إسرائيل: من الطفل المدلَّل إلى وحيد القرن الهائج
سعيد بوخليط
وقد بلغ زمن مذبحة غزة مائة وخمس وثلاثين يوما،قارب معه رقم الضحايا – فعلا أضحى الإنسان في أفضل الأحوال مجرد رقم- تسعة وعشرين ألف قتيل، وتسعة وستين ألف جريح، بجانب طبعا حصيلة خسائر مادية مهولة؛ قوَّضت جذريا أبسط لبنات الحياة، تختزل مظاهرها انتشار عدوى الأمراض والأوبئة ضمن صفوف الفلسطينيين؛ نتيجة اضطرارهم شرب المياه الملوثة والنقص الحاد على مستوى التغذية، تفعيلا لمؤامرة الإبادة الجماعية، يسوِّغ مختلف حيثيات ذلك ”مؤسَّساتيا” عجز المنتظم الدولي على محاصرة حصاره، كي يستعيد العقل عقله، فالقادم أفظع بلا ريب.
نتنياهو غير آبه بتاتا، أكثر كثيرا من ذي قبل، معلنا أخيرا بكل صراحة رفضه لمشروع الدولة الفلسطينية. بمعنى، لم يعد هناك أمل ما بخصوص طرح الدولتين، الذي شكَّل دائما التصور الأكثر واقعية و براغماتية وعقلانية، بغية تقريب وجهات النظر المتباينة، وخلق مساحة للتعايش الكونفدرالي في إطار اختلاف هوياتي بنَّاء.
مختلف رعناء مايحدث، ماكان له أن يحدث أصلا، لولا سخاء الدعم الأمريكي اللا مشروط.
أمريكا، أول دولة تعترف بوجود إسرائيل يوم 14مايو 1948، خلال فترة حكم الرئيس ترومان،بعد وفاة روزفلت بحيث تلقى الكيان الناشئ بسخاء منذ تلك الفترة غاية الآن، مائة وثمان وخمسين مليار دولار؛ تفعيلا لقرار وصاية الاعتراف الأمريكي .
أيضا، أمريكا أول المبادرين إلى الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية للدولة العبرية سنة 1917، خلال ولاية ترامب الذي حرض ضمن نفس السياق، على ضمِّ مستوطنات الضفة الغربية.
مواقف، صبَّت دائما وتصبُّ مزيدا من الزيت على مواقد النار المحيطة بمجمل جغرافية منطقة مفخَّخة منذ البداية.
أخذت العلاقة بين أمريكا وإسرائيل، طيلة مسارها التاريخي في خضم استثمار نتائج الحرب العالمية الثانية، التشكُّلات الرمزية التالية :
*علاقة أبوَّة أو أمومة بيولوجية (أمريكا) مع مولود؛ اختُلق اختلاقا على طريقة أطفال الأنابيب، وربما بكيفية قيصرية في أفضل الحالات، حتى يشكِّل قلعة متينة ضد الشيوعية في المنطقة والحركات التقدمية وتعضيد عشائر الرجعية والتخلف. لذلك، اختبر مخاضا عسيرا، بل ممسوخا لحظة الوضع.تمتَّع المخلوق الجديد برعاية استثنائية، وحظوة كبيرة لدى الراعي الأمريكي، تزيد كثيرا عن ثوابت المسموح به تربويا في إطار تلك العلاقة الخاصة. هكذا، كبرت إسرائيل وترعرعت وفق بحبوحة لافتة، وأكلت منذ دائما في صحون من ذهب. تأكيدا لهذه الحقيقة، أعاد جو بايدن إنعاش ذاكرة من لاذاكرة له، بقوله: ” لابد أنكم سمعتموني أقول عدة مرات، أنه لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا اختراع واحدة”.
*علاقة السيِّد بالعبد، والآمر بالمأمور الوفيِّ، بحيث هيَّأت أمريكا ثم اصطنعت الخلطة البيولوجية بخصوص خادم فظّ، يلزمه أن يحرس ليلا ونهارا، ضيعة وافرة الغلال، يكمن تحديدا في القوة الجيو-استراتجية لمنطقة الشرق الأوسط وخيراتها.بوسعه فعل ما يريد، بكل أريحية، دون حساب مادامت أمريكا جاثمة باستمرار داخل أقبية مجلس الأمن، تمتلك بجرَّة إشارة يدوية حقّ النقض أو الفيتو.
*زواج كنسي بين الطرفين. رباط مقدَّس في السراء والضراء. أحيانا كثيرة،تختلط لدى الملاحِظ هوية المسيطر الحقيقي، وكذا من يسيطر على من؟ تظل أمريكا، في نهاية المطاف، إدارة داخلية لكبار لوبيات المال والأعمال؛ المؤمنين عقائديا باليهودية-الصهيونية، بحيث يتحكمون في البنيات الضمنية للعبة الانتخابات الأمريكية ويبلورون أبعاد مخطَّطات السياسات الخارجية. مقام، يستحضر ثانية، التنقيب داخل يوميات المؤسسات الأمريكية عن المشاريع الدؤوبة لمنظمة أيباك (لجنة الشؤون العامة الأمريكية-الإسرائيلية)، و”جماعة المسيحيين المتحدين من أجل إسرائيل”التي تأسَّست عام 2006 من طرف القسِّ الأمريكي جون هيغي، التي تنهل ربما عقائديا من تفسيرات الإنجيليين أو الأصوليين المسيحيين لنصوص الكتاب المقدَّس، بحيث يجسِّد قيام دولة إسرائيل تمهيدا لعودة المسيح، بالتالي حتمية رحيل اليهود إلى فلسطين. لذلك، استعان دائما رؤساء البيت الأبيض، الديمقراطيين كالجمهوريين، بخطاب الليونة نحو إسرائيل وتبرير صنيعها في المنطقة؛فقط تختلف نسبيا طبيعة العبارات وطرق توظيفها ومستويات دبلوماسيتها حسب درجات التكوين السياسي لكل رئيس ومستوى كاريزما شخصيته.في نفس الوقت، وفق المنطق نفسه، حينما نغيِّر زاوية الرؤية، تبدو إسرائيل بمثابة الولاية الأمريكية الحادية والخمسين.
*إسرائيل الابن الشقيّ: نفس حكاية فيكتور فرانكشتاين. أمريكا، هي المتبنِّي الرسمي لإسرائيل، منذ أن كانت الأخيرة مضغة حتى صارت اليوم ثورا أهوج. حقيقة أرادت أمريكا، بكيفية من الكيفيات، توظيفا قابلا للتحكُّم الناعم، حسب مقتضيات الزمان والمكان بغية تنفيذ المخططات المتبناة دون إحراج أو إثارة للنزعات العدائية، والإبقاء على هيبة تمثال الحرية المنتصب في خليج نيويورك. إسرائيل وحدة عسكرية متطوِّرة، بمثابة امتداد لمختلف قواعد البنتاغون و”السي أي أي”المبثوثة عبر مناطق شتى من العالم، وكذا المدن العسكرية العائمة فوق البوارج التي تطوي المحيطات والبحار.
لقد كشفت تفاصيل المذبحة الجارية في حقِّ الفلسطينيين، منذ شهر أكتوبر، بأنَّ إسرائيل يد طبيعية للبطش الأمريكي، وليست قط مصطنعة، ضمن مكونات أخطبوط الرَّدع، بحيث لم يتردَّد بايدن بسرعة قياسية إلى التحليق صوب تل أبيب، معلنا رسميا موافقته على أهداف مجلس الحرب الإسرائيلي، ثم إعطائه الضوء الأخضر من أجل تفعيل عملي لأشكال الدعم اللوجستيكي والعسكري؛ المباشر وغير المباشر:
*وصول حملة الطائرات فورد إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، وكذا غواصة نووية؛
*تعضيد العتاد العسكري الإسرائيلي بطائرات قصف ثقيلة من طراز (F35 )،أكثر الطائرات المقاتلة تطورا؛
*تعزيز القبة الحديدية بتوفير صواريخ باتريوت الاعتراضية، ثم منظومات رادار ودفاع جوي؛
*إرسال ألفي مقاتل من المارينز، وهي قوة خاصة أمريكية قصد تقديم المشورة للقوات الإسرائيلية إبان التجهيز للعمليات البرية؛
*رفضت أمريكا أيّ محاولة لوقف إطلاق النار، والتصدي برفضها جلّ قرارات مجلس الأمن.
لاتعيش أمريكا سوى بمتواليات حروب لاتنتهي، واجتياح الدول أو تحريك مؤامرات أجهزة استخباراتها، في أفضل الأحوال من خلال شركاتها العابرة للقارات. هكذا، يكمن دائما جوهر أمريكا في تكريس الآلام وتعميمها.
إسرائيل من جهتها، ماهيتها موصولة بمدى قدرتها على بلورة مقتضيات كونها جبهة متقدمة للامبريالية الأمريكية، اعتُبرت خلفيتها العقائدية الصهيونية منذ البداية خليَّة سرطانية بصدد الاستفحال قدر التمدُّد، لكنها تجتهد بخصوص تلميع واجهة نموذج صوري قوامه التمدُّن والتحضر والديمقراطية، من خلال احتكام ثوابت الدولة العبرية إلى منظومات التدبير المؤسساتي والمعرفي.
مقابل إشعاع ”النموذج الحضاري، مثلما تعكسه إسرائيل”، المنتمي إلى سياق الألفية الثالثة، انحدرت الجهة المجاورة برمتها أكثر فأكثر، نحو سراديب هاوية الضياع والعدم، لذلك بقيت شعوبها محكومة فقط بارتفاع مؤشِّرات الديكتاتورية، الإرهاب، الفقر، الأمية، الدعارة، الفساد، الجريمة، الجهل، التطرف، وبالتالي جلِّ الموبقات الناجمة عن المقدمة الكبرى المسماة بالتخلف.
لقد دعَّمت أمريكا بقوة حليفها الإسرائيلي، إبَّان الحروب ضد الأنظمة العربية، خلال سنتي 1948 و1956 ونكسة السابع من يونيو 1967 الشهيرة غير المتوقَّعة بتاتا من طرف شعوب المنطقة؛ نظرا للأحلام الكبيرة التي استشرفها جمال عبد الناصر، ثم وقعت حرب أكتوبر1973، التي تأرجحت فيها الكفة قليلا لصالح المصريين ومعهم طبقا باقي العرب، غير أنَّ الانتصار لم يكن كاملا وتوقف لحظة بدايته عندما تدخلت أمريكا بإيعاز من دهاء الثعلب هنري كيسنجر، فتجلَّت منذئذ أول الخطوات المفضية صوب توقيع معاهدة كامب ديفيد سنة.1979
عموما، اشتغلت دائما حبكة هذه اللعبة القذرة، وفق حيثيات السيناريو التالي:
إسرائيل عنوان للحداثة والديمقراطية وكل ماهو جميل، تمثل واحة فيحاء وسط عوز موصولة جذوره عند نواة القرون الوسطى، ثم أمريكا القوة العظمى المحايدة ”التي لا تريد سوى الخير للجميع”، ويعيش هذا الجميع على إيقاع يوميات أمريكي من الطبقة المتوسطة. لذلك، تتوخى من إسرائيل قهر الشعوب بالتي هي أحسن، وأن لاتفقد أعصابها، بل تفعل ذلك بدهاء أكبر وتستثمر أسلحة ثانية غير مباشرة بدل القتل والإبادة المباشرين، لأنه أسلوب بدائي يخدش الرمزية الأمريكية في العالم، ويضع البيت الأبيض إلى جانب الكنيست ضمن واحدة، وإماطة اللثام عن أمريكا بعد كل شيء، باعتبارها فعليات جذر شتى كوارث العالم المعاصر.