في البندقية.. ساحرة البوهيميين وعشاق الجمال

في البندقية.. ساحرة البوهيميين وعشاق الجمال

علي بنساعود

حلم يتحقق

       منذ كنت طفلا، سُحرت بالعديد من المدن، خصوصا منها تلك التي قرأت عنها في الكتب والمجلات، أو شاهدتها في السينما والتلفاز، وتمنيت أن أسافر إليها يوما ما… وبزيارتي للبندقية، أكون قد حققت حلما عنيدا لم تتح لي الفرصة لتحقيقه إلا هذه السنة!

    والبندقية جزيرة شمال إيطاليا، تشتهر بنقط جذب سياحي عديدة منها موقعها الجغرافي وما تزخر به من قنوات مائية وجسور وكنائس ومتاحف وساحات، إضافة إلى ما تنظمه من فعاليات ثقافية وفنية ورياضية… ما أَهَّلَها لأن تُسجل كتراث عالمي لدى اليونيسكو. يجذب، كل سنة، ما يناهز ثلاثين مليون سائح.

    حللنا بها في الصباح الباكر، مطلع شهر فبراير الماضي، وكانت ما تزال معتمة غارقة في لجة الضباب، وكلما تحركت عقارب الساعة، كانت المدينة تتعرى أمامنا كاشفة عما يكتنفها من سحر وعشق وأساطير، سحرت البوهيميين وعشاق الجمال…

    توجهنا مباشرة من محطة القطار إلى مقهى “دولتشي فيتا” لتناول وجبة الإفطار، وانتظرنا هناك حتى وصل صاحب سكن اكتريناه من موقع بوكينغ، أخذنا إليه وسلمنا المفاتيح…

    بعدها، رحنا، راجلين، نجوب الأزقة والشوارع، ونعبر الجسور، متنقلين من فضاء جميل إلى آخر أجمل! فبدت لنا أبنيتها المزركشة، كلوحات فنية عملاقة في معرض ضخم بالهواء الطلق…

    حوالي العاشرة صباحا، انقشع الضباب، ولتحاشي الزحام، نسارع إلى ركوب الجندول، رمز البندقية العائم، وأحد أهم الأنشطة والطقوس التي يحرص السياح على القيام بها… وكان صاحبه (فابيان) شابا ودودا، أنيقا، وملاَّحا ماهرا، كما أبان عن معرفة واسعة، وإلمام كبير بتاريخ المدينة، وبأهم ملامحها. كان الجندول نفسه جميلا، قال لنا الشاب إنه ورثه عن والده، وأنهم عائلة ملاحين منذ القديم.

    يساعدنا على الركوب بحذر، وينطلق بنا بهدوء وتأن، ويسير بنا هذا “الجندولي” الشاب عبر القنوات الأكثر هدوءا في المدينة، نشاهد كثيرا من المعالم السياحية الجميلة. وخلال جولتنا عبر القنوات المتعرجة، يحدثنا عن الجندول، هذا القارب الخشبي الأسود المكشوف من الأعلى باعتباره قاربا تقليديا عريقا، وخاصية بندقية محضة، يصنع في هذه المدينة وحدها، من أنواع مخصوصة من الخشب، ويعمّر أكثر من عشرين عاما، وأن قيادته تحتاج إلى رخصة…

ويضيف هذا الشاب أن معظم سكان المدينة، البالغ عددهم حوالي 272 ألف نسمة، يتنقلون عبر وسائل النقل المائية: الحافلات (فابوريتو)، التي تسير في خطوط منتظمة على طول القناة الكبرى، وعبر جزر البحيرة، أو الزوارق الخاصة، فضلا عن سيارات الأجرة، ويوضح أن سيارات الإسعاف نفسها هنا عائمة… وأن كل ما في فينيسيا يعيش على الماء… وللوصول إلى البندقية من فلورنسا كنا ركبنا القطار الذي تقع محطته خارج مركز هذه المدينة…

    كانت تجربة ركوب الجندول، رغم قصرها، ممتعة، لا تُنسى، خلالها، شاهدنا كثيرا من المناظر الطبيعية والمعالم الأثرية، وكنا، كلما مررنا بمعلمة، يسارع الجندولي إلى تقديم تعريف موجز بها… ومما قاله لنا عن البندقية أنها “مدينة الجزر والقنوات”، تطل على البحر الأدرياتيكي وتتشكل من 116 جزيرة، و150 قناة مياه، و435 جسرا…

    وحتى لا نَنسى، فقبل أن ننزل من الجندول، غنى لنا “فابيان” أغاني شعبية محلية، وبينما كان الجندول يتأرجح على صفحة المياه الهادئة، استعدادا للرسو والنزول، غنى أغنية إيطالية شهيرة تحت عنوان (O Sole Mio)، وهي أغنية واسعة الشهرة والشعبية في إيطاليا وخارجها، حتى كادت أن تتحول إلى نشيد رسمي، وقد غناها أكثر من نجم عالمي… ثم ساعدنا الشاب على النزول فغادرنا الجندول بسلام، بعدما قضينا زهاء 30 دقيقة نتجول على ظهر الجندول، بسعر بلغ 80 أورو اقتسمناها مع شابتين أخريين ركبتا معنا…

 معمار فريد

    بعد رحلة الجندول، عدنا إلى قلب المدينة نتمشى على ضفاف قنواتها المائية، وفى كل خطوة نخطوها، كنا نواصل الاستمتاع باكتشاف ما تحتضنه من آثار بارزة، وأهمها المعالم الدينية، والقصور والفنادق والساحات وبيوت الأثرياء والنبلاء والجسور والتماثيل والمتاحف… وهي مدينة بوجود هذه المعالم وجمالها الفاتن للحضارات المتعاقبة: البيزنطية والرومانية والرومانسكية، والإسلامية، علاوة على العمارة الباروكية، والقوطية، وعمارة عصر النهضة… التي كانت البندقية بالنسبة إليها محورا تجاريا بحريا…

    وصراحة، فإن كل من يزور هذه المدينة يعجب بتميّزها المعماري المدهش الذي جعلها فريدة من نوعها، سيما أنها مبنية بالكامل فوق الماء، بأسلوب معماري غني ومتنوع، يجعل منها إحدى أبرز الوجهات السياحية في العالم أجمع، ويدفع السياح إلى التهاطل عليها من كل حدب وصوب…

    ولعل تميز هذه المدينة هو ما دفع الشاعر المصري علي محمود طه إلى كتابة قصيدة رائعة تحت عنوان “الجندول” وهي القصيدة التي أعجب بها الموسيقار محمد عبد الوهاب فلحنها وغناها لتصبح إحدى روائعه، واعتبرها “مرحلة جديدة فى حياته الفنية”…

 ممنوع على المَركبات

    أول ما يلفت انتباه زائري هذه المدينة هو كونها هادئة، وشوارعها خالية من وسائل النقل، إذ لا يُسمح لأيّ مركبة بالدخول إليها، ففي قلب البندقية لا توجد شاحنات ولا سيارات أو دراجات…

    وعوض ذلك، تشكل الطرق البحرية وسيلة النقل الرئيسة بهذه المدينة، حيث توجد بها العديد من أنواع القوارب التي لها استخدامات مختلفة، غير أن القوارب الأكثر تميزًا بالطبع هي الجناديل، نظرا لطبيعتها في التحرك وسرعتها، علاوة على وسائل أخرى تعمل بمحرك، تستخدم للمواصلات البحرية لأهداف سياحية والاحتفالات والجنائز والسباقات الرياضية…

    كما أن كل المرافق العامة الموجودة بالمركز التاريخي تتوفر على سفن بحرية لاستخدامات مختلفة كخدمة الطوارئ الصحية والشرطة والدرك والقوات المسلحة والإطفاء والبريد وجمع القمامة…

 الجسور: شرايين الحياة

    تشكل الجسور المائية شرايين الحياة في مدينة العشاق هذه، فهي تربط أوصال الجزيرة بعضها ببعض، وهي كثيرة بهذه المدينة، خصوصا منها تلك المخصّصة للمشاة، حيث يتمتع السياح بأشعة الشمس والمنطقة المائية تحت أقدامهم.

    والجسور الشهيرة بهذه المدينة كثيرة منها: جسر ريالتو، وجسر الأكاديمية، وجسر سكالسى، وجسر التنهدات وهو الجسر الأشهر.

 تنهدات السجناء والعشاق!؟

    “جسر التنهدات” أحد أهم معالم البندقية، إذ هو الجسر الأشهر من بين أزيد من 400 جسر، ويقع قرب ميدان سان ماركو… وهو جسر بتصميم هندسي مدهش، معماره حجري ناصع البياض، يربط بين أوصال هذه المدينة العائمة…

    تعرفْتُ على هذا الجسر، قبل سنوات، من خلال رواية شهيرة للفرنسي ميشال زيفاكو، تحمل الاسم نفسه “جسر التنهدات” (Le Pont des Soupirs) وتحكي قصة حب رائعة تُعاش في ظل أحداث مروعة، تجري في مجموعة أفضية منها هذا الجسر، وهي تشد بتلابيب القارئ، فيجري خلفها لاهثا، لتجوب به قصور إيطاليا، وتكشف له عن دهاليزها وأوكارها، سجونها وآبارها، أهوالها وزواياها المظلمة، وما يحاك فيها من مؤامرات ودسائس مريعة، وعن حجرات التعذيب وآلاتها الجهنمية…

    ما يميز هذا الجسر الصغير ليس جماليته فحسب، بل رمزيته أيضا! سيما أن الهدف من إقامته كان هو نقل السجناء من غرف الاستجواب في قصر دوجي إلى زنزاناتهم، وحين مرور المدانين منهم إلى السجن لقضاء عقوباتهم أو للذهاب إلى غرفة الإعدام، كانوا يلقون نظرة أخيرة على العالم الخارجي من خلال النوافذ و”يتنهدون” على سوء مصيرهم، لذلك، سمي بـ“جسر التنهدات”. ولعل الوجوه الغريبة المخيفة المحفورة على القوس الذي يعلوه تحيل على وجوه هؤلاء السجناء!

    ويعتبر كثيرون أن هذا الجسر رمز للتناقضات، لأنه يجمع بين الجمال والرعب في آن، ويشكل نقطة عبور من الحياة إلى الموت، من القوة إلى الضعف، من البياض إلى السواد، سيما أنه المكان الأخير الذي يرى منه المدانون مدينة البندقية الجميلة قبل أن يعدمهم السياف… لذلك، لا غرابة أن يطلق عليه لقب: “التابوت الحجري المحلق”.

    ومن المشاهير الذين نزلوا بهذا السجن هناك المغامر والكاتب الإيطالي الشهير جاكومو كازانوفا، الذي قضى مدة في إحدى زنازينه وتمكن من الهروب منه، وروى حكايته في مذكراته: “تاريخ حياتي”.

    ويبدو أن الزمن فعل فعله في البندقية فطال التغيير كثيرا من معالمها، ومنها أن تنهدات السجناء على الجسر اختفت لتحل محلها تأوهات العشاق والمغرمين، سواء منهم الذين يقفون كل مساء على الجسر يتناجون، أو أولئك الذين يستمتعون بالإبحار بالجناديل وتبادل القبل تحته…

 في ضيافة الكرنفال

    كنا برمجنا أن تتزامن زيارتنا للبندقية وكرنفالها السنوي، الذي يعد واحدا من أشهر كرنفالات العالم، ويحظى بشعبية وتقدير كبيرين. والذي نظم هذه السنة ما بين نهاية يناير ومطلع فبراير الماضيين، ووفقًا لصاحب الجندول الذي ركبناه صباحا، يعود كرنفال البندقية هذا إلى انتصار عسكري حققته جمهورية البندقية على مملكة أكويليا في القرن الحادي عشر الميلادي، واحتفاء بهذا الانتصار، خرج الناس، وتجمعوا في ساحة سان ماركو، وشرعوا في الغناء والرقص… ومنذ ذلك الحين، وهو يخلد، فأصبح رسميا في عصر النهضة، وكان وسيلة لحفظ صورة البندقية المرموقة في العالم، وصار مشهورا جدا خلال القرن 18، غير أنه، في عام 1797، حُظر وأصبح استخدام الأقنعة ممنوعا تماما.

    ولم يعد الكرنفال سوى عام 1979، حين قررت الحكومة الإيطالية إحياء تاريخ البندقية وثقافتها، واستخدمت الكرنفال محورا لجهودها. وبدأت عملية تطوير الأقنعة من خلال سعي بعض طلاب جامعات البندقية للنهوض بتجارة السياحة. ومنذ ذلك الحين، يأتي ما يقارب ثلاثة ملايين زائر إلى البندقية كل عام لحضور الكرنفال.

    وشهد كرنفال البندقية، هذا العام، حفلات يومية مُقنَّعة كثيرة، نُظمت خلالها، في ساحة سان ماركو، مسابقات لاختيار أفضل زي وقناع، وتتميز هذه المسابقات بأن المشاركين فيها يجب أن يكونوا مقنًَعين بأقنعة مزركشة تضفي الغموض على هوية أصحابها…

    ومعلوم، أنه لا كرنفال في البندقية، بدون قناع أو زي، إذ هما من الأكسسوارات الأساسية للمشاركة والتجول في الأزقة، خلال هذا الحدث الشهير في جميع أنحاء العالم، وهناك محلات خاصة لشرائهما، وإن كان أغلب المشاركين يصنعونهما بأنفسهم.

    ويعتبر ارتداء القناع تقليدا في كرنفال البندقية لأن إخفاء وجه المشارك بقناع يعني إخفاء طبقته الاجتماعية وجنسه ودينه، وهو ما يسمح له بالتصرف بحرية وتلقائية دون خوف أو وجل… بل إن مسابقة “أجمل قناع” واحدة من أحسن فقرات الكرنفال، وتتشكل لجنة تحكيمها من أشهر مصممي الأزياء العالميين. ويتمتع مصنعو الأقنعة بمكانة خاصة في المجتمع، ولهم نقابة خاصة بهم.

    ومن أشهر الأقنعة هناك قناع “بوتا” وهو قناع تقليدي غريب يغطي الوجه كله، ويتميز بأنه لا يتوفر على فم، ويشتمل على أنف بارز للغاية، وحافة سميكة، و«خط ذقن». وقد تم تصميم ذقن القناع الذي يشبه المنقار لتمكين مرتديه من التحدث والأكل والشرب دون الحاجة إلى خلعه، وبالتالي الحفاظ على سرية هويته، وكثيرا ما يكون مصحوبا برأس أحمر أو أسود وبطين ثلاثي القرون. وكان يرتديه الرجال والنساء.

    أما “كولومبينا” فهو نصف قناع، لا يغطي سوى العينين والأنف والجزء الأعلى من الخدين، ويكون مزيًَنا بالذهب والفضة والكريستال والريش.

    هذا ويعتبر قناع “طبيب الطاعون” من الأقنعة التقليدية لهذا الكرنفال، وهو بمنقاره الطويل واحد من أكثر أقنعة الكرنفال غرابة وتميزا، على الرغم من أنه لم يظهر في البدء كقناع كرنفال، بل كوسيلة لمنع انتشار المرض، وغالبا ما يكون هذا القناع أبيض اللون، ويتكون من منقار مجوف وفتحات عيون مستديرة مغطاة بأقراص كريستالية. ويعد استخدامه كقناع كرنفال تقليدا حديثا، وغالبا ما تكون هذه الأقنعة اليوم أكثر زخرفة.

    وخلال الكرنفال، لاحظنا أن البندقية تعيش أجواء مختلفة، أجواء من الاحتفال والفرح، فتكتظ الساحات والشوارع والأزقة والدروب بالناس، محليين وسياحا، يرتدي أغلبهم أزياء تنكرية مختلفة… كما تضاء القنوات المائية، ليلا، بأضواء سحرية. وخلاله أيضا يعيد البنادقة وضيوفهم عيش التقاليد القديمة، جنبا إلى جنب، مع حداثة مدينة يتجاوز عمرها 1600 عام، ومازالت تتطلع إلى المستقبل. والجميل هو أن أصحاب الأقنعة يستجيبون لطلبات من يريدون التقاط صور معهم للذكرى…

    وطيلة أيام الكرنفال، كانت الأفواج تتقاطر على المدينة، وكان السياح يتدافعون في الشوارع والدروب والأزقة الضيّقة كما يوم الحشر… لذلك، كنت وابنتي نتحاشى الأماكن المزدحمة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا…

    هذا، والملاحظ هو أن الطعام والشراب مكلفان للغاية بهذه المدينة، سيما بالمركز التاريخي للمدينة وقرب المعالم السياحية، لذلك، كنا نبتعد عنها، لنشتري ما نحتاجه بأسعار معقولة. وكنا كلما تعبنا من المشي، جلسنا في مقهى، نتناول مشروبا… والجميل في كل هذا، أن المرء يشعر بالأمان في هذه المدينة كما في عموم المدن السياحية الإيطالية…

 “كازانوفا” زير نساء يُخيب توقعاتنا

    ونحن نتسكع في المركز التاريخي للبندقية، مساء يوم وصولنا إليها، اكتشفنا “متحف كازانوفا”، فأثار فضولنا، وقررنا زيارته، وبرمجناه في آخر أيام إقامتنا بالبندقية، سيما أننا لم نكن نتوقع منه الشيء الكثير، غير أنه خيب توقعنا.

    والمعروف عن “كازانوفا” أنه أحد أبناء البندقية المشاهير، مثله في ذلك مثل ماركو بولو، وأنطونيو فيفالدي وجوسيبي مارشيللو…

    وما كنا نعرفه عن كازانوفا هو أنه زير نساء، اشتهر بمغامراته النسائية… غير أن زيارتنا لمتحفه جعلتنا نعرف أنه كان متعدد المواهب، تقلب في مهن شتى، إذ كان عازف كمان وشاعرا وفيلسوفا ودبلوماسيا يتردد على النبلاء في عصره، ومع ذلك، لم يستطع التعلق بأي من العلوم أو المهن لأنه لم يكن قادرا على الثبات والاستقرار، سيما أن روح المغامرة كانت غالبة عليه، تجعله دوما يتوق إلى التجريب وممارسة الجديد، ورأى أن العلاقات النسائية المتعددة والمتجددة وحدها قادرة على إرواء نهمه…

    علمنا أيضا أن كازانوفا ألَّف كثيرا من الكتب والمسرحيات، ومن أشهرها مذكراته التي كتبها بالفرنسية تحت عنوان: “تاريخ حياتي” والتي تقع في 4665 صفحة، يحكي فيها عن حياته ومغامراته الغرامية مع مئات النساء!

    يقع المتحف في قصر من القرن الرابع عشر، ويعرض مجموعة من الكتب والأدوات الشخصية التي كان “كازانوفا” يستخدمها. وهو متحف ممتع للغاية، على الرغم من موقعه غير الإستراتيجي، وبعده عن مركز المدينة.

    بدأت جولتنا في هذا المتحف باستقبالنا من طرف مستخدمات لطيفات، يرتدين أزياء من القرن 18، قدمن لنا نظارات إلكترونية، وضعناها على أعيننا فحملتنا إلى عالم افتراضي عشنا فيه مغامرات كازانوفا، واستعرضت أمامنا مآثره… ولأن كازانوفا لم يكن رسّاما أو فنانا يمكن أن نتمتع اليوم بلوحاته أو بأعماله الفنية، فقد تم استعراض حياته باعتبارها كانت تحفة فنية، لا بد لنا كزوار أن نتقمّص شخصيته لنتمتع بها.

    يضمّ المتحف ست (6) قاعات ومكتبة تحوي أفلاماً وثائقية عن حياته وأسفاره، إضافة إلى بعض الملابس والأزياء التي كان يرتديها ولوحات لكاناليتّو رسّام البندقية الأشهر. ويقدّم المتحف لزواره تطبيقا يُحمّل على الهاتف، ويدلّ على الأماكن التي كانت أثيرة لديه في المدينة، مثل مقهى «فلوريان» الشهير الذي كان يلتقي فيه عشيقاته، وما زال قائماً إلى اليوم بكل بهائه وفخامته، وهو المقهى الذي يتردد عليه كثير من المشاهير خلال زيارتهم للمدينة.

    للإشارة، فهذا المتحف هو الأول من نوعه، لكنه لن يكون الأخير، فقد علمنا أنه تقرر افتتاح متحف آخر مماثل بمدينة براغ التشيكية التي توفّي كازانوفا على مقربة منها، حيث كان يشرف على إدارة مكتبة أحد النبلاء بعد أن خرج من دائرة الشهرة، وتدهورت أحواله. كما سينظّم معرض عنه يجول المدن التي عاش وغامر فيها، من سان بطرسبرغ إلى باريس ولندن، وبرشلونة التي سجن فيها على يد محاكم التفتيش، ثم طرد منها.
    وعلاقة بموضوع السجن، يُحكى أنه، في سن الثلاثين، اعتقلته محكمة البندقية بسبب ما أسمته “اعتداءاته العلنية على الدين المقدس”، وحكمت عليه بالسجن خمس سنوات، وتضمنت عقوبته الإقامة في سجن رهيب، ولأنه كان يتوق إلى الحرية بقدر ما يتوق إلى حياة الرفاهية والنساء، فإن فكرة الهروب من السجن لم تفارقه لحظة، إذ بدأ يخطط للفرار، واستطاع الحصول على أداة استغلها في الحفر، وبعد عدة محاولات، نجح في ذلك، بعد أن ترك رسالة في زنزانته، قال فيها: «بما أنكم جميعًا لم تطلبوا إذني لإلقائي في السجن، فأنا لن أطلب إذنكم للخروج منه”.

 بعيدا عن الازدحام

    الجميل في زيارة هذا المتحف الصغير هو أنها تمت بعيدًا عن الزحام، شعرنا، خلالها، وكأننا نعيش في عصر “كازانوفا”، خاصة مع تجربة 3D، لذلك، فقد غادرناه بعد أن استمتعنا بالتجربة، شغوفين بمواصلة البحث في سيرة “كازانوفا” وتفاصيل مغامراته، للتعرف على رجل ملأ الدنيا وشغل الناس، اهتمت به هوليوود غير أنها تناولته باعتباره زير نساء فقط، متجاهلة باقي وجوهه المتعددة.

    للإشارة، فإن مدينة البندقية التي هي مسقط رأس “كازانوفا”، والتي ترعرع فيها، لم توله أي اهتمام، باستثناء لوحة رخامية صغيرة تحمل اسمه، غالبا ما يتجمع السيّاح تحتها لالتقاط الصور التذكارية، أما المتحف ففي ملكية أحد الخواص، وعزا بعض العارفين هذا التجاهل إلى أن أهل البندقية بالكاد يعرفون قصة هذا المغامر، ويعرفون من حياته فقط الجانب المنحرف منها، سيما أنه لم يكتف بمغامراته النسائية، بل اعترف في مذكراته أنه كان يغتصب الأطفال أيضا… وعزت إحدى الباحثات “انحرافه” هذا إلى “افتقاره لحنان أمه التي هجرته صغيراً فكان لهجرانها له الأثر الأكبر في سلوكه!”

 مغارة “علي بابا” المائية

    نظرا لأن مدينة البندقية غالبا ما تستسلم للفيضانات والأمطار الغزيرة التي تغمرها وتقتحم مبانيها، فقد كان يُعْتقد أنه من المستحيل بناء مكتبة والمحافظة على محتوياتها، إلا أن مكتبة “أكوا ألتا” كسرت هذه القاعدة! فأصبحت إحدى عجائب البندقية، وهي تقع على بعد خطوات قليلة من ساحة سان ماركو، ويترجم اسمها إلى اللغة العربية بمكتبة “المياه المرتفعة”، ويعود ذلك إلى أنها كثيرا ما تغرق في مياه قنوات البندقية الشهيرة، حيث يغمرها المد البحري الذي يحصل في المنطقة، سيما أنها تطل مباشرة على واحدة من هذه القنوات!

     لفت انتباهي لهذه المكتبة أمران أساسيان هما: تصميمها الغريب وطريقتها الفريدة في تخزين الكتب وعرضها. فهي تحتوي على عديد من الخرائط والمجلات والكتب القديمة المُستعملة والجديدة، بلغات عدة، أبرزها الإيطالية والإنجليزية والفرنسية…

     من جهة ثانية، تتضمّن هذه المكتبة الفريدة كثيرا من الرّسومات والبطاقات البريديّة والهدايا التّذكاريّة التي تعكس روح هذه المكتبة الإيطاليّة.

    والكُتُب هنا غير مُرتّبة كما هو الحال في سائر المكتبات العادية، بل إن أصحابها يخزنونها هنا في سُفن صغيرة وأحواض استحمام قديمة وبراميل، وأيضا في جندول طويل شبيه بتلك الجناديل التي تتجول في مياه البندقيّة، أما باقي الكتب فتخزَّن في غُرف برفوف عالية تملأ الجُدران بأكملِها! بينما كُوّمت كتب أخرى على الأرض بطريقة تحفز الزائر على تصفحها، كما توجد فيها سلالم مبنية بالكامل بالكتب، وهذا ما يجعل منها مكانا مفاجئا غير نمطي!

    وإضافة إلى شراء الكُتب والهدايا والبطاقات البريديّة المعروضة، تُغْدق هذه المكتبة المُختلفة على زائريها مشاهدَ ومناظِرَ فنية غاية في الروعة.

    اكتشفتُ وابنتي ندى هذه المكتبة بالصدفة، وكنَّا تائهين نتسكع في أزقة البندقية القديمة، فدخلناها، وسرنا في ممرّ “مخرج الطّوارئ” فوجدنا أنفسنا نطل مباشرة على إحدى قنوات البندقيّة المائيّة. جلست على كرسي مُريح قريب من المياه أتصفح كتاب “تاريخ حياتي” لكازانوفا، عثرت عليه صدفة في هذه المكتبة، وهو من ترجمة “محمد فائز كم نقش”، كما التقطت صورًا تخلد ذكرى عبوري لهذه المكتبة المدهشة، بل تسلقت درج كتب شهير، وعبره تمكَّنت من الإطلال على هذه المدينة العائمة!

    أثار انتباهنا في هذه المكتبة أيضا أن عددا من القطط اتخذت منها مستقرا لها، تحتمي فيها من الفيضانات المُتَكرّرة، فأضفت عليها لمسة فنية أخرى، داعبت إحداها وكانت نائمة فوق كومة من الكتب تستنشق رائحتها.

   ورغْم الاكتظاظِ والفوضى، تحظى هذه المكتبة بشعبية وشهرة واسعتين في إيطاليا وخارجها، لذلك، يقدم إليها السياح لاستكشاف غموضها وبهائها والبحث عن الكتب النادرة حول تاريخ البندقية وشعبها، أو كتب أخرى يزخر بها المكان في السينما والفنون والرياضة والسياسة وغيرها…

    أثارنا أيضا في هذه المكتبة أن بعض زوارها، إن لم أقل غالبيتهم، لا علاقة لهم بالكتب، يهمهم فقط التقاط السيلفيات وصور الكتب والقطط ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي! لذلك، فإن الاستمتاع بزيارة مغارة علي بابا هذه، وتصفح ما تزخر به من كنوز/كتب في هدوء وطمأنينة، يقتضي تجنب زيارتها في ساعات الذروة، والذهاب إليها مبكرا قبل تهافت المتطفلين وضوضائهم…

    وسواء عند الدخول أو الخروج، لاحظنا في فناء المكتبة صندوقا لجمع التبرعات للقيام بشؤون القطط…

 أمل…

    انتهت زيارتنا للبندقية فغادرناها على أمل العودة إليها في فرصة قادمة لاستكمال الاستمتاع بفرادة هذه المدينة وسحرها، وزيارة ما لم يتسع له برنامجنا هذه المرة…

Visited 125 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

علي بنساعود

كاتب مغربي