حكاية العربة الاحتفالية

حكاية العربة الاحتفالية

د. عبد الكريم برشيد

 فاتحة الكلام

       الإقامة في المكان المحدود والمحدد سجن ومنفى، هكذا قال ويقول الاحتفالي وهكذا كتب ويكتب دائما. وهروبا من سجن هذا المكان، اخترع الإنسان العجلة. ومعها أوجد العربة. حتى يواجه المكان وامتداداته، حتى يمكن أن يمشي بشكل أسرع، وفي الربرتوار المسرحي الاحتفالي توجد احتفالية مسرحية عنوانها (حكاية العربة) والتي قدمها الرائد والمؤسس الحاج محمد المؤس وذلك على امتداد سنوات طويلة جدا، وفي كل المسرحيات الاحتفالية توجد هذه العربة،مرة وهي تمشي في الطريق ومرة وهي تمشي على السكك الحديدية ومرة وهي تطير وتحلق في السماء.

   ويبقى الاحتفالي عاشفا للسفر، سواء داخل المكان او خارجه أو داخل الزمان وما بعده، والأصل في فعل هذا السفر الوجودي أنه تمرد على الجمود وعلى الموجود وعلى المحدود وعلى المعروف وعلى المالوف وعلى العادي اليومي وعلى الواقعي والطبيعي، وبهذا فهو عشق أولا، هو رغبة إنسانية للتمدد في المكان بكل جهاته الأربع. كما أن هذا السفر هو فعل للجدد في الزمان، ؤذلك عبر محطات الأعمار التي نحياها. ولأن الحياة حركة ومحرك وطاقة محركة، فقد قال الاحتفالي دائما بأن هذا الإنسان الحي. في هذا الكون الحي، لا يليق به الجمود، لأنه ليس صخرة وليس حجرة، ولكنه فعل وفاعلية وهو تفاعل وانفعال وهو بحث في ذات هذا العالم عن أجمل الأمكنة وعن أصدق الأزمنة وعن أصدق كل الأيام. والذي هو اليوم الاحتفالي والعيدي.

والعيد سفر في النفوس والأرواح أولا

   وبخصوص هذه الفاعلية المتجددة في التاريخ الاحتفالي المتجدد يتساءل د. محمد الوادي (ما المثير والمدهش والجديد والمزعج في الاحتفالية؟ وهل الأمر يتعلق ويقتضي بالضرورة فعلا مثيرا ومدهشا وجديدة ومزعجا حتى تحضى نظرية ما بالسؤال النقدي؟).

   ولقد كانت المقالة السابقة من هذه الكتابة مزينة بصورة من مدينة مراكش. وتحديدا من خلال عربة كوتشي. تربط الماضي بالحاضر. وتتجه صوب المستقبل. وتعقيبا على الصورة والمقالة يقول د. محمد الوادي (هي عربة سياحية أنيقة ولكنها في مراكش، إلا أن راكبها ليس عاديا، إنه بحر من المعرفة وجبل شامخ من الفكر وكتلة أحاسيس وصقر يرقط التفاصيل الدقيقة ليعيد تكريرها وإنتاجها إبداعيا. دمت في المكانة التي تستحقها..).

   أما د، نور الدين الخديري. وهو أحد الباحثين الجادين في مسيرة الاحتفالي وفي مسار الاحتفالية، فقد قال:

(هي أسفار لا يستشعر سحر عوالمها إلا من كان احتفاليا بالفطرة وبالاكتساب، ولأن الاحتفالية أسفار فهي دائمة الحركة، تسير وتحلق وتصطدم، وتستريح كما كل محارب في ساحة المعركة، تتقوى بكل هذه الأحوال والمقامات، وتعلن عيدها الأبدي ضدا على كل مأتمية تسلب منها الحياة، مودتي وتقديري أخي العزيز الدكتور عبد الكريم برشيد).

   أما جناح التامي. والذي هو واحد من الأجنحة التي حلقت بها الاحتفالية عاليا على امتداد نصف قرن فقد قال في تعيبه ما يلي:

(العجلة أصل التطور والصناعات. والعربة مسرحية احتفالية من تأليفكم أيها الكبير Abdelkerim Berrechid .. فيها من الفلسفة من الحكايات والبدايات. ما يجعلنا نؤمن أن الاحتفالية تسير وتزور كل العالم . تحياتي واحترامي لأم الولاد والبنيات).

   كل شيء في هذه الاحتفالية يبدأ (لينتهي) وفي كل نهاية بداية أخرى جديدة ومتجددة، وفي هذا المعنى (فإنه لا شيء كامل وتام في ذاته، وما هذا الوجود الذي نسميه الاحتفالية إلا حركة؛ حركة في الوجود وفي التاريخ، وما هذه الحركة إلا طاقة وحيوية، ولعل اهم ما يميز هذه الطاقة هو أنها متجددة بذاتها، وأن فعل الاحتراق فيها يمكن أن يعطي الرماد، وأن هذا الرماد يمكن أن يصبح جمرا، وأن هذا الجمر يمكن أن يؤسس نارا جديدة ومتجددة، وأن هذه النار هي أساس الطاقة الإبداعية في الاحتفالية).

   ولقد أكد الاحتفالي دائما على أن التجربة تسبق التجريب، وعلى أن الفعل يسبق رد الفعل، وأن أسوأ كل انواع الفعل هو عندما يكون في درجة الافتعال، وهذا ما يجعل الاحتفالي يقول الصناعة قبل التصنع والجمال قبل التجميل.

الحياة رحلة وفي كل رحلة حياة

   الحياة رحلة، هكذا يقول الاحتفالي. ورحلة الأفكار الرمزية الشفافة، في العالم الرمزي الشفاف، هي الأصدق دائما، ورحلة الاحتفاليين. في حياة المسرح وفي مسرح الحياة، لم تكن في يوم من الآيام نزهة أو سياحة، ولو كانت كذلك لأصبحت اليوم مجرد وشم في الذاكرة، ولقد كانت هذه الرحلة، وعلى امتداد عقود طيلة جدا، من الزمن، سباقا مارطونيا ضد الزمن وضد الدهر، وكان لها معنى التحدي الوجودي، أي أن نكون في المقدمة والطلبعة أو لا نكون. ولقد ظل الاحتفاليون يرردون دائما مع الشاعر العربي قوله (أطاعن خيلا من فوارسها الدهر)، ومن يمكن أن يكون أحق بالتحدي أحسن من الزمن ومن عاديات الدهر ومن القدر؟

ولهذا فقد عشق الاحتفاليون الجبل. وعشقوا في هذا الجبل قمته. وراهنوا دائما على الأبعد وعلى الأصعب وعلى الأعلى وعلى الأسمى وعلى الأكبر وعلى الأخطر. وفي كل سفر جديد يولد الإنسان من جديد. وماذا يمكن أن تكون هذه الاحتفالية سوى أنها أسفار فكرية ووجدانية الزمن؟

اعرف طريق نفسك تصل إلى عالم الناس

   في هذه الاحتفالية شعارات مرحلية وموسمية عابرة. ونحن نمر بها مرور الكلام، ونعبرها عبور المسافرين المستعجلين ونمضي، من غير أن نلتفت إليها، أو أن نتأسف على رحيلها، لأن ما يهمنا هو ما يبقى. وفي هذه الاحتفالية أيضا مبادئ وقيم واختيارات فكرية وجمالية وأخلاقية، دائمة وأبدية وسرمدية ومتجددة، وهي تدرك أنها أساسا رؤية فلسفة تشبه جغرافيتها البشرية، تماما كما تشبه لحظتها التاريخية المغربية والعربية والأمازيغية والأفريقية والموريسكية، وهي رؤية. واقعية لم تخرج من فراغ، لأن الذي انبتها اليوم هنا، هو أرضها، وهو تربتها، وهو مناخها، وهو طقسها، وهو رحمها الحضاري، وهو عقلها الجماعي، وهو وجدانها الشعبي العام، ورغم كل خصوصياتها الفنية والتقنية. فإنها تظل في جوهرها فلسفة إنسانية وكونية عابرة للأمكنة وعابرة للأزمنة وعابرة للثقافات وعابرة لكل اللغات المتعددة والمتنوعة.

وهذه الفلسفة الاحتفالية، في جوهرها الحقيقي. هي قناعات واختيارات ورهانات فكرية وجمالية واخلاقية عامة وشاملة، وبعكس ما قد يظن بعض النقاد، فهي ليست مجرد شعارات تأتي ثم تمضي مع الرياح الموسمية. ومع ذلك، فإن هذه الاحتفالية. وفي كثير من مقولاتها الصغيرة، نجدها تختزل معاني كبيرة وخطيرة جدا، وذلك من مثل ما يلي من الكلمات ومن العبارات التالية. والتي تشرك كل الناس في فعل التفكير الحر. من غير أن تلزمهم برؤيتها وبوجه نظرها. ولهذا فإنني أقول لكل من يعشق أن يكون احتفاليا مفكرا ما يلي:

— اعرف نفسك بنفسك تجد نفسك، ولا تنتظر مني أن أقول لك أنت من أنت. واعلم أن صاحب الجرح أدرى بالجراح. وأن من يمشي في الطريق أدرى بالطريق.

— وامش في طريق نفسك. وسر باتجاه نفسك تصل إلى نفسك. واحذر في الطريق قطاع الطريق.

— أنظر في مرآة نفسك. واحذر أن تخدعك المرايا الخادعة. وليس كل الصور الجميلة في المرايا الجميلة يمكن أن تكون صادقة.

— وأنظر دائما إلى الأمام. واعلم بأن الخير أمام، واحرص على ألا تمشي في نفس الطريق مرتين. وتأكد بأنه لا يمكن من تعيش في حياتك الواحدة إلا مرة واحدة، وليس مرتين.

— وأنظر دائما إلى الأمام وإلى الأعلى وإلى الأبعد، واحذر أن تلتفت إلى الخلف. واعلم بأنه في الخلف يوجد التخلف، ومعه يوجد السادة المتخلفون.

— وإياك أن تصدق من يقول لك (ليس في الإمكان أبدع مما كان)، وأقنع نفسك دائما بأنه (ليس في الإمكان أبدع ولا أروع ولا أصدق ولا أجمل مما سوف يكون).. وأيضا، مما ينبغي أن يكون.

— وابحث عن غيرك، واعط الفرصة لغيرك أن يبحث عنك. وقل مع مولانا جلال الدين الرومي (ما تبحث عنه يبحث عنك)، وكثيرة هي الأشياء والأفكار والحالات التي قد تكون قريبة منا ونحن لا ندري. أو لا نريد أن ندري.

— ويمكن أن يجهلك أو أن يتجاهلك واحد من الناس، أو كثير من الناس، وذلك في وقت من الأوقات، أو في زمن من الأزمان،، ولكنه أبدا لا يمكن أن يتجاهلك كل الناس في كل زمان ومكان.

— وامش في طريقك وضع في حسابك أنه من الممكن أن تسقط. وأنه بعد كل سقوط عليك أن تنهض. وأن تواصل السير. وأن تكون بعد هذا السقوط أقوى.

— وثق بنفسك، واحترم أفكارك، وقل لذاتك، أنا على حق.حتى يثبت لي الواقع، وتثبت لي الوقائع العكس.

— واحلم بالقدر الذي تستطيع، واعلم بأن الحلم ليس ممنوعا ولا محرما، وكن على يقين بأن عالم الأحلام الصادقة ليس فيه حرس ولا عسس، وأن الدخول إلى أوطانه المفتوحة لا يمر عبر الجمارك ولا عبر حراس الحدود.

— واعلم بأن كل ما تقوله وكل ما تكتبه الآن هنا، ليس قرآنا منزلا من السماء. وهو اجتهاد مجتهد، ومن حقك أن تراجعه متى شئت، ولكنه أبدا ليس من حقك أن تتراجع عنه.

— وإنني أقول لأي فنان، في بداية الطريق، اهتم بفنك وإبداعك أولا، وحاول ألا تثق في أي كلام يقال في حقك، سواء أكان مدحا مجاملا، أو كان هجاء محبطا. واعلم أن أحسن النقد وأصدقه هو النقد الذاتي. وعليه فحاول أن تمارس النقد على فنك. واقرأ ما كتبت بعينك الداخلية الصادقة. واستفت قلبك وروحك. ولا أحد يمكن أن يكون أكثر صدقا من القلوب الصادقة ومن الأرواح الصادقة.

— واعلم أن كل سؤال تجد له جوابا نهائيا وبسرعة. لا يمكن أن يكون سؤالا علميا ومعرفيا. واعلم أن كل ولادة إبداعية تحتاج الى حمل شرعي. وتحتاج إلى مخاض وتحتاج إلى وجع تعقبه الولادة.

— واعلم بأنه لا يمكن أن تصنع فكرا جميلا وفنا جميلا إذا لم تكن عاشقا للجمال، وذلك في بعده المطلق أولا، كما أنه لا يمكن أن تدرك الحكمة إذا لم تكن من عشاق هذه الحكمة. وثق بأنه لا يمكن أن تعطي الناس والحياة إلا مما أعطاك الناس وما أعطتك الحياة.

— وقبل أن تسأل نفسك كيف أكتب مسرحية في الحياة. فكر أولا في السؤال الأساسي والحيوي التالي، والذي هو كيف أحيا هذه الحياة، بشكل صدق وأمين. ولهذا يقول الاحتفالي، لكل من يهمه الأمر (عش تجاربك الحياتية اليومية بصدق أولا. وسوف يأتي التعبير الصادق عنها بعد ذلك، وسيأتي بشكل تلقائي وعفوي بدون تصنع ولا تكلف. واعلم أن التجريب الذي لا يستند إلى تجربة وجودية. فإنه لا يمكن أن يكون إلا مجرد صناعة وتصنع وتكلف وتقلبد.

— وكما أن فعل الصمت هو كلام آخر، وذلك بلغات أخرى، فإن هذا الذي نسميه الغياب هو حضور آيضا، ولكن بصيغة أخرى مختلفة ومغايرة. وهذا ما يجعل الاحتفالي يقول لك، عندما تقرأ بشكل جيد، فإنه لابد أن تكتب بشكل جيد، أما عندما تقرأ فقط، فإن النتيجة هي أن تكتب فقط، وأن تقول أي كلام، وما أكثر الكتاب الذين يكتبون فقط، أما بالنسبة للمبدعين الحقيقيين فهم بالتأكيد قلة قليلة.

Visited 20 times, 2 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي