فيليب سوليرز: أنا كاتب أوروبي من أصل فرنسي

فيليب سوليرز: أنا كاتب أوروبي من أصل فرنسي

  ترجمة: سعيد بوخليط

1-مدينة بوردو:

     مهمة جدا للغاية بالنسبة إلي. لقد ركَّزتُ كثيرا حول فرادة هذه المدينة، ليس فقط جغرافيا، بل تاريخيا. حدث أن ولدتُ هنا. الدراسة في ثانوية مونتسكيو، وكذا ثانوية مونتين. هذه المدينة التي عرفتها مظلمة، بحيث عوقبت خلال القرن التاسع عشر وأساسا إبّان القرن العشرين، صارت بالتأكيد متألِّقة ثانية عبر الزمان، استعادت ذاتها مثلما رآها ستاندال ضمن فصول عمله ”أسفار”، بمعنى خلال القرن الثامن عشر، والذي اكتمل شيئا ما متأخرا حوالي سنة 1820، مقارنة مع التصور المتداول. لماذا تسليط عقاب بتلك الطريقة على مدينة متوهِّجة للغاية؟ بغتة تنطلق شرارة ذاكرة المعمار وكذا فنِّ أن تحيا عميقا جدا. لا يلزم فقط العيش داخل نطاق مدينة بوردو نفسها، لكن على امتداد ضواحيها، لاسيما الصعود إلى أعلى مصب جيروند، حيث جبال العنب، مثلما قال هولدرلين في قصيدته الشهيرة المعنونة بـ: تِذْكار، التي أعيد قراءتها، ومثل جلِّ القصائد العظيمة، يمكنها أن تقرأ ثانية لانهائيا. اقتضى الأمر انتظار قرنين من الزمان كي نعلِّق في بوردو لوحة تشير إلى مرور هولدرلين من هذه المدينة. لقد ارتشف هذا النبيذ مثلما تناوله شكسبير حين صعوده إلى المنصة. ولدتُ خلال لحظة اكتساح الفيالق العسكرية الألمانية بوردو. منذئذ، استوعبتُ تدريجيا إلى أيِّ مدى كنتُ فرنسيا شيئا ما… أو فرنسيا لكن مع ضرورة أن أقتفي على ضوء شمعة آثار مكمن معطيات وجودية أخرى. يبدو جوهريا، الإشارة إلى شيء معين انطوت عليه ثقافتي المنحدرة من أولى سنوات طفولتي، بحيث شَكَّل أساسا لكثير من أنواع سوء الفهم، وكذا الكراهية بيني وزملائي، عندما تجلى دون تردد نزوعي الأنغلوفيلي أي الإعجاب بالثقافة الانجليزية، ويلزمني السعي نحو البحث عن أسرة من هذا النوع. اطَّلعتُ مؤخرا على مضامين لقاء حواري أجراه غيوم دوران مع آلان روب غرييه. كان بشوشا باستمرار، بغتة أظهر عنادا بخصوص معرفة سبب مناصرته للماريشال فيليب بيتان. ينتمي أبوه إلى منطقة بروتون، وبالنسبة لأهل بروتون، تعكس الانجليزية عدوا موروثا، موقف يستدعي البكاء. أيضا، مدينة بوردو عاصمة الجنوب؛ ثم إلى أين المآل حين انهيار فرنسا؟ نحو بوردو. تجسِّد أبعد نقطة مكانية، والميناء تحديدا… الغرفة الشعبية التي انتخبت مطلق السُّلط إلى بيتان أو بوردو فعليا. سؤال ينبغي التركيز عليه، مادام هناك شيء ليس على ما يرام. إنَّها نظرية لوحات الإعلانات. أول إعلان: 1940-1942 ماذا حدث؟ من يكون؟ ينبغي النظر نحو من ولدوا سابقا، كما الشأن معي، لكن أيضا الآباء، الأجداد، الأجداد الأولين، والتاريخ في خضم ذلك، ثم حزب جيروند، إلخ. ثانيا، التسلُّل الاسباني. لقد ولدتُ لحظة النزوح الاسباني إلى بوردو، بعد الحرب الأهلية، واقعة وسمت أيضا، حياتي الشخصية، بكيفية عميقة جدا. تواجد كذلك حشد من الايطاليين دون الحديث عن الباسكيين. بالتالي، هي مدينة مثَّلت لي تجمُّعا وأنا طفل. أولا، تعرَّضنا للاحتلال الألماني. كنا نصدح بكلمة ألمانيا داخل الطابق الأرضي، وحين الصعود إلى الأقبية العليا، نستمع إلى راديو لندن، وأحيانا تحت أسقف المغارات، ينبغي الالتزام بالصمت نظرا لوجود مظلِّيين إنجليز يلزمهم الانتقال إلى إسبانيا. الأهم لديَّ، إعادة ربط تاريخي الصغير بالتاريخ العام. حينما أتأمَّل إحدى خصوصياتي: يمكنني الإقرار حينها، بأنِّي كاتب أوروبي من أصل فرنسي. التحفظ الوحيد، فيما يتعلق ببوردو، وقد بادر ألان جوبيه إلى فعل كل مابوسعه حتى تغدو هذه المدينة ثانية قابلة للتنفُّس، أنها رفضت إعادة تمثال لويس الخامس عشر إلى موضعه، وهو سعي ممكن تماما ما، في خضم توفر إمكانية السَّبك. سميت ”ساحة البورصة”، التي تعتبر إحدى أروع الساحات الأوروبية، لكنها في المقام الأول ساحة لويس الخامس عشر، ربما يتحقَّق المبتغى خلال يوم من الأيام. تعود دائما إحدى مقوِّمات فعلي إلى فترة القرن الثامن عشر الفرنسي، الذي يعتبر حسب اعتقادي، متقدِّما علينا، بمعنى قياسا لمستوى التَّدهور الذي أصاب هذا البلد.

2 –الجائزة الأدبية:

     عندما أصدرتُ شهر سبتمبر2002، رواية ”نجمة العشَّاق”، اعتقد مجمل الوسط الأدبي بأنِّي راغب في جائزة غونكور: احتُضن العمل فورا دون قراءته، من المفارقات المثيرة للسخرية، ترشيحها مرة ضمن لائحة رينودو، ثم سرعان ما اختفى عنوانها من القائمة كأنَّ الأمر مجرد خطأ. تستند أرصدة الناشرين على جانب غير معلن. حيلة من جانبي قصد النظر؟ ربما، لم تكن قط ”الجوائز” غايتي. لقد حصلتُ، وأنا شاب جدا، على جائزة فيليكس فينيون بفضل جان بولهان، ثم جائزة ميديشي سنة 1961، جراء مبادرة استراتجية من طرف فرانسوا مورياك نحو ناشري إضافة إلى جوائز أخرى دون دلالة كبيرة، جائزة بول موراند للأكاديمية الفرنسية. طيب، مختلف ذلك دون أن أثير اهتماما بالمطلق. حينما ندرك مدى تعبئة نموذج النشر الفرنسي المصغَّر كما لو أنَّه شخص واحد بخصوص هذه القضايا، لذلك يظل مستمتعا وغير منزعجين سوى قليلا. حاولتُ الوقوف بطريقة ما عند ”المنتصف”، فلديَّ أصدقاء يشتغلون في المجال، ثم التفرُّغ لحياة خاصة. لستُ مرشحا للأكاديمية الفرنسية، ولاحظَّ يذكر بخصوص الظفر ذات يوم بنوبل. لاأنتمي لعضوية لجنة تحكيم، باستثناء الجائزة الأدبية ”جائزة ديسمبر”، ”جائزة صغيرة”: الفائزون زمرة كتَّاب نوعيين، ومع ذلك أبدي التذمُّر؟ تتَّسم حياتي الاجتماعية بالتواري، وكذا حياة رسمية متحفِّظة كناشر، ثم حياة خفية بالأحرى مكثَّفة. عموما 1l4 مرئية، 3l4 غير معلومة. بالنسبة لتقدير شخص لايقرأ الشيء الكثير، سأحصل على تقييم نسبة 1l4، وبطريقة خاطئة. آه! ويظل اعتزازي الدائم بجائزة مونتين: مائة وعشرون قنينة من النوع الممتاز! مع ذلك احتُسيت بأكملها.

3- سوليرز:

    قلتُ ذات يوم بأنِّي استلهمتُ اسمي ككاتب من المعجم ثم تخلَّيتُ عن ذلك، مما يعكس لعبة بهلوانية مفيدة. تمثَّلتُ شخصية متخيَّلة. أحببتُ الكلمة اللاتينية بحرفي”l ”، سوليس بمعنى ”كليا”، ”دون بقايا”، نفس جذر الوسيم في الإغريقية. لقد كنت جيدا على مستوى اللغة اللاتينية، نتيجة انتظامي على قراءة معجم فيليكس غافيو، ولازال في حوزتي حيث مجموعة صفحات موسومة بالقلم الأحمر، والأزرق، مثلا حول أقوال شيشرون. أصدرتُ كتابي الأول، وأنا صغير السن، مما أجبرني على تبنِّي لقب معين. هناك أسماء مستعارة لكتَّاب باللغة الفرنسية، في أغلب الأحيان قصد إخفاء اسم قبيح. حدث أن تمَّت مناداتي بالتُّحفة، اسم اقتضى مني ملاحقات مستمرة خلال فترات الدراسة، تضمر عدائية قصوى: ”تحفة ليست بلؤلؤة”، ”هذه التُّحفة لاتلمع بالضرورة”. عموما، يُستحسن تسمية فولتير بدل آروييه، لوي بوارييه بدل جوليان غراك، يورسنار بدل غيزلين كلينغزك دي كرينكور، ساغان بدل فرانسواز كواريز، موليير بدل بوكلان أو ستاندال بدل ماري هنري بيل. أنا، بمثابة العكس، فقد اتجه اهتمامي صوب إخفاء اسم لامع للغاية. حينما أرسلتُ أولى نصوصي، إلى جان بولهان، أبدى استجابة فورية، مؤكِّدا بأنَّ التحفة تمثِّل اسم كاتب كبير، فكان دمثا للغاية ومتهكِّما جدا.

4 – مجلة تيل كيل:

     مجلة فصلية أصدرت أربعة وتسعين عددا، بنفس العنوان الفرعي المشهورة به حاليا أي”اللانهائي”. تجسِّد حيثيات تاريخ بأكمله. أشير بهذا الخصوص إلى كتاب رائع، يستحق إعادة تحيينه: تاريخ تيل كيل، أنجزه فيليب فوريست، الصادر عن منشورات ”سوي” ضمن سلسلة” خيال، صُحبة”. إنَّها مغامرة وفق جلِّ دلالات مكوِّناتها. يلزم حاليا إعادة طرح مختلف ذلك ورؤيته وفق منظور أنَّ تجربة تيل كيل تعكس فضاء أحدثت خلاله الطليعة، الرعب في مجال الآداب من خلال طاولة مكتب وجهازي هاتفين. المهمّ، الاطلاع على المنجز برمته. لقد أصدرنا العدد (101- 102) تحت عنوان ”اللانهائي” منذ خمس وعشرين سنة، كاستمرارية لسياسة تيل كيل، بواسطة وسائل جديدة وخلال حقبة أخرى. لكن، أيضا منذ خمس وعشرين سنة، بدت المجلة بلا أثر. تفسيرات عدَّة. خلال لحظة معينة الجامعة، تجلَّت أمامهم الجامعة في حالتها النّيِّئة وقد توفيت عموما بعد سنة 1968، وكذا الحزب الشيوعي. بالتالي، ينبغي إعادة إحالتها على سياق تاريخهما المتراجِع. هكذا، أحدث العمل امتعاضا عنيفا، وكُتِبَت في هذا الإطار حماقات شتى. ينبغي تقريبا تصفح الأعداد تباعا وتأمل المسار مكتملا. أركِّزُ تحديدا على العدد (101- 102) من مجلة اللانهائي الذي قدم نظرة شاملة متكاملة حول مجمل المشروع وكذا المؤشِّر العام. مذهل.حقا، يلزم الاتصاف بحالة عمى- ذاتي متعصِّبة بالمطلق، كي تتمرَّد على رغبة رؤية مختلف تلك المعطيات.

5- العدوانية:

     أشرتُ سلفا بأنِّي لاأعتبر نفسي فرنسيا، مثلما يقتضي الوضع. أعتقدها إشكالية في غاية العمق. سياسية بالأحرى.بشكل عام، أثير عداء كبيرا لدى كتَّاب إقليميْ كانتال، وكوريز… أشخاص لم يروا ربما المحيط الأطلسي.

6 – جان إيديرن هالير:

     نستحضر تيل كيل. هنا أيضا، الشيء نفسه، نعود من خلال الاسم إلى المرتكزات. إنَّه ابن الجنرال هالير، سفير حكومة فيشي في بودابست. 

7-  لوي فرديناند سيلين:

    عظيم. رائع. يشكِّل ذكر اسم سيلين إحدى لحظات التحسُّر الكبيرة ضمن وقائع حياتي، فقد اتصلتُ به هاتفيا في زمن ما وتفاعل إيجابيا مع الذهاب للقائه. تطلَّب الأمر فقط خطوة الارتماء داخل سيارة تاكسي! ما تنبغي الإشارة إليه، أنَّ طابو سيلين بصدد التحلُّل. معطى التمسته عندما كتبتُ عام 1991 مقدمة لرسائل سيلين للمجلة الفرنسية الجديدة! ينبغي، أن تحظى مكتبة لابلياد، بإصدار نسخة جديدة من رسائل سيلين، كاتب رسائل عبقري. ماالذي يمكننا أن نقارن به زخم مراسلاته، بالكهرباء، أو الحيوية؟ هل برسائل فولتير. الفرنسية حيَّة من فولتير إلى سيلين. حتما، فشل الذين توخُّوا طمر سيلين.

8- دانتي أليغييري:

    أخبرني عن فرنسي استأنس مع الايطالية إلى درجة معينة بغية قراءة دانتي والحديث عنه دون توقف.أعتقد بأنَّ تاريخ أول مقالة كتبتُها حول دانتي تعود إلى سنة 1965 إحدى حسنات مجلة تيل كيل، التي يلزم الاعتراف بها في خضم هذا السياق، أنها أفسحت المجال لأول ترجمة واضحة: أشير هنا إلى جاكلين ريسي، الذي كان عضوا ضمن هيئة التحرير. لقد أهديتُ إلى البابا جان بول الثاني، الكتاب الذي اشتغلتُ عليه حول الكوميديا الإلهية، بكيفية مشتركة مع بينوا شانتري. انتشرت حينها صورة أثارت ضجيجا، كشفت عن ثلاث شخصيات إنسانية: أنا، جان بول الثاني، ثم كاردينال. لكن الشخصية الرئيسية، جسَّدها بامتياز الكتاب وأنا بصدد تقديمه إلى قداسته، وهو يضع يده على كتفي،مع نظرة بليغة.

9- أنطونين أرتو:            

    شغف كذلك،منذ مرحلة باكرة جدا. هنا أيضا، سعي مستمر قصد فرض عناوين كتاباته كاملة. حضَّرتُ نصوص أرتو منذ أولى أعداد مجلة تيل كيل الأولى، مثلما الشأن بالنسبة لجورج باتاي، الذي انتظر اسمه أربعين سنة كي يندرج ضمن مكتبة لابلياد. بينما لازال أرتو دائما خارج مصنَّفاتها.أقام ابن أخيه ضدِّي دعوى قضائية. لم أتلق قط أيَّ فِلْسٍ حول كتابات أرتو، ولم أمتلك نموذجا للبيع… يلزمني تأكيد ذلك، رغم براءتي، صدر في حقي حكم من طرف محكمة فرنسية لأنِّي بادرتُ دون ترخيص إلى إصدار محاضرة ألقاها أرتو سنة 1948 داخل قاعة مسرح ”vieux-colombier”، تعتبر كتابات أرتو من أهم مشاريع القرن العشرين إلى جانب سيلين وباطاي.

10- مكتبة لابلياد:

     يلزم أن أموت قصد الاندراج ضمن حلقة أسماء مكتبة لابلياد، بالتالي لستُ متسرِّعا. أعيد التَّذكير، بإدراك الجميع حديثا مضمون هذه الحقيقة من خلال ساركوزي، بحيث قرأ البابا جورج برنانوس داخل لابلياد. اقترحتُ على غاليمار صياغة الإعلان التالي: ”يقرأ البابا لابلياد”، عموما المقصود برنانوس، ولن يُلتمس منه قراءة متحرِّري القرن الثامن عشر أو ماركيز دي ساد. ليس أكثر من ذلك، إنَّها قوة لابلياد: تجميع كتَّاب يمقت بعضهم البعض. أسس ميثاق مع الفكر، على حدِّ تعبير غاستون غاليمار. حينما جرى عام 1942 لقاء بين إرنست يونغر مع غاستون غاليمار، وصف الأخير بالعبارة التالية: ”هو شخص يمزج بين ذكاء حسَّاس جدا ينطوي على كثير من البراغماتية، مما يشير إلى عنوان ناشر جيِّد. أيضا، يمتلك إلى جانب ذلك حسَّ بستانيٍّ” رائع.

11- الترقيم:

     يلزم تبيان بأنَّ الترقيم يشكَّل ثوبا صغيرا لتغطية منطقة الخصر،كما أوضح ذات يوم بيكاسو. لذلك، وجب التملُّص منه قصد توضيح أهمية الإيقاع، النطق نفسه. تصوُّر، بلور اشتغال صفحات جزأين من روايتي المعنونة بـ”الفردوس”. استحق ورش التوضيح كثيرا من الإعداد، لا يتعلق الأمر بتاتا بنموذج الكتابة الآلية البطيء للغاية، بينما يقتضي هذا قراءة سريعة للغاية. هناك سِجِلاَّت كثيرة. فيما بعد، يلزم ربما الاعتناء بالإيقاع، السرعة، وكذا تعزيز علامات الترقيم، نتيجة تحقُّق الإثبات. لا أعتقد بأنَّ القصد  أدرِكَ جيدا، المتمثِّل في شحن اللغة بتأثيرات سريعة للغاية. أحبُّ جدا عندما يبدي سان سيمون – الذي يتهكَّم وأنتَ تكتشف تعريف المعجم له باعتباره ”كاتب فرنسي”- اعتذارا بخصوص أسلوبه، مع أنَّه الأكثر استثنائية على مستوى ما بلغه نجاح هذه اللغة الصعبة جدا ضمن سياق يتمثَّل درجة تركيبها وموسيقيتها. لم يكن يمتلك وقتا من أجل الأسلوب، بل يوجد هنا قصد الإدلاء بالحقيقة، وليس أن يجعل من نفسه كاتبا. إضافة إلى ذلك، يكتب الحقيقة بناء على أساس روح القُدُس. كل كاتب فرنسي، لا يهتم بفضل سان سيمون الشامل، فهو كاتب لايقدِّم منجزا يذكر. ”الفرنسية لغة مَلَكِية، يقول سيلين، محاطة فقط بثرثرة لعينة”. ثم يضيف سان سيمون: ”لم أكن قط شخصا أكاديميا. عجزتُ عن التخلُّص من الكتابة سريعا”. إنها صيغة أرستقراطية مدهشة.

12 – جاكومو كازانوفا:

     الشيء الذي أستطيع تأكيده، أنَّه أحد أعظم كتَّاب فرنسا خلال القرن الثامن عشر. يلزم تصنيف كازانوفا ضمن نفس خانة بيير فرانسوا دي لاكلو، ماركيز دي ساد، فولتير، روسو. تميَّز بحرية تفوق باقي الكتَّاب الفرنسيين، بصرف النظر عن ماركيز دي ساد، رمز الشمس السوداء بالنسبة لهذه القضية. أظنني الوحيد الذي توجَّه حقا بكيفية منتبهة، صوب الأمكنة التي شهدت نهاية مسار هذا البوهيمي، تحديدا داخل قصر صغير باروكي، ثم توخيتُ اقتفاء آثار جسده. انتهى بحثي بالعثور على كنيسة. ربما انطوت على بقايا كازانوفا، الموجودة فعلا.قلتُ، فيما يخصني بأنَّ العدوانية سياسية، وجنسية أيضا، نفس الأمر. باختصار، يلزم إذن العثور ثانية على تلك الأطلال، واقترحتُ بلا جدوى غاية الآن، محاولة قطف مجرد عظمة الفخذ أو الساق قصد اختبار أجواء طقوس دفن جليل وسط ساحة سان ماركو في البندقية. سيكون في اعتقادي، أبسط المبادرات.

13- مدينة البندقية:

     أربعون سنة، خلال فصول الربيع والخريف. هكذا، أنجزتُ متخفِّيا تحت فضاءات مدينة البندقية، أشياء كثيرة، مثلما حضرت بين فصول مختلف كل رواياتي وبامتياز مع عملي الآخر “معجم الحب في مدينة البندقية”.

14- جزيرة ري Ré:

    أعود إليها من حين لأخر بفضل ماقام به أحد الأسلاف، الذي كان بحَّارا خلال مسار طويل، ثم استقر نهائيا في جزيرة ري. موقع استراتجي للغاية، ضمن حدود محمية للطيور. استوعبتُ دوافع بقائه هنا. بوسعه امتلاك قارَبٍ، ثم الذهاب للصيد، وكذا مطاردة البطِّ. وجهة رائعة جدا.يسحرني المشهد العام. لقد احتجتُ إلى مناظر بالأحرى، مسطَّحة، بلا صخور. لاتحدثني من فضلكَ عن جزيرة بروتاني، أو البحر الأبيض المتوسط. إذن، المحيط، الطيور، المستنقعات المالحة، الشمس، التبخُّر. ثم هذا التأثير النادر جدا لصورة نور الشمس وسط الماء. طبعا، قد نشاهد منظرا من هذا القبيل في البندقية، أحيانا في هولندا، وبالتأكيد في الصين.

15- رواية نساء:    

     رواية صدرت منذ خمس وعشرين سنة دون أن تكتسحها التجاعيد. بشكل غريب، ألحَّ جلّ النقاد على الشخصيات الذكورية وليس النسائية. امرأة شابة قالت لي مؤخَّرا بأنَّها استغربت نحو عدم التكلُّم قط عن الشخصيات الأنثوية بين طيات فصول رواياتي مع أنها كثيرة. أيضا، هي شخصيات متباينة جدا اجتماعيا وفيزيائيا، سلبية أو إيجابية. فما الذي يحدث، حقيقة؟ أظنُّه شيئا غريبا جدا، من هنا العداوة المفترضة. توفُّر خبرة مقاربة هذا العنصر أو غيابها. صراحة، أعتقدها المؤاخذة التي واجهتني قياسا للباقي بكيفية حقيقية وأساسية. لكن بما أنَّ مختلف الأمور متداخلة، فيكمن المنحى الجنسي والسياسي، إلخ. حسب اعتقادي، شخصياتي الأنثوية مهمَّة للغاية. لو كنتُ رسَّاما، أجدها بالأحرى قد رسمت جيدا. بينما لايتجلى الأمر بذات الوضوح، على مستوى الأدب. يأتمن الذُّكور إلى أمهاتهم، والنساء أيضا غالبا. لا تزعجني قط الحرية النسائية، بل فضلا عن ذلك أجدها مثيرة للغاية. أعتقد بأني كنتُ أحد الرجال المعدودين الذين تكلموا عن بوفوار بناء على هذه الرؤية.منذ البداية، أثنيتُ على روايتها ”المثقفون”، عمل رائع، أهْمِلَ كثيرا. ننسى بأنَّ بوفوار كتبت كثيرا، أضحت أيقونة التحرُّر النسائي، بالتأكيد بفضل كتابها ”الجنس الثاني”، لكنه أيضا لم يقرأ في نهاية المطاف، سوى قليلا وجعل منه الأفراد غطاء إيديولوجيا.

16 – يانيك هانيك و فرانسوا ميرونيس:

      كاتبان ضمن الحلقة المشرِفَةِ على إصدار سلسلة ”اللانهائي”، ”المستقبل”. تجمعني حاليا علاقات أكثر استرخاء، وليونة، مع أفراد أصغر مني سنّا بثلاثين أو أربعين سنة. وضع أكثر عملية بالنسبة إليهم، بحيث يمكنهم مثلا التطلُّع نحو بقائي على قيد الحياة، ويبدو لي بيولوجيا واردا تماما. بالتالي، تتجلى لدي بامتياز أهمية رؤية أفراد أكثر شبابا. مقابل ذلك، صارت علاقاتي سيِّئة مع الوسط الذي تتراوح أعمار أفراده بين سنوات 45 و80.

17- الأدب:

     ”ما جدوى الأدب”، يقول بول كلوديل وفق صيغة أجدها رائعة. هناك لقاءات فكرية كثيرة، وندوات بهذا الخصوص؟ تساعدنا على تعلُّم القراءة: ”حينما يمضي الأدب بكيفية سيِّئة، يعني ذلك تقريبا أنَّه لاشخص يعرف القراءة. هذا كل شيء.قصد إدراك آليات الكتابة، يلزم معرفة كيفية القراءة. ثم بهدف تحقيق هذا السعي، وجب أولا معرفة أن نحيا. إذا لم يحدث إلمام بكيفية القراءة، فهذا يعني أننا نجهل معاني أن نحيا.           

مرجع الحوار:

Le Magazine des livres ; avril-mai 2008.  

Visited 19 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي