الإمَام أبُو حَامِد الغزَاليّ مُنَاهِض الفلسفة والفلاسفة

الإمَام أبُو حَامِد الغزَاليّ مُنَاهِض الفلسفة والفلاسفة

د. مُحمّد مَحمّد الخطابي

         نزولاً عند رغبة صفوةٍ من الأصدقاء الأصفياء، والخلاّن الأعزّاء، وجواباً عن إستفسارٍهم، وعن فضُولهم العلميّ، وتساؤلهم، وتطلّعهم نحو سبر آفاق بعض حقول المعارف، والآداب والعلوم، وفي هذه الحالة عن  بعض أخبار ومناقب الإمام أبي حامد الغزالي رضي الله عنه على وجه الخصوص، ومناهضته للفلسفة والفلاسفة، وعن إشكالية الشكّ الذي يقود الى اليقين عنده، إنطلاقاً منه ووصُولاً إلى الفيلسوف الفرنسيّ رينيه ديكارت، ومواضيع أخرى حوله، وعن بعض كتبه الشّهيرة التي تعتبر من المراجع الأساسيّة عند دارسي التاريخ الإسلامي،  أقول:

من لزوم الحَصِيرة إلى إعمال البَصِيرة

    هذا العالم الجليل، والفقيه الجهبذ الإمام أبو حامد الغزالي (450 هـ – 505 هـ / 1058م – 1111م)  الذي كان  يُلقّب بحُجّة الإسلام، والذي قيل فى حقّه: “لو كان نبيٌّ بعد محمّد لكان الغزاليّ”، والذي قيل فى كتابه الشّهير (المُنقذ من من الضّلال والمُفصح عن الأحوال) وفى كتابه الكبير (إحياء علوم الدين) نظراً  لأهمية وقيمة هاذيْن الكتابيْن: “لو ضاعت كتبُ الاسلام كلّها وبقي المنقذ من الضلال، وإحياء علوم الدّين لكفىَ بهما وكيلا”، ومعروف أنّ هاذَين الكتابَيْن هما انعكاس لتجربةِ الإمامِ الغزاليّ الشخصية، وخُلاصةُ جهدهِ المتواصل  في طلبِ  الحقائق، والمعارف والعلوم عن أسرار الكون، والعبادة، والإيمان، ولا سِيَّمَا أنه قد وضع كتابه (المنقذ)  في آخر سنواتِ عمرِهِ، بعد أن أمضَى سنواتٍ  طويلةً من حياتِهِ في تلقّيّ وتلقين العِلمِ، والتَّعلُّمِ، والتَّدريسِ، ويُبيِّنُ لنا الغزاليّ في كتابه هذا الفريد أنَّ دواعي تأليفهِ جاءت بعد أن وجّه له سائلٌ سؤالاً يطلب منه فيه أن يخبرَه عن غايةِ العلوم وعن أسرارها ومراميها، وعن غائلةِ المذاهب وأبعادها، ويحكي له الإمام في جوابه ما قاساهُ في استخلاصِ الحقِّ من جرّاء تباين الفِرَقِ الإسلامية واختلافها، وتباعدها، وكيف ارتفع  الإمام عن التَّقليد ولزوم الحَصِيرة، إلى الاجتهادِ وإعمال البَصِيرةِ، وما استفادَهُ من مفكّري عصره في علوم  الكلامِ، وما نبذه من مذاهب التَّعليميَّةِ، وما ازْدَرَاهُ من علوم الفلسفة، وما ارتضاه، وأحبّه، وراقه فى طريق التَّصوُّفِ، وما ظهر له أثناءَ بحثه المثابر، واجتهاده الحثيث عن آراء هذه المذاهب ووصاياها وتعاليمها، ولقد فسّر الإمام  للسّائل حقيقةَ النُّبوَّةِ، واضطرارَ كافَّةِ الخلْقِ إليها، ثم ختمَ كتابَه القيّم الرّصين الجامع المانع  بكلامِهِ عن أسبابِ، ودواعي نشرِهِ بعدَ العُزلةِ والخلوةِ والانفراد بالنفس لسنواتٍ طويلة، وكيفَ عادَ الإمام  الغزالي للتَّدريس وتلقين العلوم، ليكشفَ للناس شُبَهِات أهلِ الضَّلالِ، ويتعرّض في آخر كتابه لذكر أسباب ضعفِ الإيمانِ عندَ الخلقِ والبشر، وكيفيَّةَ  مداواتهم، وعلاجِهِمْ، وهديهم، وإرشادهم، إلى سواء السّبيل، وردّهم عن سُبل الغواية، والخطايا، والذنوب، والمروق، والنأي بهم عن هوّات الكفر، ومزالق المعصيّة، ومتاهات الضّلال.

    أمّا كتابه الكبير الآخر (إحياء علوم الدّين) فهو سِفرٌ جامع، وشامل، ومتكامل، وموفٍ وضافٍ  في مختلف علوم الأخلاق، والقيم، والمزايا والسّجايا والخصال النبيلة والتعاليم الدينية الحميدة، والسلوك، والمواعظ الإسلامية الحسنة، التي ينبغي أن يتحلّى بها المسلم، هذه المضامين الدينية والعلمية والعملية تجعل من هذا الكتاب موسوعة شاملة لا غنىً عنها لكلّ ما يهمّ الإنسان المسلم في أمور دينه ودنياه من العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، وهو كتاب يرصد كذلك  مصالحَ الفرد والجماعة، بغاية الارتقاء  بهما  إلى السّلوك القويم والحقيقي في شؤون العمل، والمعاملات، والعِلم، والعَمل، والمعتقدات، وسواها من المواعظ الحسنة التي تنير طريقه وسلوكه  في مجتمعه ودنياه.

تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت!

    والغزالي هو صاحب الكتاب الشهير كذلك الذي يحمل عنوان: (تهافت الفلاسفة) الذي يعالج فيه حسب منظوره تهافت الفلاسفة عبر التاريخ  الذين وضعوا العديد من التساؤلات، ووقعُوا في التناقضات في علومهم الإلهيّة ّ. حيث اختلفوا في تصوّراتهم للعلاقة بين الله والعالم. وزَعم  بعضُهم أنّ الله مقيّد ومحدود، بينما اعتبر آخرون أنّ هناك إلهيْن يتناظران (إله الخير وإله الشرّ) أو (إله النور وإله الظلام). والعياذ بالله، ناهيك عن مسألة النفس والعقل: هل هما متجانسان أم متناقضان؟ كما اختلف الفلاسفة في تصوّراتهم للعلاقة بين الجسد والرّوح، وما إذا كان العقل يُمكنه أن يفهم الأمور الرّوحية والخوْض فيها. ويُطرحُ فى مجال التجربة والعقلانية التساؤل التالي: هل ينبغي الاعتماد على التجربة الحسيّة أم العقلانية في فهم العالم وتحليله؟ ولقد اختلف الفلاسفة، وأولو الحِكمة، وأرباب العقول، وقادة الفكر في هذا  التساؤل الصّعب ونتج عنه جدلٌ واسع عقيم ما زلنا نسمع أصداءه  الواسعة حتى اليوم، حيث يؤكّد بعضهم على أهمية الإعتماد على التجربة، في حين يركّز فلاسفة آخرون على العقلانية.

    ومن المعروف أنّ الفقيه الفيلسوف االعلامة الأندلسي أبو الوليد ابن رُشد (520 هـ- 595 هـ)، (من مواليد 14 إبريل 1126م، بقرطبة – المتوفيّ في 10 ديسمبر 1198م، بمدينة مراكش) ردّ على  هذا  الكتاب  بمؤلَّفٍ  مشهور آخر عنوانه: (تهافت التهافت).

شكّ الغزاليّ وتفكير ديكارت! 

     ويذهب بعضُ الدارسين إلى القول  إنّ الامام الغزالي هو الذي سنّ فلسفة الشكّ الذي يقود إلى اليقين قبل أن يظهر وينتشر ويشتهر في الفلسفة الحديثة، وذلك عندما ارتدى الإمامُ الرثّ من الثياب البالية، وتدثّر بالأسمال المنسوجة من صوف الوبر، واعتكف فى الخلاء والفيافي، واجتاز المهامهَ، والمفاوز، والقفار لسنواتٍ طويلة، من عمره   منصرفاً عن الناس، مُتصوّفاً، متأمّلاً، متفكّرأ، “متفلسفاً ” (وهو المناهض للفلسفة!)، وبعد عودته من رحلته  الطويلة التي قضّاها مترحّلاً ومتنقلاً بين الشام، والقدس، ومكة وسواها من البقاع والأصقاع والأقطار الأخرى. قال كلمته الشهيرة: دخلتُ مرحلة الشكّ ولكنّني عدتُ منها منتصراً بسلاح الإيمان، ويُنسب إليه قوله: (أنا أشكّ إذن أنا موجود)! ومعروف أنّ هذه الكلمة هي التي تحوّلت بعد قرون إلى الكوجيتو الشّهير عند الفيلسوف الفرنسيّ  المعروف (رينيه ديكارت) الملقّب بـ “أبو الفلسفة الحديثة” عندما قال: (أنا أفكّر إذن أنا موجود)”  Je pense, donc je suis” René Descartes)‏، (من مواليد 31 مارس 1596 – والمتوفّى فى 11 فبراير 1650).

المُنقذ من الضّلال ودليل الحائرين!

    بقي أن أشير أن الغزالي رحمه الله كان له تأثير بليغ  ولا ريب على العديد من العلماء والفلاسفة والمفكّرين العرب والعجم على حدٍّ سواء، ويُقال إنه من عنوان ومضمون كتابه الكبير الشهير (المنقذ من الضلال) وضع العالم الفيلسوف القرطبي، والطبيب، والفلكي اليهودي موسيَ إبراهيم ابن ميمون المعروف في الغرب باسم Maimónides (من مواليد قرطبة في 30 مارس 1138، والمتوفّى في القاهرة فى 12 ديسمبر 1204) أشهرَ مؤلّفاته، وهو كتاب: (دليل الحائرين)، أو ما معناه (هادي  الضّالّين)   أو ( مُنقذ الضالين) الذي وضعه فى الأصل باللغة العربية الفصحىَ التي كانت فى عصره  في بلاد الأندلس بمثابة اللغة الإنجليزية فى عصرنا الحاضر، و لقد تُرجم  هذا الكتاب الى العديد من لغات الأرض ومنها الاسبانية بعنوان: ( La Guía de los Perplejos o La Guía de los Descarriados)  وهو تلميذ الفيلسوفيْن الأندلسييْن الشهيريْن ابن طفيل وابن رشد، ولقد عاش ابن ميمون فى المغرب فى مدينة فاس حوالي خمس سنوات، وقيل إنّه زاول الطبَّ وأمّ الناسَ بها،  ثم هاجر الى طبرية ومنها إلى القاهرة (الفسطاط  إبّانئذٍ) حيث توفّي بها.

    وخلال وجودي فى كولومبيا (2003-208)، ألقيتُ بمجلس الشيوخ الكولوبي (تكريماً لأحد رجال الأعمال الكبار المُنحدرين من مدينة فاس اليهودي ألبير كادوش ديلمارالذي أسهم  بقسطٍ وافر في نهضة الاقتصاد الكولومبي) محاضرةً عن ابن ميمون حضرها جمهور غفير من بينهم يهود أمريكا، وكندا، واسبانيا،وكولومبيا، وبعض بلدان أمريكا اللاتينية، ولم يُستدعَ  السّفير الأسرائيليّ المُعتمد فى بوغوطا  لهذا التكريم ولهذه التظاهرة الثقافية آنذاك.

بين ابن سينا وابن ميمون!

    ومن أبرز القضايا المثيرة التي واجهتنا في هذا القبيل خلال عملي فى مدريد أواسط الثمانينات من القرن الفارط مستشاراً ثقافياً بسفارة المغرب، احتفاء اسبانيا مع إسرائيل بالذكرى الثمانمائة والخمسين لميلاد الفيلسوف اليهودي ابن ميمون، وأقامت الجالية اليهودية في مدريد الدنيا وأقعدتها للاحتفال على أوسع نطاق بهذا الحدث التاريخي، وتساءل آنذاك الغيورُون على تاريخ الاندلس من مختلف الجنسيات والأديان: أنْ لماذا لم يُحتفَ بالفيلسوفيْن الإسلامييْن ابن رشد وابن طفيل اللذين كانت قد مرّت ذكراهما التسعمائة قبل هذا التاريخ بقليل..؟ وكانت هناك اقتراحات من الجالية اليهودية بإصدار طوابع بريدية بهذه المناسبة، والإضطلاع بالعديد من الأنشطة الثقافية، والفنيّة والعلمية الأخرى، وتجنّدت  هذه الجالية للإسهام في هذه الذكرى تحت إشراف رئيسها في الديار الإسبانية آنذاك المُسمّى (صامويل طوليدانو) الذي كان قد كتب مقالاً إحتفاءً بهذه المناسبة في ذلك الأوان في مجلة أسبوعية اسبانية واسعة الانتشار وهي (Cambio 16). وكان مقاله القشّة التي قصمت ظهر البعير أو  القطرة التي طفح بها أو لها الكأس تمثّلت فى كذبة تاريخية هشّة ختم بها طوليدانو مقاله، فزعم بالحرف الواحد  آنذاك في مقاله الآنف الذكر  بما يلي: (.. قال الفيلسوف ابن سينا عن ابن ميمون: إنه إذا كان الطبيب الإغريقي جالينوس قد عالج البدن، فإنّ ابن ميمون قد عالج الرّوح)، وقد فنّد هذا التزوير المفضوح العديد من المراجع، والمصادر، والمظانّ التاريخية الشّهيرة منها مرجع ضخم للمؤرخ الفرنسيّ المعروف (D.r Lucien Leclerc)  1816-1893 هو كتابه الشهير (تاريخ الطبّ العربي) (Histoire de la Médecine Arabe)، إذ كيف سيعطي الفيلسوف ابن سينا رأيه في ابن ميمون، وهو قد عاش قبله بما ينيف عن قرن من الزّمان، فقد وُلِد ابن ميمون كما رأينا سابقاً في قرطبة سنة 1135 ميلادية، وتُوفيَ في القاهرة سنة 1204 ميلادية، في حين ولد ابن سينا قبله سنة 370 هـ (980م) وتوفي في همذان (في إيران حاليا) سنة 427 هـ (1037م). ولقد تمّ على إثر ذلك عقد  اجتماع مع السّفراء العرب المعتمدين بمدريد إبّانئذٍ، حضرتُه بمعيّة سفير المغرب بمدريد في ذلك الوقت، المرحوم عبد الحفيظ القادري، لمتابعة الموضوع مع بلدانهم عن كثب، وبادرت سفارة المغرب إلى إشعار وتحسيس المسؤولين المغاربة بهذا الأمر، وكان من نتائج هذا التحرّك بعد إعداد تقرير مفصّل حول هذا الموضوع أن عقدت (أكاديمية اللمملكة المغربية) دورة علمية دولية خاصّة عن موسى إبراهيم  ابن ميمون في مدينة أكادير، بحضور باحثين ، وأكاديميين، ومفكّرين بارزين من المنتمين لهذه الأكاديمية المرموقة من مختلف بلدان العالم.

    بقيت الإشارة في ختام هذه العجالة  أنّ ابن ميمون لو لم  تكن الحضارة الاسلامية (عربية وأمازيغية) قد هيّأت له ظروف التعايش، ووفّرت له أجواء التسامح، وأسبابَ الالتحاق بحلقات الدرس عند العلماء المسلمين بالاندلس، وارتياده للمكتبات الزاخرة بمختلف أنواع الكتب والمخطوطات بزهرة الأندلس قرطبة الغرّاء في ذلك الإبّان حيث تتلمذ ابن ميمون  – كما هو معروف- على  الفيلسوفيْن الأندلسيين الشهيريْن ابن طفيل، وابن رشد  لما أمكنه أن ينال قسطاً من العلم، ولا نصيباً من الفلسفة والحكمة.

Visited 43 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا