روسيا الدكتاتورية تنهي المعارضين لصالح القيصر

روسيا الدكتاتورية تنهي المعارضين لصالح القيصر

خالد العزي

     انتهى وجود المعارض الروسي أليكسي نافالني من الحياة السياسة الروسية، بغض النظر عن التقرير الذي قدمته مصلحة السجون الروسية بأن وعكة صحية أصابت حياته، بعد أن ظهر في شريط الفيديو قبل اليوم وهو يتحدث أمام القاضي بطلاقة مطلقة، بطريقة المزاح الذي لا يدل على أن  المعارض بحالة صحية صعبة قد تؤدي فعليا لإنهاء حياته في اليوم التالي.

بالرغم من إعلان خبر موته فإن الدولة الروسية لم تسلم جثة المعارض إلى أمه، حيث حاول النظام ابتزازها، متى سيدفن وكيف وما هي المراسيم التي يتم اتخاذها، الدولة تخاف نافالني في موته ولن تسلم الجثة لذويه قبل انتهاء الانتخابات الرئاسية، لإن الدولة لا تريد الكشف عن حجم التمثيل المعارض للرئيس الروسي، والتي ستكون مناسبة الدفن ورقة واضحة بوجه نظام الكرملين سيضعه في مأزق أمام انخفاض شعبيته وبقائه وحيدا بوجه العاصفة، لإن الكرملين يعلم جيدا بأن نافالني بالرغم من اعتقاله هو صانع المفاجآت والاعتراضات الجديدة في الاعتراض، ودفع الطبقة الروسية للتحرك، وهذا ما يزعج صقور الكرملين أمام مرحلة جديدة توجه الرئيس بوتين بظل الأزمة التي يعاني منها في أوكرانيا، ويجب الخروج منها بانتخابات رئاسية تشير إلى شعبية بوتين التي التي توافقه على استمرار الحرب الأوكرانية الموجهة بالأساس نحو أوروبا، وأيضا يخاف الكشف عن آثار فعلية التسمم التي تم بها إنهاء حياة المعارض، والتي تشير فعليا اإى تورط بوتين فيها.

غموض في عملية موت المعارض

     بحسب الإعلام الروسي، نشر البيان الصحفي الصادر عن مصلحة السجون الفيدرالية ويفيد بأن أليكسي نافالني “شعر بتوعك بعد المشي، وفقد وعيه على الفور تقريبًا”. وحدثت الوفاة، بحسب إدارة المنطقة، الساعة 14.17 بتاريخ 16 شباط /فبراير الحالي.

خاصة أن المعارض تم إخراجه من الحبس الانفرادي،  بتاريخ 11 شباط  / فبراير  الحالي، بعد عزله لمدة  14 يوما، حيث بقى في العزل الانفرادي أكثر من 300 يوما خلال الثلاث السنوات التي قضاها في السجن، بظل الظروف المناخية والصحية التي مرت على نفالي أثناء فترة الاعتقال، وكان الهدف منها بالأساس  القضاء عليه صحيا.  لكن نافالني قوي وعمره صغير يسمح له بالمقاومة.

 إذن، كما ذكر البيان فإن فريق الإسعاف وصل إلى السجين بعد 7 دقائق، فلماذا تم تنفيذ المزيد من إجراءات الإنعاش في ظروف غير مناسبة للمستعمرة، وليس في وحدة العناية المركزة المتخصصة؟ وتقع على بعد كيلومتر واحد فقط من المنطقة، كما هو معروف للمتابعين لمكان السجن القطبي، الذي نقل إليه  المعارض مؤخرًا.

ولماذا أعلنت دعاية الدولة على الفور عن “جلطة دموية مكسورة”، إذا كان تشريح الجثة فقط، في رأي علماء الأمراض المؤهلين هو الذي يمكنه إثبات ذلك؟ على ماذا اعتمد الدعاة ومن قام بهذا التشخيص؟

بغض النظر عن كلام السلطة وطبيعة تشخيصه للحالة الصحية التي أدت للوفاة، وبغض النظر عن طبيعة التقرير الصادر عن الدولة، التي تشير فيه إلى ما تريد عن سبب الموت، نتيجة غياب اللجنة الطبية التي ستشرح الجثة أو المتابعة المستقلة لظروف القتل، فإننا أمام حالة لن تعرف ظروفها  ونتائجها الحقيقية

قرار القتل اتخذ مسبقًا

    لكن لابد من القول بأن السلطة الروسية والرئيس فلاديمير بوتين هم المسؤولين الحقيقيين عن موت المعارض نافالني، منذ اعتقاله فور وصوله إلى مطار موسكو بعد علاجه من آثار التسمم  بواسطة غاز نوفوتشك القاتل،  الذي كان يلاحق كل معارضي بوتين في الداخل والخارج.

قتل منذ أن أودع السجن، وتمت محاكمته بدون مسوغ قانوني، وإنما بقرار سياسي، ومنع المعارض من  ممارسته حقه بتأمين حقوقيين للدفاع عنه. حيث باتت الأحكام تتزايد والقضاة ينفذون تعليمات الكرملين، حيث أصبحت القضية سياسية واضحة من خلال التهم المنسوبة للمعارض الذي  بات أمر قتله واضحا  للجميع، بأن  السلطة تريد  قتلته بكل الوسائل والطرق لمنع صوته من الوصول إلى الرأي العام الروسي والعالمي.

السلطة كانت تخاف نافالني، لأنه المعارض الحقيقي للرئيس بوتين، الذي استطاع أن يبني جمهورا روسيا معارضا حقيقيا،  من خلال المواجهة مع سلطات الأمن الروسية بسبب المواجهات العنيفة بالإعلام. ومن خلال مواكبته للمظاهرات والمسيرات التي كانت تدعو لها المعارضة في مدن روسيا، ومن خلال الفضائح التي تسبب بها مؤسسة نافالني وشركائه، للكشف عن الفضائح الكبيرة التي تعيشها صقور الكرملين عبر أفلام استقصائية.

يصف نافالني في أفلامه الاستقصائية الطبقة الحاكمة في روسيا بأنها “حزب المحتالين واللصوص”، وهذا  الشعار قد أطلقة نافالني في بداية معارضته في العام 2001 على شاشات التلفزة الروسية، ليتحول الشعار إلى شركة إنتاج استقصائية لمتابعة فضائح السلطة، وتؤسس المؤسسة سلسلة أفلام من إنتاج  مؤسسة مكافحة الفساد التي أسسها نافالني عام 2017، مهمتها الكشف عن الإثراء  غير القانوني لرئيس وزراء بوتين، دميتري مدفيدف، وتم نشره على اليوتيوب، وأصبح الفيلم مشهورًا  للغاية، وصار عنوانه شعارًا للاحتجاجات لمناهضة للفساد التي جرت في جميع أنحاء روسيا. حيث باتت قنوات اليوتيوب التي تنشر حلقاته متابعة من الداخل والخارج، وتكشف فضائح وسرقات الطبقة الحاكمة في مجموعة بوتين التي تقود  روسيا.

التحقيق حول قصر بوتين

    وربما فضيحة قصر الكرملين، التي نشرتها مجموعة نافالني عام 2019 ، كان لها تأثيرها الكبير في تغيير الحقائق التي يخفيها القيصر الأحمر عن الرأي العام الروسي، ويقوم بتضليله للعالم  بأنه يحارب الفساد، ليصبح الفاسد الأول، حيث يستعرض الفيلم لمدة ساعتين موضوعا بعنوان أقر بوتين في مدينة سوتشي، حيث سجل له أكبر فضيحة رشوة عن بناء قصر فخم جدا على ساحل البحر الأسود، ويموله أشخاص من حاشيته، ويملك القيصر  هذا القصر الذي يبلغ  سعره المليارات وثروات هائلة تتمتع بها بناته المتواجدات في أوروبا.

قتل نافالني درس للمعارضة الروسية

    لقد كشر النظام الروسي عن أنيابه بعد شفاء نافالني من غاز “نوفتشوك” في 20 اب/أغسطس  عام 2020، حيث تعرض لعملية قتل واضحة من قبل المخابرات الروسية، حيث تم نقله سريعا للمعالجة، وبعد الشفاء في مستشفى “شاريتيه الألماني”، وبعد أن تعافى صرح نافالني في شهر تشرين الأول /أكتوبر من العام نفسه، بأن بوتين هو من وراء عملية القتل. ونتيجة الاحتضان الشعبي والدولي مع شخصه الشجاع قرر المعارض العودة إلى روسيا بتاريخ كانون الثاني /نوفمبر  2021 للمواجهة، حتى لو كان الموت. فكان له ما كان يتوقعه، لأنه أخاف القيصر. فكانت كلماته الموجهة للرأي العام العالمي في إحدى الأفلام الوثائقية، التي كان عنصرها الأساسي في إجابته على السؤال: ماذا لو تم قتلك؟ فقال يعني إن النظام بات يخافنا ويحسب لنا حسابا، وعلينا ألا نرضخ له”. حيث أصبحت الإجابة عن السؤال شعارا للمعارضين الروس. وقد رفعه الناس عندما سمعوا بنبإ موته”.

اعتقال نافالني فور وصوله إلى مطار  “شيريميتيفو ” وتم احتجازه لمدة 30 يوما، وبعد سلسلة الأحكام التي كان آخرها السماح بالسجن عليه لمدة  19 عاما ونقله إلى سجن في الشمال الروسي، في مناطق يامالي مينيتس المتمتعة بالحكم الذاتي. حيث  باتت تكبل بها المعارض وتؤسس لإنهائه وإنهاء فكرة المعارضة النهائية، لكي يبقى الميدان فارغ أمام بوتين لمدة رئاسية كاملة تتوج منه “قيصر دون منازعة”.

 الهدف من قتل نافالني

    السؤال الذي يطرح نفسه على الجميع لماذا قتل نافالني؟ فموت نافالني لن يأتي نتيجة صدفة، بل هو نتيجة خوف فعلي من شبح نافالني، الذي يخافه بوتين، وخاصة قبل الانتخابات القادمة التي يتهيأ لها والتي تهدف لإخماد صوت المعارضة، من خلال هذه الرسالة التي باتت تجعل بوتين من خلالها القضاء على كل من يعارضه ولا ينصاع لأوامره، حتى أقرب المقربين، كما حال يفغين بريغوجين، خادم القيصر الذي أنهى حياته وقتله في عملية واضحة، بإسقاط طائرته الحوامة التي كانت تنقله وتنقل مقربين من الطرفين.

فلماذا قتل بوتين نافالني في وقت انعقاد مؤتمر ميونخ للسلام، سؤال يمكن الإجابة عليه بأنها رسالة للأوروبيين الذين لا يزالون غير متحسمين  للمواجهة الفعلية مع بوتين،  وقد بات يرى فيهم الضعف، مما يحاول بذلك فرض شروطه عليهم،  فإذا كان لديهم شيئا للتفاوض ليقدموه وفقًا لشروطه، بوتين يرى الضعف الفعلي بالآخر، وهذا ما يدفعه لممارسة القتل والتوحش، وربما ردة فعل الأوروبيين في ميونخ إذا تم تطويرها سوف تدفع بوتين للتوقف أمام التهديد الجاد الذي سوف يلمسه من قرارات أوروبية سريعة، تشير إلى رفع “الكارت الأحمر” بوجهه لإيقاف الحرب أو يتم إيقافها بطريقتهم. 

بوتين أمام مرحلة صعبة يريد أن يكون الوحيد المتواجد في الساحة الروسية، حيث بات الأمر له. لذلك هو يقتل معارضيه ويضع من يشاء منهم في السجن، ويبعد الآخرين بالغاز. ليست مهمة جديدة على بوتين في تصفية معارضيه أو سجنهم، ليس هو الحل في إنهاء وتدمير حياة المعارضين والهروب من روسيا هو النهاية للمعارضين المهددين بالموت.

اغتيال المعارضة صفة النظام البوتيني

قتل المعارضين الروس لم يكن حالة عادية في فترات ولاية بوتين في السلطة، التي امتدت من العام 1999 حتى اليوم. حيث أصبحت مليئة بالدماء والتصفيات والاغتيالات، التي تخطى الحدود الروسية. وهناك أسماء كثيرة جرت تصفيتها، في لندن والدوحة والشيشان وبرلين وأميركا، وأميركا اللاتينية وروسيا، ولم يكشف عنها أي شيء. ويمكن التذكير بقتل المعارض الروسي في العام 2016 بوريس نيمتسوف أمام قصر الكرملين، بواسطة قناص، ولم تكشف الجريمة حتى اليوم. في الوقت الذي يتم كشف أي شخص وحتى من يكتب شعارًا على وسائل التواصل يدين الحرب في أوكرانيا يحاكم ويتم إلقاء القبض عليه، وحتى تتم معاقبة الأهل عن الأطفال، ويهدد الأهل بسحب الحضانة من الأطفال. ولكن لا يمكن أن يعتقل من يغتال معارضا أو صحافيا، إذ يتم تسجيل القضية ضد مجهول. وهذه القضية تسجل سريعا على أنها وعكة صحية بإرادة الله القدير على صناعة المعجزات.

 فقط استطاعت أن توجه صحافية روسية من الضواحي السيبيرية للرئيس بوتين، في اللقاء السنوي مع الصحفيين في 17 تشرين الثاني / نوفمبر من العام 2023، كيف يمكن اكتشاف جرائم من قبل القضاء ويمكن التغاضي عن جرائم. وحددت أين أصبحت قضية المعارض الروسي نيمتسوف التي يكتشف فيها القاتل، فكانت إجابة بوتين بطريقة ملتوية، بأن القضاء يعمل، وهناك مشاكل بالقضاء ويجب معالجتها.

وعندما سئلت الصحفية الروسية في سؤالها المباشر للرئيس، هل كنت تتأملين الإجابة على سؤالك المباشر من الرئيس. فقالت لا أنتظر، ولا أي صحافي ينتظر الإجابة على سؤال، لكن المهم أن توجه السؤال الصحيح إلى المسؤل.

 متى تنشأ المعارضة الروسية الجديدة

    في تصريح للرئيس بايدن، بأنه إذا تم اغتيال أو قتل نافالني، سوف أتخذ عقوبات كبيرة ومؤثرة ضد روسيا. والاتحاد الأوروبي يجهز لحزمة عقوبات مهمة جدًا، تندرج في إطار الضغط، وتعتبر الحزمة 13، والتي قد تعارضها “هنغاريا”، وربما ستعمل على إفشالها كلها. نظام بوتين لا يبالي ولا يزال يمارس أبشع الضغوط على الناس في روسيا. وقد شهدنا عملية الضغط في منع الناس من الذهاب إلى أضرحة الجنود المجهولين لوضع الورود  وإضاءة الشموع على رحيل  المعارض الأول نافالني. لكن الأمن تصدى لهم وأنزل بهم أشد العقوبات، بالتصدي والتهديد والضرب المبرح، وحتى السفيرة الأميركية في موسكو تخطت الحظر، وذهبت مع فريق كبير من الروس والدبلوماسيين لوضع الزهور وإضاءة الشموع، فكيف يترجم هذا القتل البارد من الروس ومن الغرب.

ويمكن الانتباه إلى أحاديث نافالني عن زوجته يوليا التي تعتبر رفيقته في الحياة والنضال. بأنه يستمد قوته منها وهي المرأة الحديدية. وقال بأنها تخطته في راديكاليتها ومواقفها الصلبة  ضد نظام بوتين. فهل خطاب يوليا نافالني في مؤتمر الأمن والسلام في ميونخ في ألمانيا  بتاريخ 18 شباط /فبراير  الحالي بأنها  ستطلق معارضة جديدة. يلتف حولها الروس في الخارج والداخل، ويكون قدر المرأة تولي مهمة صعبة تركها لها زوجها الراحل. وقد تنعكس تجربة سفيتلانا تخانفسكايا المعارضة البيلاروسية، مثلًا حيًا لمسرة يوليا  نافالني، خاصة أن تخانفسكايا ترشحت للانتخابات بعد اعتقال زوجها، ووضع حتى اليوم قيد الاعتقال، وباتت رمزًا للمعارضة البيلاروسية.

لكن بعد لقاء الرئيس بايدن بزوجة وابنة المعارض أليكسي نافالني، باتت التشدد واضحًا على الخطاب الأمريكي، حيث أعرب الرئيس عن إعجابه بالشجاعة غير العادية وإرثه في الحرب ضد الفساد، وأكد أن إدارته ستعلن عقوبات جديدة وكبيرة ضد روسيا بتاريخ 23 شباط /فبراير  الحالي، ردا  على عملية القتل. وأكد على ضرورة إعادة جثمانه إلى والدته. لنرى كيفية الرد الغربي والأوروبي،  والمعارضة الروسية، على جريمة القتل التي حصلت للمعارض نافالني.

Visited 23 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. خالد العزي

أستاذ جامعي وباحث لبناني