ثلاثة سيتجرعون السم… (2-3)
حسين قاسم
لم يكن السلام يومًا خيارًا جذريًا بالنسبة لإسرائيل، سواء بين الشعب أو الحكومات المتعاقبة. كانت نظرتهم إلى اتفاقية السلام مع مصر كحاجة للتفرغ لاستكمال بناء الكيان الغاصب، ولفك العزلة الإقليمية والدولية عنه، ولتفتيت الصف العربي. هذا ينطبق أيضًا على اتفاق أوسلو. جاء اغتيال إسحاق رابين في عام 1995، أي بعد عامين من توقيع الاتفاق المذكور مع منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، ليبدأ بعدها مسار عرقلة السلام ومنع إقامة الدولة الفلسطينية فيما عُرف بحل الدولتين. استغل شارون ذلك لملاحقة عرفات وعزله ثم قتله. بالتزامن، برز لدى الفريق الإسرائيلي شعار يهودية الدولة كحل لخطر الديموغرافيا الفلسطينية، مع تزايد ملحوظ في عدد سكان عرب 48، ودعمتهم في ذلك الإدارة الأمريكية خاصة في عهود الجمهوريين. ومع فشلهم، استمروا في مخططهم لمنع قيام الدولة الفلسطينية. في هذا الإطار، ينبغي الإشارة إلى الاستفادة الإسرائيلية من مخططات إيران والنظام السوري وغيرهم من قوى الممانعة في محاولاتهم الحثيثة للسيطرة على القضية الفلسطينية، كما أسلفنا في الحلقة الأولى. بلغت تلك المحاولات ذروتها بفصل غزة عن الضفة، لتبرز حركة حماس كأداة رئيسية في تقسيم القرار الفلسطيني، وعملت إسرائيل جاهدة لاستمرار الانقسام بين مختلف القوى الفلسطينية للتهرب من التزاماتها حيال تسهيل حل الدولتين.
تزامنت هذه التطورات مع تحولات في الحياة السياسية الإسرائيلية، من جهة التغييرات والتحولات العالمية، ومن جهة أخرى، عبثية حروبهم وهزائمهم في لبنان إلى نجاح الانتفاضات الفلسطينية في زعزعة الاستقرار الداخلي، وفشلهم في تحقيق تطبيع شعبي مع المحيط العربي.
هذه التطورات ساهمت في إضعاف أسس الكيان وأثرت على عقيدته، مما أدى إلى بروز نقص حاد في منسوب الوطنية الإسرائيلية. ذلك الانتماء الذي كان متوهجًا في مرحلة التأسيس تضاءل تدريجيًا حتى بلغ ذروته في السنوات القليلة السابقة، لتواجه إسرائيل، ودون مبالغة، أزمة سياسية وجودية. وقد شملت هذه الأزمات كل مناحي الحياة في دولة الاحتلال، لا سيما بتفشي ظاهرة الفساد وتراجع الخدمة في الجيش، الأمر الذي انعكس في الضربة الكبرى التي تلقتها في السابع من أكتوبر العام الماضي. وإذا كان من المبكر الخوض في دراستها لا سيما في ظل الحرب المتواصلة، فمن الممكن القول إنها تُعد عملية القرن، وهي توازي في أهميتها عملية الحادي عشر من سبتمبر الأمريكية.
ثم، وبصرف النظر عن نتائج الحرب المدمرة الدائرة حاليًا، سينتج عن ما حصل في السابع من أكتوبر صدمة في عقول النخب الإسرائيلية وفي تفكير ومخططات الدولة العميقة، لتجعل الكيان برمته عند مفترق طرق. ليس من السهل استنتاج أنه لولا التدخل الأمريكي السريع لانهار الكيان. هذا سيعزز التأثير الأمريكي على القرار الإسرائيلي الداخلي، وتاليًا، ستكون السياسة الإسرائيلية في خدمة المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، مما يجعل نتنياهو أمام خيارات مُرَّة، أسهلها عليه تجرُّع السم الذي هرب منه لسنوات عديدة، وهو السير في موضوع حل الدولتين وفي المخطط الجديد للشرق الأوسط الذي ترعاه أمريكا.
بيد أنه من غير الممكن حصول تغريبة فلسطينية جديدة، سواء من غزة أو من الضفة، ثم إن الحرب في غزة طويلة لكن ستحدث تداعيات غير مألوفة في مجرياتها، علمًا أن مجريات حرب غزة منفصلة عن ما يجري في الشرق العربي والإيراني.
Visited 22 times, 1 visit(s) today