ويُسمّى  بالرّيفية  “تَجّا” ولهذا يُقال فى الأمثلة الرّيفيّة: “أتَجّا مِي حُوذاقْ..  نيدّْ أكسُومْ نيدّْ الرْمَاقْ”…!! ومعنى المثل: (يا تجّا الهزيل لا لحمَ فيك ولا مرَق)! ومعظم هذه العصافير كنّا نصطادها بسهولة بواسطة أداة تقليدية كان يصنعها أجدادُنا وصنعها بعدهم آباؤنا رحمهم الله من قصَبٍ وقنّب الصبّار تُسمّى بالأمازيغيّة الرّيفيّة (ارْمَدْوَازْ) وربما تُسمّى هذه الأداة فى سائر مدن المغرب “الخطّار”!.. (أنظر الصّور رفقته .

   ومن الطيورالكبيرة الحجم من الجوارح  المُفترسة التي كانت  تملأ سماءَنا  وهي تحلّق في أعاليها الشاهقة وتفتك بضحاياها  على مرأىً من عيوننا وهي تنقضّ على صغار الطيور بمنقارها الحادّ بدون رحمة من علٍ هناك: باعَمْرَانْ أو بوعْمِيرة، (وهي نوع من الصقور أو النسور) وهناك البُومة، وسيوانة،التي يُضرب بها المثل في الطمع والجشع  الشديديْن والشعور بالضّعف والمرض وعدم القدرة على الانقضاض، فيُقال في هذا الصدد في مدينة تطوان على وجه الخصوص: (سيوانة كتمُوت وعيناها على الفلّوس)!.. أيّ: سوانة تُحتضَر وعيناها على الكتكوت.!. وهناك طائر نحيف ناصع البياض يشبه النّورس يُسمّى (طيْرْبقار) أي طائر البقر لأنه دائماً نجده يتبع البقر ويقتفي محراثها خلال عملية حرث الأرض لالتقاط الديدان التي تخرج من باطنها.

طائرُ اللقلاق وحَاحْ حْجِيلة حَاحْ!

   وهناك طائر كبير مهاجر يصنع له أعشاشاً كبرى في أعالي الأشجار الباسقة، والأعمدة العليا في البوادي، والقرىَ، والمدن على حدٍّ سواء،  وهو طائر (اللقلاق) الذي يُسمّى في المغرب “بلّهْرَجْ)! وهناك أغنية شعبية جميلة متوارثة يغنّيها الأطفال الصّغارباللهجة العامية المغربية عندما يصنعون لهم مراجيح على جُذوع الأشجار في الحدائق والغابات فيقولون أثناء ركوبهم عليها تحت إيقاع نغماتٍ موسيقية خاصّة: (حَاحْ حْجيلة حَاحْ ،وَعْلاش كتبكي، على ابني مَجْرُوحْ، واشْكُونْ جرْحُو لك، عمَارْ وعميماْر، بالرّاس حميمارْ، وباش نداويه، بعرُوق الجَاوي، وفاين الجاوي، عند العطّارْ، وفَايْن العطّار، قا الجناح وطارْ، أبلّهرَجْ (اللقلاق) طاقْ طاقْ، خَلّى وْلادُو في الطّبَقْ، مْشَا يصطاد الحْجَلْ، ضربُو المنجَلْ نَ الرْجَلْ، مشىَ عند أختي عايشة دا الجْبَلْ، قال لها اعطيني واحد الأصْبُعْ دَ العسَل، باشْ نداوي هاد الرّجْلْ، قالتْ له طِيرْ  وانزَلْ، وانزَلْ على دَرْجَة، عينك كَحْلاَ وعَوْجَا، هادي دَ الدْخُولْ، وهاديِ دَ الخْرُوجْ، واللّي يزيد على هَادِي يتقطّع به الحْبَلْ…!) وهنا ينتهي وقت الطفل أو الطفلة من ركوب المُرجيحة، التي كانت وما تزال تُسمّى عندهم “حاطيشا ” والتي ما فتئت تُغنّىَ، ويُردّدها الصّغار صبايا وصبيان في مختلف مدن شمالي المغرب، وفى سائر نواحيه ومناطقه إلى اليوم.

وترجمة هذه القطعة الشعبية المتوارثة الى الفصحىَ كما يلي: (آه يا حجيلة آه،لماذا تبكين؟، على إبنيّ الجَريح، ومن ذا الذي جَرَحَه؟، عَمْرو، وعميمارْ، الذي شَعْرُ رأسِه أحمرْ، وبماذا أداويه، بجذور الجاوي، وأين هو الجاوي؟، عند العطّارْ، وأين هو العطّارْ؟،صنع له جناحاً وطارْ، يا أيّها اللقلاق طاقْ طاقْ، الذي ترك أفراخَه في الطبَقْ (العُشّ)، وذهب ليصطاد الحِجْلْ، فجرحه المِنجلْ فى الرّجَلْ، فذهب عند الأخت عائشة القاطنة في الجَبَلْ، فقال لها اعْطِني أصَيْبِعاً من العَسَلْ، لكي أداوي  هذا الرِّجْلْ، قالت لُه طِرْ وأنْزِلْ، وانزلْ على دَرْجَة، عينكَ سوداء ومُعْوَجّة، هذه الدّفعة للخرُوجْ ، وهذه للدّخولْ، ومَنْ يستمرّ في الرُّكوب سيتمزّق به الحبلْ..!).

غناءٌ مَسجُوع وصَوتٌ مَسمُوع

يقول الأديب والشاعر المكسيكي ” ألبرتُو بلانكو” عن سربٍ من أسراب  الطيور الصغيرة:

تحطّ بأجسامها النّحيلة

على الغُصُون المائسة

والفروع الجافّة فى الخريف

تماماً عندما تتأهّب الشّمسُ للغرُوب

ويَغيبُ قُرصُها المُذهّب عن الأنظار

وفجأةً تنطلق حناجرُها الرّخيمة

بنغمٍ واحد، بصوتٍ واحد

يستحيلُ معرفةَ ما كان الأجملُ

هل هو غناؤها المَسْجُوع

أم صوتُها المسمُوع

أم إنسجامُ موسيقاها

أم تلك الأشجارُ الباسقة

المُعلّقة فى جُنح اللّيل؟! .*

     وأشير أنّ هذه القصيدة من مقالٍ لي بعنوان: (“كتاب الطّيُور” للأديب المكسيكي ألْبِيرْتُو بلانْكُوُ: يُعيد للأذهان جَانبٍاً مَنسيّاً من جَمَاليّات روعة الطّبيعة ومباهجها) الذي نحن بصدد إعداده، وسنعمل على نشره في هذا المنبر الإعلاميّ والثقافيّ المُنيف فى قريب الأيام إن شاء الله.

__________________________________

* قصيدة الشاعر ألبرتُو بلانكو عن سرب الطيور المُدرجة أعلاه من ترجمتنا عن اللغة الإسبانية.
Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا