جمالية تجربة الكتابة وتشكل الذات النسوية

جمالية تجربة الكتابة وتشكل الذات النسوية

لحسن أوزين

        يأتي كتاب “أنت جميلة” في سياق سيرورة أنشطة “منظمة مندي لثقافة السلام وإدارة التنوع”، التي أخذت على عاتقها تنسيق وتنظيم وتأطير ورشات نسوية، تحت إشراف الدكتورة إشراقة مصطفى. وذلك تبعا لبراديغم “ليس سوانا يكتب سيرتنا”، حيث الهدف انتزاع حق الكلام، والاقدام بشجاعة على الكتابة بوصفها مخاطرة ومغامرة. قصد إماطة اللثام عن التاريخ النسوي المفعم بالقهر والقمع والاضطهاد، من جهة، والكشف، من جهة أخرى، عن الوجه المشرق الفاعل، إبداعيا وفكريا، للكثير من النساء اللواتي طمس عطاؤهن، وفعلهن الثقافي والاجتماعي والسياسي. كما تسعى هذه الورشات الى تأسيس ممارسة إبداعية وثقافية نسوية تعبر عن إرادة وقوة ورغبة، دفينة غيبها القهر الذكوري للنظام الابوي، في تحقيق الذات، وعيش حياتهن كمشاريع وجودية حرة، إنسانية وفاعلة ومستقلة.

   والجميل في هذا الكتاب أنه ينتج في سيرورة تكونه، ككتابة ذاتية اجتماعية تاريخية قيما فنية وجمالية، تتحدى بإصرار وعزيمة الأحكام والمعاير والتصورات والمعتقدات الثقافية والدينية للثقافة الذكورية، التي تطاولت مع القرون، حتى أصبحت حقائق طبيعية، أو تشريعات دينية منزلة. لا ترى في المرأة  سوى جسدا للمتعة واللذة، في صورة أقرب الى السلعة المحدودة الصلاحية، والمهددة مع العمر

   بالفساد والعزل والالغاء متى ضعفت جاذبيتها الجنسية، وانحسر اغراؤها الجسدي الذاعر، وذبل جمالها السلعي. كما تراه سطوة تسلط الرؤية الثقافية والاجتماعية والدينية الذكورية، في تشييئها للنساء، الى حد تجريدهن من قيمتهن الإنسانية.

   الكتاب يؤسس هويته السردية الذاتية، في ترابط جدلي مع إنتاج مقومات تشكل جمالية الذات، الكامنة في التحدي والإصرار على مقاومة المحن والعوائق والصعوبات، ومختلف الاكراهات التي تعيق طموحاتهن وتطلعاتهن نحو تحقيق الذات. وذلك من خلال الحضور الوجودي الفاعل اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، بما يسمح لهن، بالتخلص من القيود والتقاليد المجتمعية. وبانتهاك التابوهات والمحظورات الذكورية التي تقف في وجه إثبات وجودهن وذواتهن. وتجاوز الرؤى والأفكار والدلالات الاجتماعية والدينية التي تختزلهن الى مجرد أشياء قابلة للاستعمال المحدود في الزمن.

1- جمالية تجربة الكتابة:

    “كبرت وكبر معي حبي للوني الأسود، شفاهي الغليظة، وأنفي الأفطس. كبرت وصرت أرى في نفسي مقاومة تمشي على قدمين، أقاوم الدولة في إعلامها، وسياساتها القبيحة الدعية لحصر النساء وجمالهن- عبر قنواتها الرسمية- في قالب واحد. تظل الكثيرات من السودانيات تبحثن عنه دون جدوى فهو ليس سوى صورة مصطنعة تفرض العروبة المحضة متجاهلة الأفريقانية الأصيلة فينا.” 68 و69

   تبدو الكتابة في كتاب أنت جميلة آلية لتشكيل الذات، وهي تفتح مراياها للكاتبات مشجعة لهن على اللقاء الرائع بذواتهن الجميلة والساحرة الأخاذة. تمنحهن المساحات الآمنة لاشتغال الإرادة واكتساب القوة الذاتية، والشعور بالمكانة والتقدير والاعتبار. فيأتي بوح الكتابة واثقا من نفسه على المضي قدما في رؤية جمال ذواتهن في الكفاح والصمود أمام كثير من الصعوبات والمظالم القهرية التي تفرضها المجتمعات البطريركية بنزعتها الذكورية. هكذا عبر منطق الكتابة، في اشتغالها السير ذاتي ككتابة أدبية، تأخذ مسارات كفاح تحقيق الذات أبعادها الجمالية والوجودية. وتزداد ثراء وجمالا مع خوضها غمار تجربة الكتابة التي تشحذ العقل وتصون الوعي من السقوط في فخ السلعنة التي يروجها ثقافيا واجتماعيا وسياسيا واعلاميا الاقتصاد السياسي الرأسمالي، في صورته البشعة النيوليبرالية، التي حولت جسد وكيان المرأة عموما، إلى مجرد سلعة تباع في السوق.

   وبتوسط من الكتابة نكتشف بمتعة جمال المرأة الحقيقي، بكونها إنسانة الصمود والعزيمة والإصرار على الوصول الى منابع الجمال المغمورة في عمق الذات المقموعة. تلك المنابع التي حالت السلطة الابوية الاجتماعية والثقافية والدينية دون نمائها وثرائها الطبيعي. كما نلمس الأفق الرحب الذي وفرته تجربة الكتابة كامتداد جمالي للرؤى النقيضة التي تختزل المرأة، تبعا للتسلط الاجتماعي، أو لمنطق السوق الرأسمالي، في سمات ومعايير جمالية تجارية ربحية.

   تتمفصل تجربة الكتابة مع البوح النسوي للكاتبات، في كفاحهن الوجودي لتحقيق وإثبات جمالية الذات، في مواقفها، اختياراتها، استقلالها، فاعليتها، وقدرتها على المواجهة وخوض معارك ضد القهر والتسلط والقمع، فتتولد قيم جمالية إنسانية ترفع من قيمة و شأن النساء. وتضفي مصداقية أخلاقية وحقوقية واجتماعية وثقافية على المسارات الحياتية التي اخترنها. وتفضح تفاهة وبشاعة قيم السوق والنظام الأبوي الذي زج بالمرأة في طاحونة الآلة الرهيبة للاتجار بجسد النساء، بعد سلخ قيمتهن الإنسانية، والاجهاز على إرادتهن في امتلاك أدوات القوة والتحدي والاستقلال والتحكم في زمام المصير.  

2- سحر السرد الذاتي، أو الحق في امتلاك الكلام:

   “وها أنا الآن ومنذ سنتين أشارك مع فنون بنات مندي في ورش الكتابة الإبداعية، وأواصل حياتي بكل جمال رغم محطات الخيبة، والكآبة ورغم أنني أغسل الصحون بيد لا أنسى بأن لدي يد أخرى  تستطيع أن تحمل رواية، وقلما، ودفترا فأواصل القراءة والكتابة.” 63

    كم أنت جميلة حقا وأنت تخوضين تجربة الكتابة من منظور سردي نقيض للمحددات والمعايير الجمالية القذرة التي فرضتها الهيمنة والسيطرة الرأسمالية في قيمها النيوليبرالية. بالإضافة الى قهر الثقافة الذكورية للنساء في ظل النظام الأبوي. وهذا ما يعطي للسرد الذاتي قيمة جمالية ووجودية، تنعكس إيجابيا على المرأة، وتمنحها قوة لتصليب إرادتها في انتزاع حقها الوجودي الاجتماعي السياسي والثقافي، بصورة نقيضة عن منطق السوق. وهكذا تتحرر من اغترابها واستلابها الاجتماعي، وهدرها الذاتي الذي يورطها في وحل كراهية الذات المصطنع من قبل اقتصاد مستحضرات التجميل السلعي المنافي لإنسانية المرأة في وجودها النفسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

   فامتلاك النساء حق الكلام، من خلال ممارسة السرد الذاتي، والخروج من دائرة العزل والصمت، يمنح النساء طمأنينة قاعدية نفسية اجتماعية ثقافية. ويجعلهن أكثر إحساسا بقوتهن على العطاء والخلق والابداع والتفاعل البناء على المستوى الذاتي والاجتماعي.

   لهذا جاءت كل نصوص الكتابة مفعمة بالحب والثقة والارتياح، مع الشعور  بجمالية المسارات والتضحيات والنضالات التي شكلت ذواتهن مضفية عليهن جمالا إنسانيا حقيقيا، أثرى منابع الذوات بكم هائل من التقدير الإيجابي الجمالي لصورهن، وكل ما يشكل وجودهن وكينونتهن.

   لهذا تأتي هذه الخطوة من الكتابة عن الذات، والشهادة عليها وعلى المجتمع، كمحطة تزيد من جمال هؤلاء النسويات. في التأريخ والكتابة والشهادة والبوح، كمقومات أساسية في عملية بناء الذات في نوعيتها وتفردها وفرادتها. وهذا ما يحصنها في وجه القهر والتسلط الذي تفرضه العلاقات الاجتماعية البطريركية المشحونة بالجهل والتهميش والقهر لكل ما يشكل وجود النساء ثقافة وتاريخا وثقافة ووجودا اجتماعيا.

   فمهارة السرد الذاتي أضفت على نصوص الكتاب جمالية خاصة في الاعتزاز بالذات، والوعي بقوتها وجدارتها وحسن اختياراتهن لما يشكل جمالهن الحقيقي المرتبط بحريتهن واستقلالهن وفاعليتهن، بعيدا عن الوصاية والقهر المجتمعي والثقافي والسياسي والديني، المغيب كليا لوجود النساء.

3- جمالية الكفاح والتحدي والإصرار:

   “نعم أنا جميلة. هذا ما تأكد لي مع مرور الوقت، وتتالي الانكسارات، والخذلان.

كنت لا أعرف نفسي، ولا أثق بمقدرتها على التجارب التي خضتها على مدى اثنين وخمسين عاما كانت كافية لتؤكد لي  كم أنا فعلا جميلة وكم كان علي أن أدرك ذلك مسبقا ربما كنت تجاوزت الكثير من العثرات التي صادفتني. لكن أعود وأقول لنفسي دوما: لولا تلك العثرات ما كنت عرفت نفسي، وما كنت اكتشفت كل هذا الجمال بداخلي.” 41

 أمام هذا السرد الذاتي لامتلاك المرأة حق التعبير والكلام، يستمتع القارئ، من صفحة لأخرى، بالجمال الحقيقي الذي ترسم المرأة مساراته وصوره الساحرة. فجميعهن عانينا طويلا، وواجهتهن مختلف المحن والظروف الصعبة. سواء كانت هذه المحن نابعة من المجتمع في تقاليده وأعرافه، تصوراته ومعتقداته لقيمة المرأة البخسة، ومكانتها الدونية، وأدوارها ووظائفها المشحون بالعذاب والاستغلال والقهر. وشروط وجودها المسيجة بالكثير من القيود والاغلال والجدران المرئية واللامرئية. في وسط مشبع بالعنف الرمزي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني.

   فلقد استطاعت هؤلاء النساء بناء ذواتهن، من خلال كفاحهن في انتزاع حقوقهن في الدراسة والعمل والترقي الاجتماعي. كما تشبتن باختياراتهن في مختلف المواقف والوضعيات المجحفة القاهرة. وتميزن بالصبر والصمود في خوض معركة الكينونة والوجود الحر الفاعل والمستقل. واستطعن تكوين وعي اجتماعي سياسي ثقافي نقيض وبديل لكل ما هو سائد من قهر وظلم في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعاطفية. الشيء الذي جعلهن يكتسبن وعيا حقيقيا بما يمكن أن يكون جمال المرأة في حب الذات الحرة الفاعلة المستقلة، في ظل شروط وقوانين إنسانية نقيضة لطبيعة العلاقات الاجتماعية الرأسمالية سواء في الشمال، أو في بلدان الجنوب الغارقة في التسلط والقهر لكل الفئات المجتمعية المسحوقة، وبشكل خاص ومضاعف للنساء.

   كنت أفاجأ بنفسي في مرة كيف أخرج من الألم، أو الخذلان، أو الظروف الاقتصادية السيئة، لم أشعر باليأس كنت أفكر دوما كيف أخرج من مأزقي؟ أنظر الى عيون طفلتي، وأشعر بالأمل وأقول: الحياة لا زالت تستحق المغامرة. أتذكر الآن جملة كانت تقولها لي ابنتي دوما: ما أحلاك يا أمي… الآن وبعد مضي كل هذا الوقت فهمت تماما ما قالته ابنتي. نعم أنا جميلة وعرفت كيف كنت أخرج في كل مرة الجميل في.” 49 و50

   لهذا عاشت هؤلاء النساء وناضلن عبر كفاح مرير لإثبات وتحقيق ذواتهن. وتغلبن على كثير من العراقيل والاكراهات التي حالت دون تحقيق أهدافهن، من أجل الحرية والخلاص من شروط الوعي القاصر المتدني الذي سيده طويلا النظام الطبقي العنصري الأبوي. ورسخه منطق وأليات اشتغال السوق الرأسمالي، الممسوس بجنون الاستغلال الاستعماري، أو النهب المرن الديمقراطي للخيرات والحقوق وتجريد الطبقات المتوسطة والمسحوقة من شروط الوجود الإنساني، بآلية رهيبة أيديولوجية إعلامية وسياسية وثقافية. خاصة في حشره للنساء في دائرة صناعات التجميل التي تولد الفظاعات الجسدية والنفسية والعاطفية والاجتماعية، الى حد كره النساء لأجسادهن وذواتهن، مع الكثير من الاضطرابات المخربة للصحية النفسية والجسدية. .

   وفي الكتاب نصوص في غاية الروعة والجمال، إلى درجة تجد جمالية التلقي نفسها أمام ضرورة إنتاج المعنى وتوليد الدلالات الكامنة في طيات النصوص، حول سر قوة وإرادة الانسان حين يريد ويقرر العمل على تحقيق ذاته مهما كلفه ذلك من تضحيات وآلام.. إنها دلالات بروز وتكون الذات المشحونة بجمالية التحدي والتغلب على المتاريس الرهيبة الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي تجرد المرأة من إنسانيتها. وتقذف بها في دهاليز المحن المروعة. هذا ما تفاعلت معه القراءة جماليا في نصوص الكتاب الفني الثري “لا هزائم في دمي” وأيضا في نص “طقوس العبث”… والحق يقال إن جميع نصوص الكتاب تحتاج الى قراءات ومقاربات متعددة ومختلفة، لما تحمل من خصائص معنوية فكرية ودلالية…

“يبقى علي أن أقول إن إرادة الانسان، وإصراره يحقق المستحيلات، ويحطم كل طقوس العبث، ويكتشف منابع القوة والجمال مهما كانت التحديات كبيرة.” 98

   ورغم أن النصوص كانت مؤلمة جد في صبرها وتحملها لمختلف المحن، المسكونة بكم هائل من العذاب الرهيب. إلا أن طاقة الانسان معجزة لا تنضب في توليد الامل وشحذ الرغبة في الكفاح والتحدي. ورغم قسوة تفاهة الشر التي تأتي من أقرب الى الناس، فإن ليلى حاجولة كانت قوية في تفجير منابع القوة والتحمل والحب.

   “نعم أنا جميلة رغم حملي لقب الزوجة القديمة، علاقته معنا كانت تفقدية أحيانا يزورنا. خذلني، وكسر قلبي ولا شيء قديم لا يصلح للاستعمال وأخبرني بأني أصلح أما و لا أصلح زوجة…يمضي العمر، وتمضي الحياة. الصغار كبروا وتزوجوا وأنا أعيش وحدي ولا أشعر بالوحدة لدي أحفاد، وأصدقاء، ومحبون، ونشاطات اجتماعية لم تتوقف حياتي. نعم أنا جميلة

   جميلة لأنني تعايشت مع الظروف وأشعر بأنني مصدر طاقة للحب والمحبة.” 106

4- جمالية انتهاك المحظور وتفجير المكبوت:

   “مثل فتيات كثيرات في المشرق مقيدات الضحكة، والحركة بسلاسل العيب، والحرام. صنعت عالمي السحري، وأطلقت العنان لنفسي كي أكون حرة جميلة فيه. بنيت عالمي خيالي الخاص من الروايات التي قرأتها خفية، ومن الأفلام التي شاهدتها في طفولتي سرا… عشت الجمال حرية سنوات طوال في خيالي، فلم تكن للأسيرات مثلي من بنات مجتمعي فضاءات سوى الخيال ليعشن الحرية جمالا، أو الجمال حرية، فالعيون تترصد كل امرأة تتنفس من دون قيد، لتجلدها بسياط الشرف الزائف.” 71 و72

    لقد تم تسييج عالم المرأة بكم هائل من القيود الدينية والاجتماعية والثقافية. وأحيطت بالمحظورات من كل جانب. الشيء الذي حول أعماقها الى كهوف مظلمة للمكبوتات من مختلف الأشكال الاجتماعية والثقافية والنفسية والجسدية…

   إلا أن الكتابة في نص “أنت جميلة” تميزت بقدر ممتع من الجمالية، وهي تؤرخ في صياغة فنية وأدبية لقوة وجرأة وإرادة هؤلاء النساء في انتهاك المحظورات المفروضة قسرا على النساء، في الخروج والدراسة والسفر والعمل والعلاج…

   وفي تجرئهن على انتهاك المحظور، واختراق سياجاته الرهيبة المانعة لإطلاق طاقات الحياة الفاعلة والخلاقة، استطعن تفجير أغلب المكبوتات التي دمرت وخربت دواخلهن النفسية والعاطفية والعقلية والاجتماعية.  لهذا كانت الكتابة في ورشات مندي تحمل معاني الشفاء والتعافي من جراحات المسارات المؤلمة التي عاشتها النساء في كفاحهن في وجه كثير من القيود المشحونة بالمحظورات العنصرية والجندرية والطبقية التي تحرم النساء من حقوقهن الاجتماعية والاقتصادية والسياسية…

   وفي هذه المساحات الآمنة، من ورشات الكتابة، تتحرر النساء من سطوة المكبوت القهري الذي سمم حياتهن، وأعاق نماءهن النفسي والعقلي والاجتماعي والعاطفي الجنسي. هذا ما تبلور في نصوصهن بما في ذلك هذا الكتاب أنت جميلة. لهذا كانت كل واحدة منهن تشعر بجمالية الانتهاك النابعة من أعماقها في سيرورة تشكل ذاتها الجميلة، المتحررة من وصم لعنة المحظور والتابو القذر الذي لوث ذاتها الأصيلة الجميلة التي تضاهي مفعول مستحضرات التجميل الحقودة لانسجام وتناغم وتوافق المرأة مع نفسها، جسدها، وحبها لذاتها. ولمنابع الجمال المكبوتة في أعماقها، بعيدا عن المواد الغريبة والدخيلة والسامة لصناعة التجميل.

   “خلال عملي مع الأطفال عرف الجمال مواضعا أخرى في روحي. تعلمت كيف تطلق الضحكة بريئة من القلب، وكيف يواجه اللؤم بالحب، وكيف يترك الجسد ليعبر بعفوية، وحرية، راقصا فوق التابوهات.”75

5- جمالية جدلية تشكل الذات والهوية السردية:

    “إن السؤال عما يعنيه الجمال بالنسبة لي كامرأة ، وناشطة سوداء هو سؤال سياسي بعمق. سؤال لا تزال إجاباتي عليه خامة وغير ناضجة. وهو ما يثير سلسلة كاملة من الأسئلة الإضافية المرتبطة بفحص النقد الذاتي لكيفية تشابك العنصرية ومعها اللونية والتمييز الجنسي، والطبقية في نشاطي.” 17

    تحاول الذات النسوية التي تشكلت في ظروف وسياقات سلطات القهر والخنوع والخضوع والاذعان والتبعية التامة، أن تستبطن بوعي نقدي منطق التسلط الذكوري للنظام الابوي. فتؤسس هويتها السردية على هذا الأساس الكفاحي في مواجهة مختلف أشكال القهر السياسي والاجتماعي والثقافي والعنصري. لذلك هي واعية بخطورة التماهي مع أحكام وقيم الظالم الطبقي والجندري والعنصري. في النظر الى الجمال من زاوية اللون، العرق، الاثني، الطبقي، الجنسي و الجندري…

   فمن داخل نصوص هذا الكتاب تشتغل الهوية الذاتية السردية لهؤلاء النساء بدينامية كفاحية محكومة بجدليات الرغبة والقانون الابوي، الحرية والتسليع، الاستقلال والتبعية، الحب والكراهية…

   لهذا ترى المرأة جمالها بصورة نقيضة عن منطق و آلية القهر والاخضاع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الاستبدادي، أو النيوليبرالي الديمقراطي. ترى هويتها الذاتية الحقيقية في إنجازاتها وفاعليتها المقتحمة لأسوار الاقصاء في العمل والدراسة. وهذا ما يمنح مصداقية قيمية وجمالية أخلاقية لوعيها الذاتي النقدي في تحقيق الذات الناجحة المتغلبة على القوالب النمطية التي سيجها بها عنف سياسات القهر والاخضاع.” لن تدرك روعة الجمال، إلا بثقتك بذاتك بأنك سوف تحقق ما تطمح إليه… لقد فعلتها. علت صرختي، نجحت. فرحتي لم تسعني. اليوم الذي ينتظره جميع من مثلي، فرحة لا توصف بكلمة، أو كلمات، وأنا في طريقي الى البيت كنت أفتخر بذاتي، وممتنة لها. نعم أنا جميلة، ومن حقي هذا النجاح. فلم يكن هبة، جاء نتيجة جهد وتعب وسهر لياللي.” 19

   والمرأة صعب عليها أن تنتزع الاعتراف بأحقيتها وجدارتها، في التمتع بجمالها الإنساني الحقيقي، في تقرير مصيرها. لذلك هي مكرهة على خوض صراع الاعتراف ضد ضغط المحيط المجتمعي والعائلي والقيمي والأخلاقي والديني…

   “نعم أنا جميلة استطعت إقناع عائلتي بالسفر، والذهاب الى العاصمة برفقة أخي. وأنا في الباص كنت أتأمل من النافذة الشوارع، والأشجار والعصافير. وبنفس الوقت يسير شريط من الصور في مخيلتي كيف أسير في حديقة الجامعة، وأدخل قاعة الدراسة كعصفور خرج من قفص. سوف أتمتع بطعم الحرية، والاعتماد على نفسي في كل تفاصيل حياتي.” 22

   هكذا تكون طريق المرأة محفوفة بالمشاكل والاحزان والآلام. ولا تستطيع تحقيق ذاتها المقصية المغيبة في فاعليتها وإنجازاتها، والحاضرة في صورتها الاختزالية التشييئية. إلا من خلال التحدي والإصرار على المضي قدما نحو هويتها الحقيقية وجمالها الذاتي  المقهور والمهمش في دائرة الدونية والتنقيص والتبخيس لحيوتها ونبضها الفاعل الحي. كلام الناس لم ينته، ومعاناتي الى غاية التخرج من الجامعة بقيت مستمرة، لكن كلما زادت معاناتي ازددت جمالا، وثقة بنفسي، وإصرارا على تحقيق ذاتي وطموحي.” 25

   ومع سيرورة القراءة في صفحات “أنت جميلة” تزداد الهوية السردية للنساء جمالا واعتزازا بالنفس في سبيل تحقيق الذات المتحررة من الخنوع والاخضاع. والمتمسكة بالأمل والصمود. “بقيت العقليات تحاربني في العمل، ولكني صمدت…أصبحت لدي منجزات علمية من أبحاث منجزة أفتخر بها، ومقالات علمية تم نشرها في مجلات علمية محكمة، وإلقاء محاضرات في دورات للمهندسين الجدد، والمشاركة بمؤتمرات داخل، وخارج القطر، والمشاركة بلجان علمية.” 29 و30

   هذا بالإضافة الى جمال استثنائي من الأزهار والورود العابقة بأريج الحكمة والحب والتسامح والعطاء، والممسوسة بقوة الإرادة.” أصبحت أحكم العقل قبل العاطفة، لا أيأس ولو للحظات، لأن لحظات اليأس مزعجة، ومريرة وطعمها كالعلقم. تكونت لدي قناعة راسخة بأن قوتي تكمن بالتغلب على المرارات في حياتي.” 34

   ومع صفحات الكتاب نكتشف وجها آخر لجمال الهوية السردية، المؤسسة على الاعتراف والتقدير الإيجابي اللامشروط للأب تجاه طفلته الهشة، المقصية والمنبوذة خارج المعايير النمطية للجمال والنجاح كما استبطنته بقسوة شرسة نفسيا واجتماعيا أم الطفلة. “لم يخبرني أبي يوما إن كان يراني جميلة، فلم يكن أمرا مهما بالنسبة له لأنه أحبني لما أنا عليه، وما سأكون عليه يوما.”36

   ودعمت هذه العلاقة الجميلة بين الأب وطفلته، علاقتها بنايفة إحدى قريبات أمها، التي زودتها من خلال القصص التي تحكيها لها، بتنشئة اجتماعية ثقافية قيمية، نقيضة للسائد في الرؤى والأفكار والدلالات حول الجمال. “لم تكن قصص نايفة تحكي عن جمال الأميرات، وكيف يعشن بسعادة أبدية بعد أن ينقذهن شاب شجاع. كان الجمال دوما يقع في فخ الغرور في حكاياها، وكان اللطف وحده من ينتصر في نهاية الحكاية. كنت أرى نفسي جميلة في حكايا نايفة، وفي عينيها أيضا… كانت تكره المشاعر المزيفة التي يختصرها البشر لبضع قبلات على الخد، أو حين ينتقون كلمات منمقة عند طلب أمر ما، أو عندما يتلصصون على الحياة من خلف مساحيق التجميل، والثياب باهظة الثمن، والعطور الفاخرة. ” 37

   لهذا ليس غريب أن تكتب هذه الطفلة الآن هذا النص الممتع الجميل، الذي تقف وراءه ذاتا قوية لها إرادة صلبة ورؤية عميقة وأكثر جمالا من قذارة قيم الجمال السائد.”أعرف دوما أين أجد الجمال في هذا العالم القاسي.” 39.

   هكذا تنتصب نصوص الكتاب، كمرايا تتعرف فيها النساء كذوات على بعضها، من خلال انفتاح خلاق فيما بينهن. حيث الآخر أنا نفسي تحقق فيه الذات وجودها الاجتماعي الإنساني. في نوع من ثراء الجدل المُنمي للذات والآخر. ويمنح للهوية السردية أفقا مفتوحا رحبا على عالم الصيرورة، حيث الهوية والذات تتطور وتبنى باستمرار.

    أدرك كم أني فاتنة، حين أشرع أبوابي أمام نساء يسوقهن فضول ما لاستراق النظر الى حياتي. وكما أعطتني من قبل نساء جميلات    مراياهن أعطيهن مرآتي ليرين أنفسهن بحرية عل هذا يساعدهن في بناء عوالمهن السحرية ، وتلمس طرقات جمالهن لجعلها حقيقة، فللجمال طرق متعددة، تؤدي جميعها الى الحب.” 76

6 – جمالية الاعتراف بالوجود الذاتي والغيري

   المستوى الايتيقي والوجودي والمعايير الأخلاقية التي تفكر من خلالها، بوعي أو بصورة لا واعية، كاتبات نصوص ” أنت جميلة”، يؤكد على منظورهن الإنساني لما يمكن أن تعنيه مسألة تحقيق الذات، والهوية الذاتية السردية. فعلاقة الجمال التي تسعى إليها هؤلاء النساء، هي علاقة الاعتراف بحقهن في الوجود الاجتماعي الإنساني. بعيدا عن أية اعتبارات وتصورات وأحكام تمييزية قهرية في اللونية والطبقية والجندرية والاثنية والعرقية…

   وهذا يعني ضرورة استحضار الآخر، كل المهمشين المقهورين، والمنسيين على قارعة الطريق البشري. وجعل هؤلاء شرطا لوجود الانسان وبروز وتشكل الذات الحقيقية، واعتبارهم شرطا ومرأتا لوجود القيم الإنسانية القائمة على الاتصال والتواصل والحب والمحبة…

   فالكثافة المعنوية والفكرية والدلالية التي ينضح بها كتاب “أنت جميلة” هي التأسيس لجمالية الاعتراف بينذاتي، والتلازم الايتيقي. باعتبارها جمالية رحبة خلاقة إنسانية حاضنة للأحلام والآمال البشرية. والمحصنة لعدم تفقير أو تصحر الوجود الإنساني الغارق في وحل العنف والدماء والحروب والنهب والاستغلال والعماء الايكولوجي…

   “ارتكزت جماليتي على اكتشاف القوة، والطاقة الإيجابية التي طالما شعرت بها في مواقف كهذه، وهذا انعكس في علاقاتي الاجتماعية، الأسرية، وفي العمل. عند كل مرة حاولت فيها انتشال امرأة من المشاعر السلبية التي عانتها، بسبب العنف الذي تعرضت له، وزرع الابتسامة على ثغرها كنت أشعر بأن ينابيعا من الجمال تتفجر في أعماقي، وتزداد ايجابيتي بشكل لا يصدق، فأشعر بالتفاؤل، وبأن ما أصبو إليه كنسوية يتحقق، ولو ببطء شديد. كم هو جميل أن تناديك امرأة في الشارع لتقول: كم تغيرت حياتي بعد لقائي بك، أصبحت أحب ذاتي، وأرعاها، ولا أضحي بها في سبيل غيري. أو عندما تخبرني إحداهن: عندما حاولت الانتحار، تذكرت كلامك لي، فتراجعت عن قراري إيمانا مني بأنني أستحق الحياة كامرأة، وبأن في داخلنا تكمن الكثير من نقاط القوة التي يجب علينا اكتشافها، والاشتغال عليها كي نقوى أكثر فأكثر.” 123

   هذا الانفتاح الإنساني هو ما تتطلبه إيتيقا المسؤولية المتجاوزة للذات الديكارتية في مركزيتها المتعالية. وهذا ما يفتح الباب في فهم الذات في بعدها الانطولوجي القائم على قبول وتقبل والاعتراف بالآخر المتعدد المختلف، كشرط لوجود الأنا/الذات.وأن تكون العلاقة مبنية على جمالية الاحترام والتقدير، ذات الطابع العلائقي، المترفع عن الطابع الغريزي، الذي يختزل الآخر في قيم جمالية تشييئية وسلعية، أو في علاقات إيروسية.

   كم هي جميلة هذه العلاقات التبادلية والتقاطعية بين هؤلاء الكاتبات، من خلال آليات اللقاءات التفاعلية، والتشبيك النسوي المتخطي للاحتياجات النفعية والشخصية التي رسخها طويلا النظام الأبوي المتمركز حول ذاته الذكورية الجوفاء من الانسان والوجود. وزادت معايير قيم السوق الرأسمالية النيوليبيرالية من وحشيتها .

   “سر الجمال الذي عكسته تجارب المؤلفات تجلى في صمودهن، تمسكهن بالعلم وكنوز المعرفة النقدية، تجاوز الخذلان والانكسارات. نساء صنعن من مرمر قلوبهن مرآة أكدت على الاحتفاء بقدراتهن، وجمالهن. الجمال المتجلي في نباهة الفكرة ووضوح الرؤية وعصارتها في: كوني أنت… اعشقي ذاتك كما أنت وفق ما ترغبين. اكتشفي منابع الجمال في الاعتراف بذاتك، بقدراتك. كوني شغوفة بالوعي، سر كونك جميلة.” 14

الهامش

إشراف وتنسيق الدكتورة إشراقة مصطفى،” أنت جميلة”، مجموعة مؤلفات- ط1، س 2024.

Visited 129 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي