حول العمل الإرهابي في موسكو.. ولكن لماذا ليست داعش؟!

حول العمل الإرهابي في موسكو.. ولكن لماذا ليست داعش؟!

  د. زياد منصور

            كثرت الفرضيات حول الجهة المنفذة للعمل الإرهابي في كروكوس سيتي هول في موسكو، بحيث ذهب كثر من المحللين حتى إلى المضي قدمًا في تبني وجهة النظر  العدميَّة، التي تحمل السلطات الروسية مسؤولية هذا العمل الإرهابي، في سياق رد فعل عاطفي وعدمي، وحتى غير منطقي يظهر غشاوة كبيرة على أعين هؤلاء الَّذين ينطلقون في الغالب من منطلقات لا تأخذ في الاعتبار الواقع الداخلي، ولا تدرس حقيقة موازين القوى، بل فقد هؤلاء وبسبب ابتعادهم اليومي عما يجري من أحداث حس التقدير، وبعد التفكير، وضآلة التحليل، بحيث تستند هذه المواقف إلى تهيؤات وتصورات بعيدة كل البعد عن الواقع، فتظهر غاشية أمام دينامية الصراع، وموقف القوى المنخرطة فيه ومصالح هذه القوى التي آثرت العمل الحثيث على تدمير الواقع الروسي الداخلي، وإثارة الخلافات الأثنية والنعرات الطائفية، وتأجيج الخلافات القومية داخل المجتمع الروسي، وتوجيه الرأي العام المحلي والدولي لاتهام جهات معينة ، في مسعى حقيقي لتوريط الروس أكثر في جبهات أخرى أبعد من أوكرانيا، فيما تغض الطرف عن سلسلة متواصلة من الهجمات التي استهدفت شخصيات وبنى تحتية، ومنشآت استراتيجية روسية بغية الضغط المزعوم على روسيا لوقف ما يسمى حربها في أوكرانيا.

لقد شكل الهجوم الأخير موسكو ذروة هذه الهجمات التي سبقها محاولات حثيثة لإظهار عجز السلطات عن مواجهة تداعيات الحرب، بدءًا من محاولات إرسال المسيرات فوق العاصمة موسكو، وضرب نورد ستريم، وتفجير جسر القرم، وتعطيل الانتخابات بأي ثمن ممكن، ليجيء الاعتداء الإرهابي في موسكو متوجًا لسلسة هذه الهجمات، إثر زيادة التحذيرات الغربية والنصائح الموجهة لمواطنيها للابتعاد عن الأماكن العامة، أو حتى ترك الأراضي الروسية في هذه الظروف، في سياق حرب نفسية تحمل أبعادًا كثيرة، لكنها لم تحقق أهدافها.

            في كل الأحوال لا بدَّ من التوقف بعناية ودقة، عند الأطراف المستفيدة فعلاً مما جرى، واعتبار أعمال توجيه الرأي العام نحو اتهام أجهزة الأمن الروسية بالضلوع بذلك مجرد فقاعات هدفها التضليل والتعمية وحرف الأنظار عما حدث، وهو شأن كثيرًا ما شاهدناه في الآونة الأخيرة بدءًا من قضية بريغوجين، وصولاً إلى نافالني المعارض حيث يصر البعض على توجيه الاتهامات إلى جهة بحد ذاتها وهي القيادة الروسية، التي يتعامى فيها هؤلاء عن حقيقة أن  ما يجري في الميدان الأوكراني هو تحول نوعي استراتيجي خصوصًا إثر تحرير أفدييفكا واندفاع القوات الروسية على كافة الجبهات، بما يعني سقوط نظرية أن الكرملين وراء كل ما يجري، وهو لا يلبث يحقق انتصارات على الأرض، وفي مرحلة أنجزت فيها الانتخابات الرئاسية التي لنتذكر أن الغرب لم يقر بنتائجها ، في إطار رفض كل ما يجري في روسيا في سياق قرار عزلها وفرض المزيد من العقوبات لتغيير مسارات سياساتها ليس فقط بشأن أوكرانيا بل في أنحاء شتى ونقاط عدة في العالم   ، بدءًا من أفريقيا والعلاقات مع دول الخليج العربي التي تنامت وتتطور باضطراد  والتوافق داخل أوبيك  على تحديد سقف لأسعار النفط الذي يزعج كارتيلات عالمية ، والتحكم بأسعار الوقود ومراعات توازنات الأسواق العالمية إلى غير ذلك من الخطوات.

            على هذا يبدو تبني تنظيم داعش لما جرى أبعد عن الواقع، في ظل هذه الرؤية الشاملة الآنفة الذكر، ويمكن البحث عن الجهات المحتملة، حيث في الظاهر أن تنظيم داعش هو المنفذ من خلال تبنيه بشكل واضح لما جرى، رغم وجود قناعة بأنه يحاول التستر على مشغليه وأقرانه الذين خططوا لهذا العمل. ففيما رأينا أنَّ كييف تنصلت تمامًا من ذلك، ظهرت مواقف من دوائر غربية تنفي تماماً ضلوع الحكم في كييف، وظهرت تقارير إعلامية توجه أصابع الاتهام إلى جهات متطرفة كتنظيم خرسان الذي لم يتحرك حتى في عز الأزمة السورية ضد القوات الروسية، بل يجمع مراقبين على سوء تنظيمه وارتباكه الكلي في كل مناطق انتشاره. وإن كنا هنا لا نحاول إيجاد ربط بين المواقف، ولكن من المهم تحليل مواقف الأطراف وتتبع ردود الأفعال لنبني على الشيء مقتضاه.

لماذا ليست داعش، بل هناك جهات أخرى؟

        كل شيء بسيط هنا، خصوصًا إنَّ لكل مجموعة إرهابية أسلوبها الخاص في ترك بصماتها على فعلها الذي تريد من خلاله كسب أوراق قوية، وتحقيق أهم النتائج وهو احداث ارباك كبير، وتحقيق التفوق النفسي على عدوهم. لعل هذا الكلام مبني على سلوكيات داعش في دولتها المزعومة في بلاد الشام التي ارتكبت ما ارتكبته بهدف الترويع ومن ثم السيطرة في الميدان.

وإذا سلمنا في هذا الأمر، فإن الداعشيون عمليًّا يدركون عجزهم الكلي أمام قدرات جهاز الأمن الفيديرالي الروسي وتفوقه، وبالتالي فإن غرض الترويع لن يجدي نفعًا هنا.

من ناحية أخرى كان خط داعش في جرائمه يقوم على ارسال انتحاريين لتفجير أنفسهم، هؤلاء لا قيمة للحياة الدنيا عندهم، ومهتمون بالوصول إلى “جنتهم” الافتراضية المنسوجة في مخيلتهم ومخيالهم. فهؤلاء إنهم يبحثون عن الموت في أي هجوم ينفذونه، لأن هذا هو دافعهم الحقيقي، كما أن البيان الذي تبنى العملية يختلف من حيث المضمون والشكل والمحتوى عن كل بيانات التنظيم إثر عمليات مماثلة.

من الواضح أن من نفذ عملية كروكوس ليسوا من هذه الطينة، وأظهروا انهم إرهابيون عاديون نفذوا ما نفذوه “من أجل المال”. وهذا الأمر دأبت عليه بعض أجهزة الخدمات الخاصة في أقاليم ودول مجاورة لروسيا. لكن هذه المرة فقط تم تجنيد طاجيك من آسيا الوسطى ليقوموا بما قاموا به. لنذكر أن هذه الطريقة استخدمت في قتل داريا دوغينا وعدد من الصحفيين الروس المؤيدين للعملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وعملية اغتيال أوليغ تساريوف، العضو السابق في البرلمان الأوكراني وهو أيضا من الموالين لروسيا.

مشكلة المهاجرين في المدن والبؤر الرمادية

      أما اختيار طاجيك للقيام بهذه العملية فيحمل أبعادًا للتضليل بشأن المشغل الحقيقي ومما يبدو من الواضح أن حقيقة استئجار مرتزقة مهاجرين من آسيا الوسطى وطاجيك (وفقًا للإحصاءات فالطاجيك هم الأكثر انتشارًا في روسيا) لارتكاب هذه الجريمة الرهيبة، ليس من قبيل الصدفة.

ومن الناحية المنطقية، فإن هدف منظمي الهجوم هو استثارة ردود فعل لدى بعض الروس المناهضين للعمالة الآسيوية من أبناء آسيا الوسطى والقوقاز، مما سيدفع بهؤلاء الروس المتطرفين للقيام بردود أفعال عشوائية بحق الجاليات المهاجرة والإسلامية. وبعد ذلك، وبالتالي قد يكون الهدف وفقًا للمخططين إثارة المذابح في روسيا على أسس قومية أو دينية (أو الأفضل من ذلك، كليهما)، وهو ما من شأنه أن يسمح أن يورط روسيا بأعمال عنف داخلي، ويكون بداية لإعلان هزيمتها في حربها على الجبهة الأوكرانية.

وكما بات معروفًا فإن جميع المعتقلين هم من طاجيكستان. ولا بدَّ هنا من أنَّه خلال عقد ونيف من الزمن كانت تحدث توترات اجتماعية على أساس عرقي في مختلف المدن الروسية بسبب كثافة العمالة، ولقد كانت هذه قنبلة موقوتة لا بدَ أنها ستنفجر عاجلاً أم آجلاً. إذ يظهر أن اتباع سياسات ضعيفة بشأن تنظيم الهجرة والعمالة سيكون محفوفًا بالصدمات الكبرى.

إن تدفق الهجرة غير المنضبط تقريبًا في روسيا لسنوات عديدة وغياب الخطط لاستيعاب القادمين الجدد واندماجهم بالمجتمعات المضيفة في المدن الكبرى كموسكو وسانت بطرسبورغ أدى بالفعل إلى ظهور الأحياء الفقيرة والغيتوات القومية، وظهور البنية التحتية للقوميات المختلفة (من سائقي التاكسي، ومصففي الشعر، وأطباء الأسنان، وظهور المساجد السرية، ونوادي الفنون القتالية المختلطة) وحركات ثقافية فرعية وشبكات مغلقة. وكل ذلك يحدث في واقع يتجاوز الواقع القانوني والمالي والضرائبي وغير ذلك. لكن هذا العالم يتصادم بشكل منهجي مع حياة الروس وتقاليدهم.

في البداية كان هناك التطرف الإسلامي القادم في آسيا الوسطى. لقد منعت أجهزة المخابرات بانتظام الهجمات الإرهابية التي يعد لها بعض القادمين من الجمهوريات الجنوبية وقامت بتصفية الخلايا الوهابية. ثم ظهرت “ثقافة” قطاع الطرق، الذين يخرجون من صالات الألعاب الرياضية في الطوابق السفلية، ويتنمرون على السكان الأصليين في الشوارع. وفي الوقت نفسه، يجب على المرء أن يفهم أن بيئة الهجرة منظمة للغاية وتتعاضد وتتضامن بسرعة كبيرة وتقف مع بعضها البعض لحماية نفسها بشكل جماعي.

لقد أبدت هياكل الاستخبارات الأجنبية والاوكرانية اهتماماً بهذه الفئة الكبيرة والوازنة. والكل يتذكر مسيرات المهاجرين في موسكو بعد المداهمات التي شنتها قوات الأمن في كوتيلنيكي؟ أو المسيرة إلى أودينتسوفو؟ كل هذا تبين أن عدو قد حرَّض عليه عبر قنوات التلغرام. إذ يعرف خصوم روسا وأعدائها نقاط الألم لديها ويلعبون بمهارة على نقاط الضعف والمثيرة للتوترات في المجتمع الروسي.

أمام هذا الواقع فإن تجنيد العملاء في هذه البيئة كان مسألة وقت فقط. الشيء الأكثر رعبا في هذه القصة هو المستوى الجديد من التحفيز. وربما تكون هناك خلفية دينية، ومن الواضح أن علماء النفس قد عبثوا بعقول الإرهابيين. لكن هؤلاء ليسوا إرهابيين أيديولوجيين يجهدون لتفجير أنفسهم. هؤلاء هم قرويون جشعون، عبر شعارات بسيطة ومفهومة ومبالغ من الروبلات لا تغني ولا تسمن، تم اقناعهم أن حياتهم ستكون مختلفة في حال قاموا بقتل بضع مئات من الكفار.

هناك ما يكفي من هذه الحوادث والقصص التي يمكن سردها، ولعل هذا ما جرى خلال اقتحام مطار محج قلعة بحثًا عن يهود إسرائيليين إثر عملية طوفان الأقصى (أيضًا عمليات مركز المعلومات والعمليات النفسية في أوكرانيا TsIPSO عبر التيليغرام ، والتي، بالمناسبة، لم يدينها رجال الدين المحليون بل دعوا أيضًا إلى عدم تنفيذ أعمال “القمع” بحق المرتكبين، وتجري أعمال إشعال النار في محطات التحويل الكهربائية ومكاتب التجنيد العسكري والتي يقوم بها روس وغير روس، كمثل العملية التي نفذتها داريا تريبوفا والتي أدت إلى مقتل المدون فلاديلين تتارسكي وجرح أربعين آخرين هي أيضًا مثال صارخ. لكن مشكلة المهاجرين تكمن في وجودهم في منطقة رمادية سيئة يصعب السيطرة عليها. وهنا بالطبع لا يمكن حل المشكلة بقرار واحد ف. هناك حاجة إلى عمل منهجي لإزالة هجرة اليد العاملة من المنطقة الرمادية. لصالح المهاجرين الملتزمين بالقانون والعاملين تحت سقفه.

ما هي الاحتمالات الأخرى؟

       هناك اتهامات وشكوك بضلوع جهات أكبر، ويأتي ذلك إثر التصريحات الفرنسية، وفضح جهاز الأمن الفيديرالي لتصريحات ضباط ألمان حول تدمير جسر القرم، وازدياد الكلام عن انتشارا قوات غربية بريطانية وفرنسية بالتحديد في أوديسا. هناك من يعتقد أن جهات كبرى تريد توريط فرنسا وألمانيا وجرهم إلى حرب أكبر وزجهم في حرب تقليدية مدمرة، حيث يتصاعد الكلام عن حرب عالمية ثالثة وقرب نشوبها.

في كل حال ما جرى ليس بالاعتيادي، والتريث الروسي يبدو واضحًا، لدراسة حقيقة ما جرى، وكشف جوانب الخلل الداخلية، ودراسة احتمالات تطور الصراع حتى مطلع الصيف القادم، وطريقة انتشار القواعد العسكرية في بعض أوروبا وسلوكيات الدول المجاورة لروسيا في بولندة والبلطيق ورومانيا ومولدوفا،  ودراسة مسألة لمن سيكون النصر في الانتخابات الأميركية، بحيث يظهر بوضوح تبدلاً في مواقف دوائر نافذة في الولايات المتحدة بشأن دعم أوكرانيا اللامحدود والذي لم يحدث أي متغيرات ميدانية ودراسة مدى جدواه وفائدته.

Visited 15 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي