مدخل إلى جمالية الفظيع في الرواية السورية المعاصرة
لحسن أوزين
(الفن، والفاعلية الإبداعية عموما، تحاولان عبر الاشتغال على ما هو غريب أو خطر وبشع، مستحيل، الفظيع، أن تبقياه في الذاكرة وتمنعا جرف النسيان له، لكن بعد فكه عن الموت، وربطه بانفعالات مغايرة. فإذا كان أسوأ الفظيع ما فيه تفنن و “إبداع” في التنكيل وتخريب كيان الحي، فإن أعظم الفن والإبداع ما هو ” فظيع” في تمثيل الفظيع، متمرد على المألوف وخالق لكائنات جديد وأشكال جديدة).
ياسين الحاج صالح الفظيع وتمثيله (مؤسسة دار الجديد، ط1 س، 2012، ص12)
مدخل:
أولا/ تحدي الفظيع للفكر والابداع الإنساني
المقصود هنا بالفظيع في مفهومه ومعانيه العميقة، ما تناوله ياسين الحاج الصالح في كتابه “الفظيع وتمثيله “. وهو يحاول مقاربة الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام السياسي السوري، والجماعات الفاشية للإسلام السياسي، في حق الشعب والبلد، بمن فيه وما فيه، بدون أي استثناء للإنسان والعمران والحيوان والبيئة…
في هذا الكتاب حاول ياسين الإحاطة قدر الإمكان بالفظاعات الجنونية البعيدة عن التخيل والتخييل والتصديق، كواقع حقيقي يصدق، رغم ما يكتنفه من لا معقول ولا منطق. صحيح أن واقع الفظيع نتاج ممارسات وأفعال لا معقولة، وذلك تبعا للتفكير المنطقي والنقدي العقلاني، الذي يجد صعوبة في التصديق بما يحدث، ويراه من ممارسات فظيعة في الإجهاز و القضاء على كل ما يقف في وجه النظام الأمني العسكري. إننا أمام عداء صريح لكل أشكال الوجود والكينونة والحياة التي لا تقف عند حدود سقف الانسان، بل يتجاوز السحق والتحطيم كل ما له علاقة وتفاعل وارتباط بالوجود الإنساني والبيئي، وما يحتويه من كائنات، و مختلف أشكال الحياة.
هذا هو التحدي الرهيب والمروع، والصادم المؤلم. بما يتجاوز قدرة الانسان في أنظمته العقلية والرمزية على الفهم والتقبل والقبول، والاعتراف والتصديق بما يحدث كواقع فظيع اعتلى منصة الواقع الحي، كحقيقة مطلقة تنفي وتبيد كل ما عداها. متوخية نشر الرعب والبشاعة والتبلد الى حد فقدان الذاكرة والصوت والتفكير والاحساس والمشاعر والانفعال…
لكن كما قال عبد الرحمن منيف في روايته الآن هنا: “الإنسان مخلوق جبار قوي وذكي لأنه قادر على تحمل المصاعب وتجاوزها”.
هذا ما قام به ياسين في شغله على الفظيع رغبة في إنتاج معرفة تحيط بطبيعته وعناصره وآليات اشتغاله الفظيعة في التحطيم والسحق والحرق والإبادة.
وخلال تصديه بوعي فكري وأخلاقي إنساني للفظيع، في تحديه للفكر والابداع والحياة، أعاد ياسين الاعتبار للإنسان في كونه طاقة لا تنضب، مهما كانت الفظاعة في قوتها وشدة شراستها وبشاعتها الهمجية. لذلك حدق طويلا في وجوه الفظيع بخلفية فكرية معرفية وأخلاقية. فأنتج أدوات للتفكير والحفر والتفكيك، ساعدته على تأمل الفظيع في أسسه وآلياته وأهدافه الخبيثة. الشيء الذي سمح له ببلورة معرفة دقيقة بالسبل والمسالك الإيجابية التي ينبغي السير فيها للولادة من جديد، خاصة وأن الفظيع أباد الجاهز والمألوف والمتعارف عليه في التعبير والاشكال محطما كل شيء في هويته وشكله المألوف والمتعارف عليه.
وفي هذا التمثل الفكري للفظيع، برزت أهمية الفاعلية الفكرية والإبداعية، كمسلك نقيض في وجه الفظيع، تمثيلا وتمثلا، وتشريحا وتشخيصا للفظاعة، في أفق إنتاج وتطوير هويات سردية و تعبيرات وأشكال جديدة، تتخطى حالة الموات الأبدي والتحطيم الجنوني الذي قامت به سياسات وممارسات الفظيع.
ثانيا/ في معنى جمالية الفظيع
تبعا لمسلك الفاعلية الإبداعية التي تحدث عنها ياسين للإحاطة بالفظيع، حاولنا مقاربة مجموعة من الروايات السورية المعاصرة. ورأينا جماليتها في قدرتها على تمثيل ما لا يصدق. وذلك من خلال ابتكار أدوات وآليات للكتابة في التمثيل عبارة وشكلا. وهذا يعني قدرتها على الولادة من جديدة كأصوات إنسانية ترفض الموت والاستسلام، وتخرج من تحت أنقاض التحطيم في بدائل جديدة هوية و تعبيرا وشكلا. فتنتها وجماليتها الى حد “الفظاعة” في خلق انجذاب القراءة وسحر السرد ومتعة التلقي، في الاستجابة لتحدي الفظيع، بالاشتغال عليه كفظاعة تهدد الانسان في قيمته وكينونته ووجوده الإنساني. والامر هنا لا يتعلق بالإنسان السوري حصرا، بل هي فظاعة تطال الانسان بصفة عامة، كما هو متعارف عليه في المواثيق والعهود والأعراف الدولية، الموافقة لمنظومة حقوق الانسان. إنها روايات تعري الفظيع وتتغلب على واقع الصمت والنفور، و لا تكتفي بلغة الانكفاء والهروب، أو الاحتجاج المشحون بالغضب والسب والشتم واللعنة…
روايات تؤسس سردية الانسان في قيمته الانسانية في وجه الفظيع، المانع للكلام والتمثيل والتمثل والتشخيص. جماليتها في منطق الكتابة وآليات اشتغالها على الخبرات والمحن والمعاناة، ومختلف أنواع التحطيم والابادة التي طالت الأرواح والاجساد والاشياء والكائنات، وكل المحيط الايكولوجي. جمالية الفظيع الذي احتوته الروايات ماثل في توليد الدلالات وإنتاج المعاني الفكرية والمعنوية والخصائص الأدبية الإبداعية تعبيرا وشكلا ومعرفة. وأيضا في التأسيس لسردية التحطيم والفظاعة التي عمل النظام الفظيع على التعتيم عليها إعلاميا وسياسيا وعسكريا. متسترا على همجيته ووحشيته الجنونية الى حد جعلت القوالب العقلية ومقولات التفكير العقلاني والمنطقي عاجزة عن تصديق ما لا يصدق من الفظاعة التي فاضت على الواقع وغطت على التفكير العقلي والخيال الإنساني السائد.
جمالية الفظيع في هذه الروايات يكمن ويتجلى في توثيق الجرائم البشعة قتلا وتدميرا واغتصابا وتعذيبا…، وفي المتابعة الدقيقة لمسارات وسياقات الفظاعة، وهي تحرق الأخضر واليابس وتبيد الانسان ومختلف أشكال الحياة. وفي قدرتها ككتابة فنية أدبية على إنتاج معرفة دقيقة بالفظيع. معرفة تساعد الناس على قراءة تجاربهم ومحنهم، وصراط جحيمهم الجهنمي في الفقد والألم والمعاناة. ووعي سرديتهم التاريخية المروعة والرهيبة في الصراع ضد الفظاعة المحلية الأشد قسوة من مغول أتوا من الخارج. والتعرف على ذواتهم وهوياتهم الجديدة، وهم يبدعون تعبيرات وأشكالا جديدة في حياتهم اليومية، ووجودهم البشري
جمالية الفظيع بالمعنى الإيجابي للإبداع في تخطي ممارسات وأهداف الفظيع، في الانتصار للإنسان والبيئة والحياة. من خلال ابتكار أشكال سردية، ومعاني فنية أدبية، وفكرية. تؤرخ للذات والأخر والعالم، وتمنح المجتمع بكل آلامه ومعاناته وجودا تاريخيا قادرا على الاستيعاب والتجاوز، والنهوض من جديد.
هكذا تم الاشتغال على معاناة وآلام الناس، على خبراتهم وتجاربهم، وعلى سيرورات المحرقة، سواء داخل البلد، أوفي الهروب غير الآمن برا وبحرا، أو في بلاد المنافي وكل أمكنة التهجير القسري.
جمالية الفظيع في هذه الروايات أنها رافقت الانسان السوري، رافعة صوتها في تعرية فظاعات سردية النظام المخضبة بدماء الشعب الأعزل.
وفي هذا السياق من مقاومة الألية الرهيبة للفظيع، كان أدب السجون قويا في فظاعته الجمالية الإبداعية، في تمثيل مختلف أشكال الحياة التي كان النظام يجهز عليها. فصعب على الناس تصديق ما لا يصدق ابتداء من نشر التصحر السياسي، وتصفية مشهد التمثيل السياسي والاجتماعي والثقافي. واشتداد جنون اللامعقول في فرض تصديق ما لا يصدق في مجزرة حماة. وفي ما أتت عليه من حقائق لا تصدق، جارحة حارقة، وموجعة، مؤلمة، سردية القوقعة، لمصطفى خليفة، وأخواتها من أدب السجون.
جمالية الفظيع في هذه الروايات أنها كانت مضيافة متعددة، وكثرة مختلفة، في توليد المعاني والدلالات، وتفجير المشاعر والانفعالات المكبوتة والمخنوقة والمقهورة. يتجلى ذلك في لغتها وتعبيراتها وأصواتها وأشكالها الحاضنة لآلام وعذابات وفواجع الناس. وذلك بما يمنحهم مسافات الوجود التاريخي، في التخلص من ثقل ورعب وعذابات المحرقة والابادة التي حطمت أجسادهم وبيوتهم وأساليب حياتهم، وأنماط وجودهم البشري الإنساني. وبما يسندهم في الانفصال، في المعيش اليومي والتفكير المفهومي والابداعي، عن حرقة عذابات آلام التحطيم التي دمرت كيانهم ووجودهم وذاكرتهم وبراديغم تاريخهم الفردي والجماعي والمجتمعي. كما أنها محرقة تواكب ترحالهم القسري مانعة تعبيراتهم، أصواتهم، ابتكار أشكال عيشهم ووجودهم الاجتماعي والتاريخي.
هذا هو عمق جمالية الفظيع الذي أنتجه الشكل الروائي في تمثيل محنة الناس وتجاربهم وعذاباتهم الحارقة والخارقة والمنتهكة لسقف التصديق العقلي والمنطقي، والمتحققة كواقع يصعب تصديقه. جمالية تحكمها جدلية الاستيعاب والتجاوز، تبعا لمنطق الكتابة الفنية الجمالية، في التمثيل والرؤية والتعبير والتشكيل، لكل بشاعات الفظيع، التي تصير جزءا من التاريخ، معرفة ووعيا وتعلما، حتى لا يتكرر ما حدث من فظاعات فائقة التوقع والتخييل والتفكير. كما لو أننا إزاء خرق سافر لمنطق وعقل الواقع وقوانينه. إنها ليست بالغرابة العجيبة التي يعبر عنها عادة الأدب العجائبي والغرائبي. لأن الفظيع تجاوز ذلك في سحره المروع الخاص، وفي فتنته القاتلة للعقل والذاكرة والعواطف والأحاسيس. هذا ما اشتغل عليه الشكل الروائي في منطقه الداخلي، ككتابة أدبية، وأفق فني نموذجي، وجمالية إبداعية لها خصائصها الايحائية والمعنوية الدلالية في تمثيل صدق واقع لا يصدق. ويتم ذلك وفق جدلية في جمالية الكتابة تعتمد التنفير والانجذاب. إن الشكل السردي يستثمر الشحنات الدلالية لثيمة سحر الفظيع في رعب تحطيمه الدموي الأسطوري لكل الأشكال الوجودية المألوفة.
ثالثا/ الاحتفاء بالألم البشري وتكريمه
جمالية الفظيع تقلب منطق الفظيع في رعبه ووحشيته، وفي سعيه الخبيث لتحطيم الأجساد والأشياء والبيئة، والمدن والعمران. مع اغتيال الذاكرة ولجم التاريخ. ونشر النفور والخوف والتجنب، وإيقاف التفكير والكلام…
الروايات التي قمنا بمقاربتها واعية بكل هذه الفظاعات، وبكل العذابات والآلام المتولدة عنها. وهي كتعبيرات أدبية وأشكال سردية فنية لا تخشى التحديق في وجوه الفظيع. لذلك عملت على تمثيل الوقائع والأحداث، والتجارب والخبرات. وفكت شفرات اللامعقول، وما لا يصدق، قصد إنتاج معرفة تخول القارئ/الناس حق تملك التجارب نفسيا وعقليا، ومعرفيا، ووعيا بجحيم التجربة المؤلمة، وبلورة مسافات نقدية تبعدهم عن السقوط في فخاخ الفظيع.
إنها روايات تحتفي بالألم البشري وتعمل على تكريمه، حتى يتحكم الناس/القارئ من زمام مصيرهم بالتحرر من عبء وهول المآسي التي فرضها ومارسها النظام السياسي الفظيع.
انطلاقا من هذه المعرفة لمسلك الفاعلية الابداعية التي تنتجها سيرورة القراءة كتلقي جمالي لفنية النصوص في شكلها الروائي، نفهم ونسهم في جمالية الفظيع، من منظور القطب الجمالي الذي تحتفي به نظرية جمالية التلقي.
وما جعلنا نعتقد بجمالية وفنية هذه الروايات، هو قوتها الإبداعية في ابتكار أشكال أدبية وهويات سردية استطاعت بجدارة تمثيل وتشخيص ممارسات الفظيع، مع إنعام النظر في ما لا يصدق من جرائم همجية الى حد الاحتفاء بالألم البشري وتكريمه.