رِسَالةُ ودٍّ إلى شَاعِرٍ صَديقٍ وَدُود
د. محمّد محمّد الخطّابي
أيها الصّديق الوَدود.. الشّاعر الصّادح، والأديب الرّاجح، اسمٌك “حُسْنٌ” ونعتك “نَجْمٌ” وهما صفتان مُركّبتان من جمالية الحُسْن، وسموّ النجوميّة، اسم ونعت لا يبرحان الذّاكرة، والعقلَ، والجَنانَ، والوجدان، يشعّان إبداعاً وإمتاعاً بين السّطور فى كلّ وقتٍ وحين، ينثران رونقاً وبهاءً، ويسطعان تألقاً وسناءً، يُيبوّآن صاحبَهما في منازل الشّعر قبّةً من أدمٍ في ناصية النّظم الرقيق، والإبداع الأنيق، بعطائه الخصب، والتزامه الأدبيّ، والشعريّ، والنقديّ الدائم بعزمٍ، وحزمٍ، مقتحماً مَهَامِهَ الحياة وفيافيَها، وخائضاً مفاوزَها وقِفارَها، صفتان حميدتان يرمزان لواحدٍ فى اِثنيْن لا يفترقان، أو هما اِثنان في واحد لا يتباعدان، بل إنهما متلازمان، ومتلاصقان كأصبعيْن في كفِّ..! كلاهما مُكمِّل للآخر، كلاهما حاضرٌ بقوّة وزخمٍ وإبهار وإبحار فى ساحاتنا الأدبية، ووَاحاتنا الشّعرية، وسجالاتنا النقدية، متهادييْن في خيلاء في بوتقة الخلْق الغامر، والإبداع الزّاهر، والعطاء الزّاخر، كلاهما يجعلان القارئ المُجدّ يدنو من منتوجهما الشعري بشغفٍ، وشوقٍ، وغبطةٍ، وفرحٍ، وجَذَلٍ، ومرحٍ. كان على الشّاعر الذائع الصّيت الذي ملأ الدنيا وشغل الناس قديماً وحديثاً أن يقول: إذا كنتَ في “حُسْنٍ” مَرُومِ / فلا تقنع بما دُون النجُوم!
داناتٌ دانيّة
الشّعر عندك يا صاح يغدو طوراً داناتٍ جمانيّةً دانيّة، صافيّةً، ودرراً نقيّةٍ، مخمليّةٍ، وصدفاتٍ شافيةً، مداوية. وهو يتحوّل عندك فى أطوار أخرى إلى نوارسَ طائرة، تقتفي آثارَ الشّاعر المعنّى المرسومة على الكثبان الرّمليّة اللّجينيّة فى الشطآن البعيدة لخليلك القريب منك روحاً، والبعيد عنك زماناً ومكاناً الشّاعر التشيلي الكبير بابلو نيرُوداوهو في خُلوته النائية، وعزلته المُوحشة قبالة أمواج البحر المُزبدة العاتية التي لا تهدأ مع خليلته، ومعشوقته، وزوجته، وملهمته “ماتيلدي أرّوتيا” فى “جزيرتهما السّوداء” مرتع إبداعهما، ومنبع خلْقهما وعطائهما، ومسكنهما الأبدي الأخير الدائم حيث يرقدان اليوم جنباً إلى جنب في سكينةٍ ودعةٍ سلام ، فى أقاصي الجنوب الأمريكي التشيليّ المتراميّ الأطراف المحاذي والملامس لذيل العالم الجديد الجنوبي النائيّ المغمور والمطمور بكثبان الثلوج القطبية الجامدة الأبدية المُخيفة .
نيرانٌ كاويّة
والإبداع عندك يا صاح، يتجسّمُ تارةً أخرى فى نيرانٍ حارقة، كاويّة، متأجّجة، حاميّة، وطيسيّة، شعرُك شلاّلٌ أتيٌّ منهمرٌ، هائجٌ مائج، مرغيٌّ مُزبدٌ لا يهدأ.. لُججُه المعروفُ، والجُودُ ساحلُه، إنه كَيَمِّ خليله الآخر فى الزّمَكَان، وكصِنوِه فى صنْعة قرض الشّعر المُضنية، المتوّجة بمعانيه السنيّة، المُقتدّة من روحه البهيّة، المُنضّدة في سلك عِقدٍ منظوم موضُون، والمقتدّة من هيدبِ حَرفٍ ناصعٍ مسنُون، ينامُ كصاحبه ملءَ جفونه شواردُها.. ويبيتُ الخلقُ جرّاها يختصمُ..! يُضاهي الذي أسمعتْ كلماتُهُ يوماً مَنْ به صَممُ، المغامر المُشاجِرُ، المُقارع المُصارع لخيولٍ مُسوّمةٍ من فوارسها الدّهرُ، وحيداً وما قوله كذا وكان دوماً رفيقه ومعه الصّبرُ..؟!، إنه مِثْلُه، ومَثَلُه تمرّسَ فى مَهامِه الآفات حتى تركها.. تقول : أماتَ الموتُ أم ذُعِرَ الذّعْرُ..؟
الشِّعرُ طويلٌ سلّمُه!
أيّها القارئ القريب والبعيد، الجادّ المُجدّ، المُثابر الحثيث، المُتجوِّل على ضفاف يمّه المُنهمر، أدْنُ منه بتؤدةٍ، وتأنٍّ، وهدوءٍ، وحيطةٍ وحذر، وغُصْ فى قاعه وقعره بحثاً عن لآلئ وصدفاتٍ، ونقِّب عن داناتٍ وجُمانات قد تبدو لك أوّلَ وهلةٍ سهلةَ المنال، مُيسّرة المآل، إلاّ أنك قد لا تظفر بها أو بمعانيها الرقيقة، ومبانيها الرشيقة، ومضامينها العميقة البعيدة الغور إلاّ بجُهدٍ جهيد، وبقدْرٍ باهظٍ من المّشقّة، والذكاء، والفطنة، والعناء، والمعاناة، والصّبر، والجَلَد، والأناة، وهذه سِمَة الشّعر الجيّد الذي لا يُدرَك كنهُه بسهولةٍ ويُسر، فلابدّ لقارئه أن يعاني معه مقدارَ ما عاناه الشّاعر لحظة الخَلْق، والعطاء، وهنيهة الإبداع، والمخاض.
فنّ العوْم!
أيّها القارئ المُجدّ لا تخشَ أن يجرّك مَدُّ نهرِه إلى أعماقه الهائجة، إلى حيث لا تدري. ولا تخشَ أن يجرفك تيّارُه إلى لُجَجِه المائجُة إلى حيث لا تعلم. عليك أن تعمل بنصيحة ووصيّة الشاعر الدمشقيّ العاشق الولهان صاحب “كلمات ليست كالكلمات” في إجادة فنّ العوْم…! ذلك أنّ الكلمات الرنّانة عنده سرعان ما تتحوّل إلى ديباجٍات رطيبة ملساء، أو إلى أنسجةٍ حريرية ٍسندسيّة شفيفٍة.. تتفجّر فيها، أو معها، أو بها مشاعر فيّاضةٌ مُرهفة، وتفور به أحاسيس جيّاشةٌ مُترفة.. فهو كخليله البعيد “أبو عبادة المنبجيّ” في صناعة وتنضيد القوافي العصماء يُدرك أنّ الشّعر لمحٌ تكفي إشارتُه، وليس بالهذْر طوِّلتْ خُطبُه..! إنّه صعبٌ وطويلٌ سلّمُه.. إذا ارتقىَ فيه الذي لا يعلمُهْ.. زلتّ به الى الحضيضِ قدمُهْ.. يريد أن يعربه فيُعجمهْ!.
بديعٌ البيان
أيّها الشاعر الصّديق الودُود.. لقد كنتَ وما زلتَ فى الكلام فائقاً، رقيقاً، أنيقاً، رشيقاً.. وفى الشّعر، والديباجة والبيان رائعاً، بديعاً، وفى حَبْكِ الكتابة، وسَبْك المعاني ناصعاً ساطعاً، إنّنا ما فتئنا نَستحضِرُ، وما برحنا نتذكّرُ كتاباتِك في السنوات الخوالي الرّصاصيّة العِجاف الفارطة حيث كان شِعرُك يُقصي عنّا النّكد والضّنك، ويُناهض التباعدَ والتنابذَ والعِناد، ويطفح بوَهَج التفاؤل، ويحفلُ بفُسحة الآمال، ويفيض بحبّ الحياة والتشبّث بأهدابها، كنّا نحفظه عن ظهر قلب فيما بيننا، ونردّده بين الفينة والأخرى، كنّا نجد فيه بلسماً شافياً لِكِلاَمِنا، وترياقاً مداوياً للألم المُمضّ الذي يَعصُرُنا، والحزنُ العنيد الذي يهدّنا، والعَناء الذي يقضّ مضجعَنا خلال رحلتنا في عبور مسالك الحياة الشاقة، واختراق آفاقها الوعرة، واجتياز درُوبها المُعتمة، على الرّغم من كلّ ذلك، كنتَ وما زلتَ تجعلُ لواعجَنا تَخفقُ جذلاً، وقلوبَنا تَنبضُ فرحاً، وأفئدتَنا تلهجُ حبوراً وانشراحاً، وأرواحَنا تنتعشُ بِشراً واستبشاراً، وشفاهَنا تندّ عن ابتساماتٍ الرضىَ، والحُسْن، والقَبول، والبهاء والنقاء، إنّها إبتساماتٌ عفوية، تلقائية، بريئةً، واسعةً، عريضةً أهديتَها لنا بمحبّة وسخاء في زمننا هذا الذي أضحىَ موسُوماً بمختلف أصناف الرّداءة وضروب العنف، وفى عصرنا هذا الذي أمست تملأ سماءَه سُحبُ الكآبة والنّكد، إنهما أزمنة وعصور رعناء شحّ فيهما حتّى الابتسام!
في سُوق القراطيس
صديقي الأبرّ “حَسَن نجمي” إنْ نسيتُ يوماً لن أنسى وقفتنا في شموخ في عكاظ المعرض الدوليّ للكتاب بالرباط منذ حوْليْن اِثنيْن من العُمر مَرّا كبرقٍ خاطفٍ في ساعتيْن اِثنتيْن، وقفنا وكأـننا في سوقٍ للمزاد (نُبرِّحُ) لتسويق سلعتنا الإبداعية النابعة من أعماقنا، والمتفتّقة عن آلامنا أمام الملأ من كلّ لونٍ، وعِرقٍ، وجنس، بشُوشاً كريماً كنتَ، كنّا نتبادل كتبنا، وقراطيسنا (مُقايضةً)، مثلما كان أجدادُنا في الأزمنة الغابرة يتبادلون على نفس الرّبوة التي كنّا واقفيْن على أديمها حبوبَ البُرَّ، وبذورَ الزّرع، والذّرع.. تبادلنا مختلف أطراف الأحاديث السجيّة.. والأحاديث معك ذات شُجُون تجرّ بعضها بعضاً، تحدّثنا عن محنة (الكَلِم) التي يعاني منها بشكلّ مُزمن وطننا العربيّ المترامي الأطراف الذي أصبح على أيّامنا ألثغَ أكتعَ، يتيماً، حزيناً، نسيّاً، منسيّاً، مُجندلاً، خاملاً، مهمولاً، ذليلاً ، أصبح قابَ قوسيْن أو أدنىَ من ملامسة الحضيض.
يظلّ اللسان عاجزاً مُقصّراً فى الإطراء الذي يليق بك، وبِجَلَمك، وبحِلْمك، وحُلُمك، وبشِعْرِك، وشُعُورِك، وإبداعك وعطائك اللذيْن لا ينضبّ مَعينُهما، ولا يفترّ نبعُهما، وأمام هذا العجز، وحيال هذا القصور سرعان ما يحلّ محلّه القلب ليفي يالعهْد الموعود، وبالغرض المنشود… ألف تحيّة، ومحبّة، وسلام.*
___________________________
*تحريراً في غسق يوم الأربعاء 3 أبريل 2024 بحيّ المَزمّة ” أجدير” الحصين ( الحسيمة) المغرب.