فرقة الحشَّاشين.. ما أشبه اليوم بالأمس!
محمود القيسي
لا تبك منَ قُتلوا ولا من جاعوا
وابكِ الألى بخطى المخدِّر ضاعوا
الموت أجملُ من حياةٍ لم تصنْ
عقلاً وما لندائها أسماع…
فـي جوفـه طـرق الفسـاد تكاثـرت
وتزاحـم البهـتـان والقـطَّـاع!
(منصور محمد دماس مذكور)
يُطلق لقب المفكر الحر على من يفكر بطريقة مختلفة كما يقول نيتشه لما يُنتظر منه وفقاً للأصل الذي ينحدر منه ولمحيطه وموقعه الإجتماعي ووظيفته، أو بسبب تمايزه عن الرؤية السائدة في عصره. إنه الاستثناء، بينما تُمثل العقول المقيدة القاعدة. ويعيب المجتمع على المفكر الحر أفكاره ويدّعون أنها تسمح بأفعال متحررة، أو أنها متأتية عن الرغبة في جلب الإنتباه، أو تتعارض مع الأخلاق السائدة… فهو يطلب البراهين أما الآخرون يطلبون إيماناً فحسب!
هناك إصدارات عديدة في هذه ألأيام عن فرقة أو طائفة الحشاشين بين الأساطير والحقائق التاريخية… حيث التحشيش السياسي في أعلى وأخطر مراحله التاريخية.. وهنا لابد أن نعود بالتاريخ إلى الوراء بالطرق العصرية الحديثة كي نكتشف إذا كان التحشيش السياسي عند البعض (….) “حلال” أم “حرام”؟ وإذا كانت الطائفية “غاية” أم “وسيلة”؟ وإذا كانت دماء فلان “ذكية” نقية ودماء علتان “نجسة” مزمومة؟ وإذا كان هذا ابن “الست” وذاك ابن “الجارية”؟ أصبحنا في لبنان نضحك من قهرنا حتى الموت المتعدد والمفروض علينا…تحولنا إلى مجرد شعب “يضحك” من الوجع ويموت من “الضحك”!
أصبحا نعتقد أن الضحك على أنفسنا هي الرد الطبيعي على الكوارث السياسية والاقتصادية والمالية والمعيشية والأمنية الحاصلة في البلد… وإنها مجرد دروة طبيعية في الارتقاء وفن التحشيش السياسي… فن “التحشيش” هو مصطلح يُطلَق على النكتة السياسية، ازدهر بسبب أنتشار مواقع التواصل الاجتماعي المتفلت، وأيضا بسبب تلك الأجيال المتعاقبة على ممارسة تدخين النرجيلة وتعاطي الموبايلات والتحشيش الاجتماعي، الأمر الذي أتاح فرصة كبيرة لصناعة الفكاهة السياسية السوداء وتداولها على نطاق واسع، وخصوصاً بين الشباب بالدرجة الطبيعية الاولى رغم الماسي التي أصبحت تعد في بلادنا ولا تحصى… وخصوصًا بين ضحاياها من الشباب والشابات التي تعد ولا تحصى..!
نعم، هناك إصدارات وبرامج هوائية وأحاديث عديدة ومتنوعة هذه الأيام عن طائفة الحشَّاشين أو الحشَّاشون أو الحشيشية أو الدعوة القديمة – الجديدة كما أسموا أنفسهم في ذلك الوقت.. هي طائفة شيعية إسماعيلية نزارية باطنية، انفصلت عن العبيديين الفاطميين في أواخر القرن الخامس هجري / الحادي عشر ميلادي لتدعو إلى إمامة نزار المصطفى لدين الله ومن جاء مِن نسله، واشتهرت ما بين القرن الخامس السابع هجري الموافق الحادي عشر و الثالث عشر ميلادي، وكانت معاقلهم الأساسية في بلاد فارس وفي الشام بعد أن هاجر إليها بعضهم من إيران. أسّس الطائفة “الحسن بن الصبّاح” الذي أتخذ من (قلعة آلموت) في فارس مركزاً لنشر دعوته؛ وترسيخ أركان دولته.
نحن نتحدث عن تاريخ مناطق وحقبات تاريخية غارقةً في الظلمة تاريخ أخطر فرقةٍ عرفها العصر الوسيط. تاريخ طلاسم ورموز المزامير، ورعب فرقةٍ طائفيّةٍ نُسجت حولها حكاياتٌ لم تخلُ في بعض الأحيان من الأسْطَرَة، ولاسيّما شخصيّة مؤسّسها حسن الصبّاح الذي اعتصم بقلعة “الموت” يخطّط لنشر مذهبه بقوّة بلاغته واندفاع فدائيّيه و انتحاريه المدرّبين على الإغتيالات والقتل والتصفيات والتخريب. إنتهت الحركة منذ زمنٍ، لكنّ الحاضر يعلن قيامة الحشّاشين الجدد التي تستعيد أزمنةَ الحروب الطائفيّة وتغوص بعين الفنّ بعيدًا فتعيد رتق فصولٍ من تاريخٍ يمتدّ ألف عامٍ، وتصل الماضي بالرّاهن كاشفةً عن أهمّ أسباب غياب نهضة الشّرق.
قلعة “آلموت”.. إختار حسن الصبّاح قلعة الموت لهذا الغرض، وهي حصن بناه أحد ملوك الديلم ويقع فوق صخرة عالية وسط الجبال ويبعد نحو 100 كيلومتر عن مدينة طهران، وقد كان استيلاء جماعة الصبّاح على هذه القلعة أول عمل تاريخي كبير تنفذه هذه الحركة الوليدة. وقيل إن الجماعة قد اشترتها بـ3 آلاف دينار ذهبي. وتعني “آلموت” بالفارسية “وكر العقاب”، ووفق بعض الروايات فقد جعلها حسن “الجنة المنشودة” و”الفردوس الأعلى” لأتباعه.. وكان يعطيهم الحشيش الذي وجده في تلك المنطقة، ويقودهم إلى حديقة أعدها خصيصًا فيها خمر ونساء وغيرهما، حتى يظنوا أنهم في الجنة الموعودة للمؤمنين والمجاهدين والشهداء.
وعندما يستفيقون يظنون أنهم دخلوا الجنة فعلا، ويعتقدون أن مفتاح الجنة بيده، فينقادون كليَا، وهذا تفسير بعض الروايات لوجود “الفدائيين” و “الانتحاريين”، لكنها رواية فندها “بعض المؤرخين” لوعورة المنطقة وبرودتها فترات طويلة مما يستحيل معه إنشاء مثل هذه “الجنة الموعودة” فيها. ومن قلعة “آلموت” واصل حسن الصبّاح نشر دعوته في المناطق المجاورة، وسيطر على عدد من القلاع والحصون مستخدما تارة الإقناع العقائدي وتارة أخرى القوة العسكرية، وقد أثارت أطماعه التوسعية غضب السلطان السلجوقي ملك شاه، فقرر توجيه حملتين عسكريتين إلى قلعة “آلموت” و”قهستان” للقضاء على نفوذ الصبّاح المتزايد، لكنهما فشلتا في تحقيق أهدافهما.
تهاجمك رواية هادي التيمومي “قيامة الحشاشين” منذ الصفحة الأولى، فتجد نفسك تريد قراءتها بتأن وتمعن، غير أن الأحداث تسرق أنفاسك فلا تعرف إن كنت تلتهم الصفحات أم هي تلتهمك. رواية شيقة خطان سرديان متوازيان ومتقاطعان في آن واحد، بتواريخ مختلفة وأبطال مختلفين، يتشاركان أسرار الحشاشين ونبوءات حسن الصبّاح. وأسئلة تخدم الرواية الواقعية وتكشف وجوه مرعبة: من هو السيد؟ أو من هو الرئيس؟ بل ماذا هو؟ إله أو نبي أو إمام أو محارب أو نابغة عصره أو مجرم مدعي صفة؟ ما علاقة طائفة الحشَّاشين بسموم الطائفية وانتشارها تاريخياً؟
ماهي علاقة المخطوطات اللتي وجدها أستاذ تونسي في منزله بقيامة الحشَّاشين؟ مزامير نقرؤها فيخيل إلينا أن الرئيس أو السيد أو الزعيم كتبها حقا، أسماء نعرفها وأخرى نكتشفها عن السلاجقة والنزاريين والظاهرية والباطنية والبهرة والأيمة وما يمكن أن يتسبب فيه التعصب الطائفي للفرد والجماعة التي لم تتوقف هناك. بل، وصلت إلينا ها هنا… في فن الخبث والإحرام السياسي واستخدام الطائفية التي أصبحت خبزنا اليومي المجبول بلحمنا وعظمنا في أنهار من الدماء الجارية في بلادنا حتى هذه اللحظة من تاريخنا… تاريخنا القديم الجديد.. والجديد القديم…!