المرأة ليست قضية فقهية.. ولا هي ورقة انتخابية

المرأة ليست قضية فقهية.. ولا هي ورقة انتخابية

محمد امباركي

     لعله من المناسب أن نقول بأن النقاش حول مدونة الأسرة ينبغي أن يتجاوز الرؤية القانونية والفقهية المحضة، ليتأطر ضمن سياق اقتصادي وسوسيوثقافي متحرك، ونعتقد أن قراءة تحولات هذا السياق، خاصة ما يتعلق بواقع المرأة المغربية، يتيح لنا توسيع أفق الرؤية نحو استحضار المعطيات الاقتصادية والسوسيوديمغرافية، وبسط دلالاتها بشكل يجعل من تحرر المرأة المغربية قضية يفرضها المنطق الموضوعي، أو ما يمكن الاصطلاح عليه “تحرر الضرورة” أمام سلطة الوقائع السوسيولوجية، دون انتظار “الضوء الأخضر” من جهات ومؤسسات تخفي مصالح ومنافع مادية ورمزية، من خلال الدفاع عن ذكورية النص، باسم هوية دينية وأخلاقية مجردة وفارغة من كل مضمون سوسيوتاريخي.

   ووفقا لهذه الرؤية، فإن الوقوف عند هذه الوقائع السوسيولوجية واستكشاف دلالاتها، قد يسعفنا في تأطير السجال حول مدونة الأسرة، في رهانات تتجاوز تمثل المرأة كقضية فقهية، لا يراد لها الانفلات من أغلال الأحوال الشخصية، من زواج وطلاق وحضانة وإرث… الخ، أو كورقة انتخابية، يتم تحريكها كلما استدعت ضرورة العودة إلى واجهة المشهد العام، حيث يمسي الجدل حول نساء المغرب النافذة التي تطل منها جهات حزبية وفقهية فقدت رأسمال “أخلاق الإيمان” أو “أخلاق القناعة”، على حد تعبير “ماكس فيبر”، في معمعان “أخلاق الالتزام”، أي في معترك السياسة وصراع المصالح، كما حصل لحزب العدالة والتنمية، الذي ظل ولا زال يقود حربا بالوكالة ضد كل التيارات والتشريعات، التي من شأنها المساهمة في توسيع مساحات الحضور النسائي، وانتزاع الاعتراف المؤسساتي والثقافي بوجودهن، من الناحية المادية والرمزية.

   إن المغرب يعيش تحولا ديمغرافيا ملفتا، يتجه نحو هيمنة نسبة الإناث، إذ تفيد إحصائيات رسمية مغربية أن عدد النساء في المغرب يفوق عدد الرجال، وقدر عددهن، في منتصف عام 2018، بنحو 17.67 مليون، أي ما يمثل أكثر بقليل من نصف سكان المغرب (50.1 في المائة). ونستنتج من ذلك أن هذا التحول الديمغرافي الذي يجري في ظل عولمة جارفة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، قد يحمل معه انتقالات قيمية وسوسيوثقافية من أبرز تجلياتها ارتفاع التمدرس النسائي الجماهيري في مختلف أسلاك ومؤسسات التربية والتعليم، بل والحصول على الشواهد والألقاب المدرسية المتميزة ، وهذا ما اصطلح عليه عالم الاجتماع الفرنسي “Roger Establet بـ”الثورة المحترمة”، لكنها تظل هذه الثورة متفقة مع “التحرر تحت الوصاية” الذي تحدثت عنه Rose-Marie Lagrave [1]، من خلال العنف الرمزي الذي يشكل آلية حيوية لإعادة إنتاج الهيمنة الذكورية، حيث تبدو تجليات ومفعول العنف الرمزي عبر “العلاقة التقليدية بين الرجال والنساء التي يبنيها هابتوس يجعل الهيمنة الذكورية تبدو مشروعة بالنسبة للنساء أنفسهن. فطالما العنف الرمزي مشتغلا، فإنه ينتج نساء يحملن هابيتوسا يساهم في إعادة إنتاج الهيمنة التي تمارس عليهن”[2] 

   وفي ذات السياق، وبالقدر الذي ولجت النساء عالم المدرسة، فهن يسجلن حضورا أقوى في عالم الشغلوذ ومزاولة مهن متعددة معظمها يجمع بين الهشاشة والطابع الذكوري، في ظل تنامي عطالة ذكورية أو “عمل بيت ذكوري” قد يفرض تدريجيا، وأمام تراجع نمط الأسرة الممتدة،  نمو بطيء لمظهر عام يمكن الاصطلاح عليه بمهنة “رب بيت” لما نسأل عن مهنة الرجل مثلما كنا نقول عن المرأة التي تلزم المنزل بـ”ربة بيت”..

   لكن يظل المعطى السوسيولوجي الأقوى والذي يستدعي وقفة نظرية وامبريقية، هو معطى الفضاء العمومي وخضوعه للتأنيث المتصاعد على صعيد الحركية الاحتجاجية خاصة فيما يتعلق بالاحتجاجات السوسيومجالية من قبيل حراكات الريف، جرادة، مقاطعة السلع الثلاث، و”حراك الماء” بفيجيج… وهنا لابد من بيان حقيقة مفارقة، مفادها أنه مثلما تشكل النساء كتلة انتخابية مهمة في السجل الانتخابي، فيظل حضورهن فقط في حدود كونهن أصوات انتخابية في خدمة الرجال على مستوى الترشيحات والمسؤوليات بالمؤسسات المنتخبة كالبرلمان والمجالس المحلية، تعتبر نساء الحراك أيضا القوة الناعمة والمؤثرة في مختلف لحظات الحركات الاحتجاجية، لكن يظللن “غير مرئيات” على صعيد هيئات قيادة الفعل الجماعي سواء من حيث الصياغة، التوجيه، التقرير والتقييم..

   لكن وفي ضوء الحيثيات أعلاه، تظل الملاحظة السوسيولوجية التي تستحق هي أيضا، التأمل والتفكيك، هي أن هذه الدينامية النسائية، بقدر ما تعكس قوة الطموح والتطلع لدى المرأة المغربية وتنامي الوعي بالذات داخلها على حد تعبير Alain Touraine، والذي فرضته إكراهات الوضعية الاقتصادية والاجتماعية الهشة، بقدر ما تتجاوز هذه الدينامية حقلا سياسيا ومدنيا متكلسا وباردا، ويميزه عجز مزمن عن مواكبة وتأطير هذه الدينامية التي تتجه بشكل موضوعي نحو علمنة “تحتية” غير قابلة للكبح مهما تعال صراخ الفقهاء وزعماء “الأحزاب الدينية التقنوإدارية” في ظل تناقض وغموض الخطاب الرسمي والسياسيات العمومية في مجال المرأة، من خلال ثنائية مقصودة تجمع بين التقليد والحداثة والتسويق لـ”أسطورة المساواة” على قاعدة مكتسبات جزئية لا تقطع مع استراتيجية إعادة إنتاج السلطة الذكورية باعتبارها من المكونات الحيوية للسلطة السياسية المهيمنة.

   من هنا، تظل استراتيجية تفكيك وهدم ميكانيزمات تكريس وإعادة إنتاج هشاشة الوعي المساواتي داخل البينات العميقة للمجتمع النسائي، وذلك ن خلال استنبات وتعزيز الوعي الديمقراطي الذي يستمد مقوماته من قيم المساواة التامة والعدالة الاجتماعية وعلمنة مؤسسة لتمييز عقلاني وحقوقي بين الفضاء العمومي والفضاء الخاص، هي القادرة على خلق “هابيتوس نسائي” مؤهل أن يتحرر هو ذاته وفي لا شعوره الفردي والجماعي، من منطقيات مركبة للسلطة : منطق سلطة الفقه الذكورية وثقافة التمييز في مجالات التربية والتعليم والإعلام، ومنطق التوظيف السياسوي” الضيق” في الحقلين الرسمي وغير الرسمي، وكذلك تجاوز النخبوية التي تميز معظم روافد العمل الجمعوي والمدني التي تشتغل على قضايا وحقوق النساء.

______________________________

[1] Ugo Palheta, La domination scolaire. Sociologie de l’enseignement professionnel et de son public, Paris, PUF, coll. « Le lien social », 2012, P : 223

[2]  حسن احجيج. نظرية العالم الاجتماعي. قواعد الممارسة السوسيولوجية عند بيير بورديو. مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع. 2018. 

Visited 9 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمد امباركي