عاد الجميع ليتحدث عن ممر سووالكي..ما أهميته وما مدى خطورته؟

عاد الجميع ليتحدث عن ممر سووالكي..ما أهميته وما مدى خطورته؟

د. زياد منصور

      في السنتين الأخيرتين أغلقت ليتوانيا جزئيًا عبور البضائع الروسية إلى كالينينجراد. فيما ينتشر في هذا الجيب جزء كبير من الجيش الروسي، بما في ذلك أسطول البلطيق. في الآونة الأخيرة عاد العالم ليتحدث مرة أخرى عن خطر ما يسمى بممر سووالكي.  فما هي طبيعة هذا الممر؟!

            أولاً: ما هو ممر سووالكي؟

    هذا الممر عبارة عن معبر أرضي ضيق يبلغ طوله 70 كيلومترًا يصل بين منطقة كالينينجراد في روسيا وبيلاروسيا. لسنوات عديدة، كان يطلق عليها اسم “كعب أخيل” بالنسبة لحلف شمال الأطلسي. تحتوي هذه المنطقة غير المكتظة بالسكان على أراضي زراعية وطريقين سريعين كبيرين وخط سكة حديد واحد. وللممر أهمية قصوى بالنسبة لأمن منطقة البلطيق. وهو الطريق الوحيد لاتصالات الطرق والسكك الحديدية من أوروبا الوسطى إلى دول البلطيق.

    تتمتع قطعة الأرض هذه، التي تحمل اسم مدينة سووالكي البولندية، بأهمية استراتيجية بالنسبة لحلف شمال الأطلسي لأنها تربط دول البلطيق برًّا بدول التحالف الأخرى، كما أنه مركز مهم لانتقال القوات والأسلحة إلى حلفاء البلطيق.

   في الوقت الحالي، من أجل تعزيز دول البلطيق، يحتاج الناتو إلى المرور عبر ممر سووالكي، وهو قطاع أرضي ضيق يفصل بين كالينينغراد وبيلاروسيا، والذي يمكن أن تحاول روسيا إغلاقه والإمساك به في حالة نشوب صراع. وفي هذه الحالة، لن تصل المساعدات إلى دول البلطيق، وبهذا تتمكن روسيا من القضاء على أي محاولة لحصار منطقة كالينينغراد.

    يعد النقل بواسطة الكك الحديدية الحالي عبر ليتوانيا جزءًا من الاتفاقية المبرمة بين بروكسل وموسكو. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما كانت ليتوانيا تتجه نحو الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، أبرمت بروكسل اتفاقًا مع موسكو بشأن تبسيط وتسهيل إجراءات العبور للمسافرين والبضائع، وفي 1 أيار 2004، أصبحت ليتوانيا عضوًا في الاتحاد الأوروبي.

    منذ استعادة “استقلالها”، كانت دول البلطيق تدعي مخاطر تعرضها لهجوم روسي. وتتهم روسيا سلطات دول البلطيق وتحديدًا في ليتوانيا وإستونيا بممارسة كافة أشكال بالتمييز ضد السكان الناطقين بالروسية وتمجيد الفاشية والنازية، في حين تتهم دول البلطيق روسيا بسعيها لتحقيق الطموحات الإمبراطورية القديمة وتطالبها بما يسمى بتعويضات عن سنوات الاحتلال السوفياتي، بما يشبه موقف السلطات الأوكرانية الروسية ومطالباتها ضد روسيا والتي بدأت منذ ما يسمى بالثورة الملونة 2014.

    في المقابل، تدعي دول الناتو عن شعورها بالقلق بشأن ممر سووالكي منذ فترة طويلة. لذلك، تعمد إلى القيام بحشد مستمر لقوات ووسائل التحالف في مكان قريب من الممر، وبالتحديد على أراضي بولندا.

    على هذا يتم تعبئة وتحضير القوات للقيام بعمليات هجومية، وبالتحديد من أجل عبور العوائق المائية، مثل الأنهار الحدودية بين بولندا وبيلاروسيا، البوج الغربي وسفيسلوتش. ولهذا الغرض، تم تجميع وحدات من القوات الأمريكية (فوج الدبابات الـ 66)، قوات فرنسية (لواء الدبابات الـ 7 والفوج الـ 152 مشاة)، وقوات سويدية (فوج الهندسة ييتسكي)، إضافة إلى وحدات بولندية وتركيزها في منطقة لومجا. يبلغ إجمالي القوات حوالي ستة آلاف جندي. ولزيادة فعالية إدارة القوات في هذا الاتجاه، نقل البنتاغون إدارة ومقر الفيلق الجيش الخامس الأمريكي إلى بولندا.

    يذكر في هذا الصدد أن موضوع ممر سووالكي يطرح في الدوائر العسكرية لحلف الناتو، وليس في روسيا ، خاصة في بولندا وليتوانيا، وذلك في إطار تسعير المواقف وإشاعة مزاعم وهمية، وبث وجهات نظر لخبراء عسكريين ومسؤولين سياسيين في هذين البلدين تشير إلى أن هذه المنطقة بالذات يمكن أن تكون نقطة ساخنة لتدهور العلاقات بين موسكو وحلف شمال الأطلسي على  خلفية انضمام فنلندا والسويد إلى هذه المنظمة.

    لا بد هنا من إعادة التذكير أنه في عام 2016، توقع الباحثون في مركز الأبحاث RAND (مؤسسة راند أو مؤسسة الأبحاث والتطوير الأميركية) أنَّ القوات الروسية يمكن أن تستولي على عاصمتي إستونيا ولاتفيا في غضون ستون ساعة، ما لم تتلق مساعدة من الناتو. وبالتالي، في حالة نشوب حرب مع روسيا، يجب على الناتو الحفاظ على هذه المنطقة تحت سيطرة بولندا وليتوانيا.

    بالإضافة إلى ذلك، يمكن لأنظمة الدفاع الجوي الروسية S-300 وS-400 المنتشرة في كالينينغراد وسانت بطرسبرغ أن تشل المجال الجوي في دول البلطيق وبولندا. وهكذا، فإن روسيا سوف تكون قادرة على السيطرة على الممر ليس فقط عن طريق البر، ولكن أيضا في الجو. وادعى هؤلاء الباحثين أنه في حالة نشوب حرب مع الناتو، لا يتعين على موسكو الاحتفاظ بممر سووالكي بشكل دائم – يكفي الصمود هناك لعدة أيام حتى لا تتمكن قوات الناتو من تأمين التعزيزات إلى دول البلطيق في حالة العدوان عليها.

    رغم هذا الكلام فإنه ودون أدنى شك فإن هذا الممر هو قضية استراتيجية بالنسبة لروسيا، حيث أن الاتصالات البرية والجوية هي التي تربط منطقة كالينينغراد بالجزء الرئيسي من روسيا تتم عبر هذا الممر. بالإضافة إلى ذلك، يقع المقر الرئيسي لأسطول البلطيق التابع للبحرية الروسية في كالينينغراد.

    بالطبع، إذا اعتبرنا من الناحية العسكرية ممر سووالكي مجرد وسيلة لتطويق دول البلطيق، فربما نعم، وهو مهم لأنه يقع تحت مرمى نيران المدفعية من بيلاروسيا ومن منطقة كالينينغراد. ومع ذلك، فمن الواضح أن الأهمية الاستراتيجية لممر سووالكي بالنسبة لروسيا مبالغ فيها. فليست روسيا من لا يستطيع العيش من دونه، بل على العكسي حلف شمال الأطلسي، إذ أن الطرق التي تمر من بولندا إلى ليتوانيا تمر فقط عبر ممر سووالكي، كما لا توجد طرق من بيلاروسيا إلى كالينينغراد عبرها. ولذلك هناك تحشيد كبير لقوات الناتو هناك ويهدد مصالح بيلاروسيا حليفة روسيا الاستراتيجية، أمَّا التصعيد والتوتير فهو فقط للاختباء حول ما يسمى بالتهديد الروسي.

         سووالكي وكيف ظهر- معلومات تاريخية؟

    في الأعوام 1867-1917، كانت تقع مقاطعة سووالكي على أراضي ممر سووالكي الحالية – وهي جزء من مملكة بولندا، التي كانت جزءًا من الإمبراطورية الروسية. آنذاك كان نهر نيمان هو الحدود الطبيعية للإقليم في الشرق والشمال. وفي وقت لاحق، حتى الحرب العالمية الثانية، كانت الحدود بين بولندا وليتوانيا تمر عبر هذا المكان. قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، تفاوض أدولف هتلر مع السلطات البولندية حول موضوع الاستيلاء على ممر سووالكي، لكن دون جدوى. في الواقع، لم يسمح البولنديون للألمان بالدخول إلى أراضي بروسيا الشرقية، التي كانت تابعة لألمانيا في تلك السنوات.

    ظهر ممر سووالكي باعتباره “كمسألة خاصة” منفصلة في أب 1940، نتيجة لتوقيع اتفاق مولوتوف-ريبنتروب وضم ليتوانيا إلى الاتحاد السوفييتي. ثم أطلق على “الممر” اسم حافة سووالكي Suwalki، لأنه توغل في عمق أراضي الاتحاد السوفياتي.

   لم يكن ممر سووالكي ذو أهمية استراتيجية خلال الحرب الباردة، لأن بولندا كانت عضوا في حلف وارسو، وكانت ليتوانيا جزءًا من الاتحاد السوفييتي. واليوم، يعتبر هذا الموقع الواقع على الأراضي البولندية، من قبل بعض الخبراء، أحد أخطر الأماكن على وجه الأرض، خاصة بالنظر إلى أنه منذ عام 2022، حدَّت ليتوانيا من مستوى عبور الترانزيت من روسيا عبر أراضيها. يذكر أنه تمر عدة طرق وسكة حديدية واحدة عبر ممر سووالكي.

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي