الثابت والمتغير في الاحتفال المسرحي

الثابت والمتغير في الاحتفال المسرحي

د. عبد الكريم برشيد

ما قبل فاتحة الكلام
     غدا يوم جديد، وغدا هو بداية شهر جديد اسمه شهر رمضان الكريم، ولعل أجمل واكرم ما في هذا الشهر. الكريم، بكل أيامه ولياليه، هو أنه شهر احتفالي وعيدي بامتياز، وهو بحالاته ومقاماته، وهو بثوابته ومتغيراته، وبجديده يكسر العادي، ويعوضه بما هو جديد وبما هو غير عادي، كما أنه يعطي هذه الأيام والليالي دماء جديدة.
وفي هذا الشهر سأتوقف مؤقتا عن كتابة هذه الكتابة، وسأعود لمواصلة النبش والحفر والبحث في المشروع الاحتفالي الكبير، والذي دشنته بالكتاب – المقدمة الذي أعطيته عنوان (التيار الاحتفالي في المسرح العربي الحديث).
وبمناسبة هذا الشهر الكريم أقول لكل أصدقائي ورفاقي وأهلي وأحبتي في المغرب وفي كل العالم العربي والإسلامي (رمضان كريم وكل عام وانت بالف خير وصحة وعافية).
 
فاتحة الكلام
     يقول الاحتفالي بأنه في البدء كانت الاحتفالية، وبأنه في الامتداد لن يكون هناك وجود لأي شيء آخر غير هذه الاحتفالية، والتي هي روح المكان وهي روح الإنسان وهي روح الزمان.
والأصل في هذه الاحتفالية الحقيقية هو أنها حلم بحجم الإنسان وبعمر التاريخ، وهذا الحلم الإنساني لا علاقة له بالليل ولا بالنوم، فهو صحو كله، وهو حضور كله، وهو وعي كله، والاحتفالي في هذا الحلم الوجودي هو أكبر وأصدق كل الحالمين، ولا ينبغي أن ننسى بأن هذا الحلم هو أوسع وأرحب وأعمق وأغنى من أن يكون حلم واحد من الناس، ولكنه بالتأكيد حلم كل الإنسانية، من بداية التاريخ إلى ما لا نهاية.
وفي (بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة) والتي صدرت بمدينة الدار البيضاء، في مطلع السنة الماضية، يقول الاحتفالي ما يلي:
(الاحتفالية الحقيقية لم أدركها بعد، ولكنني أحس وجودها بداخلي، تماما كما أحس وجود الله في نفسي ووجداني وروحي، إن كان هذا الإحساس يغضب أي احد من الناس، فإنني لا اعتذر له، لأن ما يهمني هو أن يرضى عني الله، وأن ترضى عني الحقيقة، وأن أسعد بأفكاري ومشاهداتي وإبداعاتي الصادقة كل أحبائي وكل أهلي وكل رفاقي في الحياة وفي المسرح).
والحلم في الوجود ليس خطأ ولا خطيئة، والسعادة في الحياة ليست ذنبا، والفرح الصادق فيها ليس جريمة، ودور الاحتفالي، في مسيرة الأجساد والأرواح الحية، هو أن يضيء الزوايا المظلمة في الوجود، وأن يعيد الأمل إلى نفوس وعقول كل الناس، وأن يوقد شمعة في هذا الظلام الظالم، وذلك بدل أن يكتفي بأن يلعن الظلام ويمضي.
 
الاحتفال بين سحر المدينة وسحر الحياة
     وأنا المواطن الاحتفالي الحالم، والقادم لدنيا الناس من مدينة اسمها بركان، أدرك جيدا بأنني موجود دائما في فوهة بركان – برفع الباء – ومع ذلك فإنني لم اكفر بالإنسان والإنسانية ولا بالمدينة والمدنية ولا بالحياة والحيوية ولا بالجمال والجمالية، ولا بالحق في الحياة، وإنني أعرف بحدسي الصوفي، أنني أقف بين حدين متقابلين ومتناقضين، ظاهريا فقط، ولكنهما في الأفق البعيد لابد أن تلتقي كل الخطوط، خطوط الطول وخطوط العرض معا، وذلك عند نقطة واحدة.
وإنني، أنا المواطن الاحتفالي، أجد جمال مدينة بركان وسحرها وبهاءها في عيوني، ولكن نيران البركان المشتعل في قلبي وروحي لا تخمد أبدا، وهكذا هي الحياة، في معناها الحقيقي، هي صورة وجمرة، وهيىحركة وطاقة، وهي جسد وظل، وهي ظلام يفضحه ضوء النهار، وهي سفر وترحال، بحثا عن لحظة فرح حقيقية، وذلك في احتفال عيدي حقيقي، في مسار وجود إنساني حقيقي.
وبركان، مدينتي التي انبتتني ذات زمن، ماذا يمكن أن تكون سوى أنها أرض وسماء، وأنها ماء وهواء، وأنها قبضة نور من أنوار الله؟
وذلك البركان المشتعل نارا، ماذا يمكن أن يكون، سوى أنه (علم في رأسه نار) كما قالت الخنساء؟ والنور نور الله، والنار نار الله، وما في جبة هذا الكون إلا الله.
أقول قولي هذا وأنا أستعد لدخول زمن جديد، لا يشبه ما قبله ولا ما بعده، والذي هو الزمن الرمضاني الاحتفالي، والذي يمكن أن نعيد فيه ترتيب أفكارنا وترتيب اختياراتنا، من أجل أن نكون احتفاليين حقيقيين في هذا الوجود الاحتفالي، والذي ناضلنا دائما من أجل أن يكون زمنا حقيقيا.
 
وجود بين بركان والبركان
     في احد تعقيباته على الكتابات الاحتفالية يقول د نور الدين الخديري:
(دام حضوركم البهي أستاذي وأخي العزيز الدكتور عبد الكريم برشيد، حضور ما فتئ يتجدد بفعل حيوية الفكر، وجمالية الروح، وثبات الموقف الذي تدعو إليه الاحتفالية في كل زمان ومكان، مودتي وتقديري).
وفعلا، فإن الحضور الاحتفالي يتجدد لحظة بعد أخرى، لأنه حضور متحرك، بفعل محرك روحي ووجداني جواني خفي، وبهذا فهو الواحد الذي يتعدد في الزمان المتعدد، وهو الجسد الحي الذي يتمدد في المكان المتمدد، وذلك بفعل حرارة الوجود وحرارة الموجودات وحرارة كل الكائنات الحية، ونعرف أن هذه الاحتفالية قد تحركت ومشت، إلى ذاتها ونفسها وحقيقتها بكل تاكيد، وإلى حدود هذا اليوم، فمازالت هذه الاحتفالية تمشي، بفعل احتراق أجساد ونفوس وأرواح حية فيها، وهل تكون الطاقة المحركة للمحركات الاحتفالية إلا هذا الاحتراق المتجدد عبر الأيام وعبر الليالي وعبر الأعوام وعبر العصور والدهور؟
ويسعدني ويفرحني، أنا الحالم الاحتفالي، ألا اكون غريبا ومغتربا في عالم الناس والحجارة، ويسعدني ويفرحني ألا امشي في طريق الأفكار والأحلام وحدي، وأن أجد في الناس من يقتسم معي هذا الاحتراق الوجودي النبيل، وأن أعرف بأنني لست في هذا الكون الاحتفالي وحيدا، وهذا هو ما وجدته في كلمة صادقة جاءتني من الفنان المسرحي محمد أبو طالب من اسبانيا يقول فيها:
(احتفالك باحتفاليتك هو احتفالنا جميعا، هو كينونتنا، هو وجودنا، تحياتي أستاذي الجليل اطال الله في عمرك).
وهذا نفس ما جاء في كلمة للشاعر الصديق عبد العزيز أبو شيار، والذي أعطى لهذه الاحتفالية حجمها الحقيقي، والذي هو نفس حجم الزمان وحجم الإنسان وحجم التاريخ، لقد قال:
(إنھا الاحتفالية أيھا السادة
ستبقى خالدة أبد الدھر ..
تحية محبة صديقي الأديب الأعز السي عبد الكريم).
 
مسرحنا بين الموسمية والنمطية
     ومن حقنا اليوم، أن نتساءل عن الصورة الاحتفالية بين الرواية، كما هي اليوم، وجوابا على هذا التساؤل نقول ما يلي:
إن أهم ما يميز الفعل المسرحي، في طبعته (الجديدة) هو ما يلي:
— حضور الحديث عن المسرح أكثر من حضور الفعل المسرحي الإبداعي، وإن من يكتب (عن) المسرح، ومن يمارس النميمة في حق المسرحيين، ومن ينتقي المسرحيين في المهرجانات، ومن يصنفهم، ومن يعطيهم الدرجات والشارات والأوسمة، ومن يقرب ويبعد المسرحيين، هم عادة من غير المسرحيين المبدعين والممارسين والمحترقين بنار ونور المسرح، وعندما يدخل الإداريون والمعلمون باب المسرح الخلفي، فإنه فإنه لابد أن يخرج المسرحيون المبدعون من بابه الخلفي.
— وما يميز هذا المسرح أيضا، هو الموسمية، والتي تشكل الاستثناء العابر في الزمن العابر، والتي لا تمثل القاعدة المقيمة والمستقرة والمتجددة، وتتجلى هذه الموسمية من خلال المهرجانات والملتقيات المختلفة، والتي هي واجهة المسرح الزجاجية، واجهته البرانية الخادعة والمضللة، والتي تعكس سطح هذا المسرح، ولا تعكس عمقه، وتعكس ظاهره ولا تعكس عمقه، وتعكس جسده ولا تعكس وجدانه وعقله وروحه، وتعكس صوره المتحركة البرانية، ولا تعكس طاقاته الإنسانية المحركة والمتحركة في الخفاء، واكثر هذه البهرجانات المسرحية اليوم، هي مجرد بروتوكول بهرجاني فقط، فيه كلمة الافتتاح، وفيه تقديم اللجنة، وفيه حفل الاختتام، وفيه أكل وشراب، وفيه نميمة تصر كثير من المهرجانات على أن تسميها ندوات فكرية، مع أنه لا فكر فيها، وإنني أتحدى كل المهرجانات العربية أن تدلني على طبيعة الأفكار التي أنتجت، وماذا أضافت هذه الأفكار إلى عالم المسرح؟ وماذا غيرت؟ وماذا جددت؟ وبماذا بشرت؟
وأكثر هذه المهرجانات تبدأ بالكلمات، وتنتهي بالتنويهات، ولا تنتج إلا الكلمات والإنشائيات التي تكرر نفسها، من غير أن تضيف أي معنى من المعاني، ولا أية فكرة من الأفكار، ولعل أخطر مرحلة في هذه المهرجانات، تتمثل في لحظة توزيع الجوائز، اعتمادا على معايير ذاتية، غير موضوعية وغير علمية وغير منصفة، ثم بعد ذلك تطفا الأضواء، وتنزل الستارة، ويفترق الجميع، في انتظار أن يتكرر نفس هذا المشهد البروتوكولي في السنوات القادمة، أو في الشهور القادمة، أو في الأيام القادمة، ويبقى اكبر الخاسرين في هذه المهرجانات المسرحية هو مولانا المسرح، ويبقى أكبر الغائبين في هذا (المولد) المسرحي هو نفسه المسرح، والذي هو أساسا فكر، وهو فنون متحدة، وهو علوم متناغمة، وليس مجرد جوائز يقترحها المزاج، وتمنحها الإدارة، وتباركها الصحافة، ويتقبلها الجسد المسرحي بكثير من الأسئلة التي لا تجد من يجيب عنها، وإن هذه المهرجانات والملتقيات، ومن خلال جوائزها، ومن حيث تدري أو لا تدري، تجد نفسها تنتصر للنمطية والتنميط، وتنتصر للاتباع والتقليد، وهي تقول دائما، بلسان الحال طبعا، بأن هذه المسرحيات التي أعطيناها الجوائر، هي وحدها المسرحيات الصحيحة، وأن كل ما عداها باطل، وأن على كل من يريد أن يفوز بالجوائز مستقبلا، أن يحاكي هذا النموذج الناجح، وعليه، فإن كل من ياتي بغيره، من الاجتهادات المسرحية والإبداعية الأخرى، فإنه لن يقبل منه.
— شيء آخر، في خرائط هذا المسرح المغربي والعربي الجديد، هو غياب النفس الماراطوني الطويل في المسرحيات، والتي أصبحت اليوم تبدأ وتنتهي بسرعة قياسية، مما يجعلها مجرد (سندويتشات) وهي مسرحية سويت على عجل، وقدمت على عجل، وسوف تموت على عجل، وكل ذلك بدل أن تكون احتفالات مسرحية غنية وباذخة وكاملة ومتكاملة.
 
في الاحتفالية المواقف قبل المواقع
     وبخصوص سكونية الزمن المسرحي يقول الاحتفالي ما يلي:
(لقد آمنت بأن على الكاتب أن يخوض الحروب الحقيقية) ونتساءل، والحرب التي نقصدها. هي حرب من ضد من؟
بالتأكيد هي ليست حربا بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنها الاختلاف الفكري، والذي يفيد الجدل، ويفيد التعدد، ويفيد الغنى، والذي يحرك عجلة الفكر المسرحي وعجلة الفن المسرحي نحو الأجمل والأكمل والأنبل، وعليه، فأن تكون مفكرا، وأن تفكر بشكل مختلف، لا يعني أنك ضد أشخاص معينين، أو ضد جهات معينة، وبذلك فقد قال الاحتفالي دائما، ما أكثر الحروب المزيفة في حياتنا اليومية، والتي قد تكون مجرد لعب أطفال، والمهم هو أن تكون هذه (الحروب) حروبا فكرية وجمالية وأخلاقية، وأن تكون (ضد الجهل والتجهيل، وضد الفقر والتفقير).
ولقد سبق وقلت دائما، بخصوص موقفي المختلف والمخالف، في كتاباتي التنظيرية والنقدية معا (بأن هذا الموقف هو موقف مبدئي، موقف هو أو لا يمكن أن يكون، وبأنه لا يليق بالكاتب المبدع أن يتبع، وأرى أن فكرة استقطاب الكاتب الحقيقي تظل فكرة بليدة وغبية، وأعتبر أن أي كاتب يستقطب بسهولة، لهذه الجهة أو لتلك، لا يمكن أن يكون إلا كاتبا فاشلا ومتخلفا، وأعتقد أن الكاتب المؤسس لا يمكن أن يكون إلا مؤسسة فكرية وإبداعية متكاملة، وبهذا يكون مطالبا بأن يكون سلطة، وأن يكون طاقة، وأن يكون جبهة، وان يخوض حرب المواقف بنبل وشرف، أما حرب المواقع، فلها فرسانها وشروطها المختلفة، وفي سياق عذه الانزياحات ، ضيعنا كثيرا من الجهد ومن الوقت في الحروب الصغيرة الخاسرة) لقد جاء هذا البوح في كتاب (عبد الكريم برشيد وخطاب البوح – حول المسرح الاحتفالي) للأستاذ عبد السلام لحبابي.
وإذا كان لابد للإنسان من الحرب، فإن عليه أن يحارب شهوته وغرائزه الباطنية أولا، وإذا كان أجمل وأنبل النقد بالنسبة للاحتفالي، هو النقد الذاتي، فإن أكبر وأخطر كل التحديات، هي أن يتحدى الإنسان فيها ذاته، وأن يتجاوز نفسه، وأن يقهر ضعفه، وأن يواجه خوفه، وأن يكون اليوم أحسن وأجمل من الأمس، وأن يسعى من أجل أن يكون غدا إنسانا آخر، وأن يكون غدا أكثر وعيا وأكثر إنسانية وأكثر تسامحا، وأن يكون في خطابه الفكري والجمالي أصدق وأغنى.
 
 الاحتفالية بين الواقع وما فوق الواقع
     في الزمن السبعيني من القرن الماضي، كانت الكتابة المسرحية (ملزمة) بأن تتحدث عن الواقع بصور مأخوة من الواقع، وذلك حتى تكون (واقعية) وكان هذا الواقع هو مجرد صور فقط، وليس أي شيء آخر، وبهذا قد كان ضروريا أن تكون هذه الكتابة المسرحية (الواقعية) كتابة صحفية، أو تكون مجرد تقارير وصفية، لما يجري ويدور في الحياة اليومية، وكان التشبيه التمثيلي ممنوعا، وكان باب الاستعارة مقفلا بالشمع الأحمر، وكان التعبير بالصورة التراثية نكوصا وهروبا من الحاضر، وكان التراث موجودا في الماضي، وكأن هذه اللغة التي نكتب بها ليست تراثا، وكان هذا المخيال الجماعي ليس تراثا، وكان هذه الحكم والأمثال التي نتمثل بها ليست تراثا، وفي هذا المعنى يسألني عبد السلام لحيابي في كتابه (عبد الكريم برشيد وخطاب البوح حول المسرح الاحتفالي) السؤال التالي:
(تلجأ في بعض نصوصك إلى الإشارة، هل هذه تقية أم مراقبة ذاتية كما جاء في مسرحية، يا ليل يا عين؟).
وفي الجواب أقول له ما يلي: (لا أعتقد أن الأمر يتعلق بالتقية أو بالرقابة الذاتية، وأرى أن هذه النصوص، في معناها الحقيقي، هي بالأساس استجابة للضرورات المهنية، والتي لها علاقة بالكتابة الإبداعيةعموما، وبطبيعة الكتابة المسرحية بشكل خاص، والتي هي كتابة إبداعية لا علاقة لها بالكتابة التقريرية أو بالكتابة الوصفية، والمسرحية ليست مقالة سياسية، وهي لا تخاطب الناس بلسان الكاتب، ولكن من خلال بنية درامية مركبة ومعقدة، والكاتب فيها لا يخاطب الناس بشكل مباشر، ولكن من خلال شخصيات، ومن خلال حكايات، ومن خلال علاقات، ومن خلال حوارات، ومن خلال حالات، ومن خلال علامات وإشارات).
ونفس هذا الكاتب الاحتفالي هو الذي قال: (وأنا في فعل الكتابة لا أختفي إلا من أجل أن أظهر بشكل أحسن، ومن أجل أن تنوب عني شخصياتي في أن أقول ما أشاء، ولكن بلغة المسرح والمسرحيين طبعا، والتي هي لغة رمزية بالضرورة، وليس بلغة الخطابة أو بلغة الصحفيين، والتي هي لغة وصفية وتقريرية، وأنا ما دخلت المسرح من أجل أن أصادر حقي في الكلام المباح، ولكن من أجل أن أكلم الناس تحت الأضواء الكاشفة، وأن يكون كلامي هذا مجسدا في أجساد، وأن يكون مشخصنا في شخصيات، وأن يكون مصورا في صور حية، وهكذا هو المسرح أو لا يمكن أن يكون).
فانا الكاتب علي أن أكتب، وعلى القارئ أن يقرأ، وأن يكون في قراءته مبدعا، وأن يكون مفسرا، وأن يكون مؤولا، وأن يكون مجتهدا، وأن يكون متخيلا، وأن يملا الفراغ من عنده، وأعرف بأنني قد أعطيت الناس فقط نصف المعنى، وأن عليهم أن يعطوا النصف الآخر من المعنى.
 
بحثا عن مسرح حر في مجتمع متحرر
     ونعرف أن الكتابة الفكرية والإبداعية، هي أساسا حرية وتحرر، والأصل في فعل هذه الكتابة هو أنها دعوة صادقة لتحرير الناس، وأنها دعوة للتحرر من سجن الواقع والوقائع، ولعل هذا هو ما جعل البيانات الاحتفالية تردد لازمة أساسية هي:
— تحرير المسرح بالإنسان الحر
— وتحرير الإنسان بالمسرح الحر
وبالتأكيد فإن وجود كاتب بلا حرية، هو وجود لكاتب ناقص وغير كامل، والذي يمكن أن نقول عنه بأنه كاتب أحول او أعمى، أو أنه كاتب أخرس، وهو بهذا كاتب بلا إرادة، وبلا رأي، وبلا موقف، وبلا جرأة، وفي هذا المعنى يقول الكاتب الاحتفالي: (ولأنني كاتب حر، فقد أعطيت شخصياتي المسرحية الحق في أن تقول ما تشاء، وأن تفعل ما تريد، بالشكل الذي تريد، ويمكن أن نجد في مسرحياتي كل الناس، وأن تجد فيها مدنا عالمية كثيرة، تجد باريس وبغداد وفاس والدار البيضاء ومراكش ومدريد ولندن، وتجد في هذه المدن الملوك والسلاطين والنشالين والصعاليك والمهرجين، وأن تجد عند كل واحد من هؤلاء لغته الخاصة، وتجد عنده منطقه واحلامه وأوهامه الغريبة والعجيبة، وفي كل هذه الفوضى المنظمة، يمكنك أن تسأل عني، وأن تقول لي من انت؟ ومع من أنت؟).
وأنا في هذه الكتابة الإبداعية أظهر وأختفي، وأغيب وأحضر، وأقيم وأسافر، وأنطق بأكثر من لسان، وأكلم الناس بكل اللغات. وأكتب بكل الأبجديات، وعلى القارئ المحتفل أن يكون قارئا للسطور وما بينها، وأن يعرف أن خلف الكلمات، في معانها المعجمي، حياة أخرى، هي الحياة الحقيقية بكل تأكيد.
في هذه الكتابة الاحتفالية يحضر خيال الظل، الاحتفالية بشكل كبير، والذي هو تقنية نعم، ولكنه قبل ذلك هو فلسفة شرقية قديمة تعكس حقيقية الإنسان، بين أن يكون جسدا، وأن بكون ظلا، وهو فن قديم يمثل رؤية الشرق إلى الوجود وإلى الحياة، والتي تعكس وجود حياة أخرى حقيقية، خلف هذه الصور الظلية المتحركة على شاشة الوجود، ولقد حضر خيال الظل، بشكل خاص، في تلك الاحتفالية الشعرية التي تحمل اسم: (ابن الرومي في مدن الصفيح).
وبخصوص الشبه بين الاحتفالي وفلسفته الفكرية والجمالية والاخلاقية، يقول د. سعيد بنفرحي:
(المسرح الاحتفالي يشبه إنسانه وواقعه، وثقافته. وأفضل اصطلاح المسرح الاحتفالي على المسرح العيدي لأن المصطلح الأول يتضمن الثاني، أما الثاني فهو جزء من الأول. خالص تحياتي ومودتي).
أما الوطني والمقاوم الأستاذ محمد شفيق فيقول في الاحتفالي والاحتفالية ما يلي:
(وتستمر الاحتفالية في احتفالياتها، وكل يوم تطلع فيه الشمس، نرى الاحتفالي يركض، ويركض، رافعا الرأس، شاخص البصر إلى الهدف الأسمى في استمرارية إلى الأمام، دون ملل أو انهزام، مهما كانت الظروف. دام حبيبنا الدكتور عبد الكريم برشيد على الدرب الكبير وهو في صحة جيدة يرفل في السعادة ليطلع علينآ كل يوم بجديد).
وهذه رؤية احتفالية لمقام مغربي ناضل في صفوف المقاومة الوطنية تلمغربية، من تجل وطن احتفالي حر ومستقل وعاقل وفاعل ومتفاعل مع محيطه الجهوي والدولي.
 
مهرجانات المسرح العربي مولد وصاحبه غايب
     في إحدى دورات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي بالقاهرة، في طبعتها الأولى، كتبت في ركني الأسبوعي بجريدة (الميثاق الوطني) مقالة بعنوان: (مولد سيدي التجريبي). وانطلقت من المقولة المصرية الشهيرة والتي هي (مولد وصاحبه غايب) والتي تقوم على أساس وجود مولد شعبي يحمل اسما من أسماء الأولياء الصالحين، والمفارقة هي أنه، في هذا المولد، يوجد كل الناس، وتوجد كل الأشياء، إلا صاحب هذا المولد، فإنه وحده هو الغائب الأكبر. وذلك في تجمع مهرجاني شعبي كبير يحمل اسمه، وكذلك هو حال التجريب في بعض مهرجاناتنا المسرحية، بل وفي كل حياتنا المسرحية، حيث يحضر اسم التجريب وحده، ويحضر اسم المسرح التجريبي وحده ويغيب سيدنا ومولانا المسرح، والذي قد يكون مثل سيدي ياسين في مسرحية الطيب الصديقي (سيدي ياسين في الطريق) والذي تحول إلى بعد موته إلى خرافة شعبية عامة، وتحول قبره إلى ضريح، يأتيه الناس من كل مكان، ويحضر فيه الإتباع البغائي، ويغيب فيه العقل والتعقل والعقلانية، وهذا هو حال (مسرحنا) والذي لم يعد مسرحنا، وأصبحنا فيه غرباء، وأصبحنا يتامى.
ويمكن أن نتساءل اليوم، كيف يتصور المسرحيون المغاربة والعرب هذا المسرح التجريبي، والذي كثرت فيه الإشاعات والادعاءات بشكل مرضي خطير؟
وفي الجواب نقول ما يلي، فهو عندهم مسرح بالقول فقط، وهو عند الحقيقة لا مسرح، أو هو شبيه المسرح، أو هو تخريب لجوهر وروح المسرح
هو (مسرح) أخرس لا ينطق، وقد ينطق أحيانا بغير لسانه، عندما يأخذ روائع المسرح العالمي، ويعبث بها باسم الإعداد مرة، وباسم الاقتباس مرة، وباسم التجديد والتجريب في كثير من المرات.
ومن حقنا بلا شك، بل من واجبنا، ألا ندع مثل هذا العبث يمر أمامنا مرور الكرام، من غير أن نتساءل، وأن نقول ما يلي:
ومسرح يجهل قواعد المسرح الأساسية والتاريخية، هل هو فعلا مسرح تجريبي؟
ومسرح يخلط بين الأجناس الأدبية والمشهدية، كيف يمكن أن يكون تجريبيا مسرحيا؟
ومسرح أبيض أو رمادي، لا يقول شيئا، ولا يوحي بشيء، ولا يدعو لشيء، هل هو مسرح أولا، وهل هو مسرح تجريبي ثانيا؟
ومسرح لا يعرف ثوابت المسرح الأساسية، ولا يستطيع أن يميزها عن المتغيرات المتجددة. ما علاقته بالتجريب؟
إن المسرح العربي اليوم، تماما كما هو الغناء العربي، يكثر فيه المؤدون فقط ولكن يغيب فيه المبدعون، ففي مجال الغناء مثلا، كل المغنيات أم كلثوم واسمهان ونجاة الصغيرة، ولكن أين هو الشاعر أحمد شوقي والشاعر أحمد رامي والأخطل الصغير في هذا الغناء؟ وأين هو الملحن المبدع الذي يمكن أن يكون في قيمة وقامة محمد عبد الوهاب والسنباطي والقصبجي وبليغ حمدي والسيد مكاوي وأحمد البيضاوي وعبد السلام عامر وعبد الرحيم السقاط وغيرهم كثير؟
وفي آخر هذا النفس، أرى من الضروري أن اختتم بكلمة الدكتور مصطفى رمضاني، والذي هو كاتب ومخرج وناقد وباحث وأحسن من أرخ للاحتفالية بموضوعية ونزاهة، يقول في تعقيبه على موقف الاحتفالية من وهم التجريب المسرحي ما يلي:
فعلا صديقي العزيز . لقد بتنا ننفر من هذا المسرح الذي يفرض علينا في بعض المهرجانات باسم التجريب، وما هو غير تخريب لجوهر المسرح وقيمه وروحه. المسرح كان دائما تجريبيا، ما دام يحيا كل مرة حياة متجددة، بتجدد السياقات والجمهور والرؤى… ذاك هو جوهر المسرح. أما تلك الشطحات التي نشاهدها في هذه الموجات الفرجوية الجديدة فما إلا هي فقاقيع سرعانما تتلاشى بانتهاء العرض، ولا يصح إلا الصحيح. محبتي أيها العزيز).
Visited 5 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي